الإشاعة بضاعة لقيطة..ومقيتة

محمد بادرة

لاحظ علماء النفس أن الإشاعة تعد من بين إحدى الأدوات الرئيسية في التضليل الإعلامي بل ومن أهمها في استهداف او التلاعب بعقول الناس وتوجيه الرأي العام. وتنمو الإشاعة وتتكاثر خصوصا في الظروف التي تسود فيها الاضطرابات والحروب والصراعات ولهذا تعد إحدى أدوات الحرب الحديثة أو ما يسمى ب(الجيل الرابع) من الحروب، إذ انه بعد الحرب العالمية الثانية اشتدت الإشاعات والحروب النفسية على الدول والشعوب والجماعات حتى أصبحت الإشاعة وسيلة هامة من وسائل الحرب النفسية يلجا مستعملوها إلى زعزعة نفسية الشعوب المقهورة عن طريق زرع الشك في معتقداتها ونظامها السياسي والاقتصادي والأمني واستهداف نخبها الثقافية والدينية والسياسية حتى يستطيعون بفعل التأثير النفسي والسيكولوجي للإشاعة من زعزعة الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والقدرة على إنتاج وعي زائف لا يقدر إن يستوعب الشروط الفعلية للحياة القائمة وعندئذ لن تستطيع الأمة أو القوة الحية في البلد على اتخاذ قرارات أو تدابير سياسية واجتماعية بديلة.
إن الإشاعات تثير الهلع وتحدث الخوف في نفوس أفراد المجتمع، الخوف على حياتهم وممتلكاتهم وأوطانهم وهم يفتحون أذانهم لالتقاط الإشاعات التي قد يطلقها أناس أبرياء أو جماعة من العملاء والمخربين والخونة.
الإشاعة في وسطنا الاجتماعي تقوم بوظيفة مزدوجة فهي من ناحية تفسر التوترات الانفعالية التي يستشعرها الافراد ومن ناحية أخرى تنفس عنها. ومعلوم أن التنفيس يسبب تراخي التوتر ويقوده إلى الشعور بالراحة ولو كان في لباس من التضليل والشائعات الكاذبة. وتقوم العديد من البحوث النفسية الحديثة على مسلمة مؤداها أن «السلوك معرفي المنشأ» أي أن الفرد يتصرف في ضوء المعلومات المتاحة له ولو كانت إشاعات أو شائعات كاذبة، وحين «يبتلع» الفرد هذه الشائعات الكاذبة فانه يسهل التحكم في سلوكه وأفكاره وانفعالاته عبر التحكم في المعلومات/الإشاعات التي تعرض عليه، ولذا يلعب الإعلام المعاصر –رضينا أم أبينا- دورا أساسيا في المجتمع كوسيلة لجعل سلوك الأفراد سلوكا مرغوبا فيه اجتماعيا عن طريق التحكم في نشر المعلومة الإعلامية أو الإخبارية حقيقية كانت أم إشاعة. ويكشف (شيللر) أساليب هيئات الإعلام ووسائل التواصل المعاصرة في السيطرة على الآخرين وتضليلهم من خلال السيطرة على عملية تداول المعلومات خدمة لأهداف خاصة او لأجل الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية.
لا يختلف اثنان أن للإعلام ووسائل التواصل الحديثة آثارا ايجابية على الفرد والمجتمع لأنها وسائل وضعت أصلا لجعل سلوك الأفراد سلوكا مرغوبا فيه اجتماعيا، ولعل من أهم الوظائف التي تقوم بها أنها تكسب الأفراد الخبرات سواء ثم نقلها عبر المجتمعات المختلفة او ثم نقلها عبر أجيال المجتمع الواحد، وهذه الخبرات ضرورية لتنمية قدرات الأفراد ومهارتهم في التفكير والتدبير إلا أنه مع عصر الثورة الرقمية أصبح كل فرد يبث ما يبث من إشاعات وأخبار زائفة وفقا لقناعاته ورؤيته ومن دون التحقق من مصادر المعلومة حتى أصبحت الإشاعة عالمية عبر وسائل الاتصال الكونية، وهي الآن في خدمة الإشاعة أكثر من خدمة الحقيقة بل وصف اللغوي الأمريكي والسياسي العتيد امبرتو ايكو هؤلاء الفرسان الجدد للإشاعة المعولمة بمجموعة المعتوهين الذين نقلوا دردشاتهم من الحانات إلى الفضاء الأزرق .
