أُنطولوجيا الجسد (20) ..فلسفة الجسد 3/1

 

لعل نظرة الانسان للجسد هي الأهم في حياته مقارنة لنظرته لأمور معيشية أخرى بل إن فلسفته تجاه جسده قد تكون المفتاح الأهم لعلاقته بالفلسفات تجاه أمور الدنيا الأخرى.
وحتى يضمن الفرد فلسفة راسخة عن جسده يجب عليه أن يكون على دراية بعمل وتركيبة وآفاق هذا الجسد، ولكن كل ذلك غير متوفر للإنسان … فمن منا رأى أمعاءه ومن منا يعرف كيف تبدو شرايين قلبه ناهيك عن عمل دماغه، وصل الإنسان بفضل دماغه أن يعرف الكثير عن العلوم الطبيعية والرياضية والفيزيائية والفلكية حتى أنه استطاع أن يهبط على القمر.
لكن هذا الدماغ الذي اكتشف القمر واخترع إمكانية النزول عليه لم يكن هو نفسه يعرف نفسه، وكيف للإنسان العاقل الذي وجد على الأرض قبل حوالي مائة وستون الف عام أن لا تصل إليه بعض من المعرفة الفسيولوجية عن جسده إلا قبل 300 عام وتفهمه لأسلوب نشاط مخه إلا في العشرين سنة الماضية؟