لقد باتت وسائل التواصل الحديثة والمواقع الالكترونية إحدى الأدوات والقنوات التي يتم استخدامها بشكل سلبي في نشر الشائعات والأضاليل الكاذبة بدليل أن معدلات نشر الشائعات تتناسب طرديا مع التقدم في تكنولوجيا الاتصال وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ويلجأ مستخدمو المواقع الالكترونية إلى التخفي واستعمال هويات غير حقيقية في نشر الشائعات والأخبار الزائفة حتى تجد لها رواجا في سوق التداول الإعلامي والمعلوماتي وخاصة إذا ما تم الأخذ في عين الاعتبار أن سيكولوجية الشائعات تزيح الفوارق الثقافية بين المتلقين عند تداول الشائعة وانتشارها بل الخطير أن الشائعات تنتشر بسهولة ليس لتكاثر مستخدمي المواقع الالكترونية فقط وإنما لأن الأحداث والتطورات المتصاعدة التي يشهدها العالم من حولنا تجعل من الأكاذيب بيئة خصبة للنمو والتكاثر .. فمن الشائعات من توظف لقتل الآخر (القتل الرمزي) ومنها من توظف لتصفية الحسابات السياسية والثقافية ومنها من تستعمل للدعاية والإشهار أو التشهير والفضح..والإشاعة إشاعات منها ما يصنع في «مختبرات» المخابرات أو في مختبرات الأدوية أو في دواليب ومكاتب الشركات والمؤسسات العملاقة..
-إشاعة امتلاك العراق للأسلحة الكيماوية والنووية أعطى لحلفاء الولايات المتحدة مبرر الحرب ضدها.
-نشر معلومات مضللة عن أوضاع حقوق الإنسان والحريات العامة وإيصالها إلى المنظمات الدولية يعطي للغرب مبررات فرض الحصار الاقتصادي والمالي على الكيانات والدول التي لا تدور في فلكها.
إن العالم شهد ويشهد تغيرات واسعة وحراكا سياسيا واجتماعيا مزلزلا أدى إلى سقوط الكثير من الأنظمة السياسية للحكم(تونس- مصر- ليبيا- اليمن-..)بفعل وجود تدخل خارجي عبر الوسائط الإعلامية من جهة وتزايد الاختراق المرن للأمن الداخلي من جهة ثانية. وعليه فالأنظمة السياسية الحالية تعرف مدى أهمية تكنولوجيات الاتصال والإعلام الاجتماعي بطابعه الشبكي الذي أصبح يشكل نمطا جديدا من أشكال التنظيم الجماعي لأنه يساهم في تشكيل فضاء يمارس من خلاله كل الأفراد أشكال النقد الموجه ضد الآخر او ضد كل أشكال السلطة ولكن يبقى لعلاقة الفضاء الالكتروني بالأجندات السياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية للحكومات والشركات المتعددة الجنسيات خطرا محدقا على امن الدول المستقرة.
يقال إنه كلما انتشرت الشائعات في مجتمع ما زاد معدل الجهل والسطحية فيه لأننا أمام كثلة بشرية عريضة ومستخدمين كثر لهذه الوسائل وكلهم غير متجانسين أو متباينين من حيث المصالح والاهتمامات والقدرات يتعاملون مع وسائل الإعلام بروتينية شديدة وتتدنى قدرات الكثير منهم عن الدخول في علاقة اتصالية متكافئة مع هذه الوسائل حتى تتيح لهم القدرة على التقييم والنقد والحكم على مصداقية أو عدم مصداقية ما يذاع أو ينشر عبر هذه الوسائل.
– لقد أشيع في ما سبق أن فيروس كورونا صنع في إحدى المختبرات في الصين ونقلت الجرثومة إلى كل بلدان العالم لأجل التحكم في سكان الأرض. وجاءت إشاعة مغايرة لتروج إشاعة كاذبة أن هذا الفيروس غير موجود اصلا وان السبب الحقيقي للتهويل الإعلامي والتخويف من المرض هو منع الهجرة أو وضع نظام مراقبة جماعية على نطاق واسع لتستمر بعد ذلك الإشاعات تلو الإشاعات عن الفيروس وعن دوافع صنعه وانتشاره.
وعرفت الإشاعة في المغرب انتشارا وذيوعا لا حدود له ومنها الإعلانات المجهولة المصدر المنتشرة كالنار في الهشيم وفي وقت قياسي على صفحات وجدران شبكات التواصل الاجتماعي في سنة 1918 حيث كانت العديد من الإعلانات تدعو إلى مقاطعة عدد من المنتجات الاستهلاكية الأساسية ( الحليب- الماء المعدني –شركة متخصصة في بيع البنزين..) لدوافع وأسباب متعددة مما اثر سلبا على العديد من الشركات الوطنية والأجنبية (الفرنسية خصوصا) وعلى أشخاص نافدين في الحكومة.
إشاعة أخبار عن الزيادة في فواتير الماء والكهرباء وتضمين رسوم إضافية (55درهما) موجهة إلى دعم القنوات العمومية وكذا الزيادة في ثمن شراء قنينة غاز الطبخ والدقيق والزيت والسكر.
إشاعة أخبار زائفة عن قرب تعديل حكومي أو عن غضبة ملكية ضد هذا الوزير أو هذا المسؤول السامي …وتتزايد حدة هذه الإشاعات مع فترات خاصة تسبق الاستحقاقات الانتخابية أو تتزامن مع الدخول الاجتماعي والسياسي في شهري شتنبر وأكتوبر من كل سنة أو خلال فترات اجتماعية(عيد العمال) أو برلمانية ( المصادقة على الميزانية السنوية) ويلعب فيها الإعلام دورا حاسما.
يرى العديد من المتتبعين للشأن للسياسي الوطني أن الإشاعة (بدأت تأخذ في السنوات الأخيرة في المغرب طابع الخبر الزائف الذي يروم التضليل الإعلامي أو «تحريف» النقاش نحو قضايا هامشية لا تعني الرأي العام ) كانتشار أخبار زائفة أو تافهة لتغطي على أخبار الاحتجاجات أو الإضرابات أو الاعتصامات في العديد من المناطق بسبب الغلاء أو نقص في الخدمات الصحية والاجتماعية. وان هشاشة المجتمع تسمح بتداول الإشاعة.
ولأجل محاربة هذه الظاهرة اللقيطة دخل قانون محاربة الإشاعة ونشر الأخبار الزائفة منذ2018 يعرض صاحبه للمساءلة القانونية والمتابعة القضائية لكن مع ذلك تضل مشكلة الحريات السياسية مؤشر أساسي من مؤشرات المواطنة الحقيقية وتواجد أدوات الردع القانوني هو مؤشر أساسي كذلك لتحقيق سيادة الدولة ويبقى الخلاف الأهم بين ما تراه السلطات العليا للدولة من صالح المواطنين وبين ما يراه المواطنون من حريات وحقوق ليس للدولة الحق في التدخل بها والدولة يكمن دورها في الدفاع عن أمنها الوطني ضد الدعايات المغرضة ومحاولة زعزعة الاستقرار الداخلي للبلاد عبر شبكات الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي والعالم السبيراني.
إن الإشاعة غالبا ما يتم ربطها في سياق حدث ما فتخترق المشهد الإعلامي للتلاعب بالعقول أو تضليل الرأي العام أو تطويع مجموعة من الأفراد أو الجماعات أو المجتمع قصد تحقيق أهداف خاصة تخدم مصالح «الجهة» التي أطلقت الإشاعة.
الإشاعة إذن لا تقوم على مصداقية المصدر ولا مصداقية الرسالة الإعلامية، إنها مجرد بضاعة لقيطة ..ومقيتة.

الكاتب : محمد بادرة - بتاريخ : 01/09/2023

التعليقات مغلقة.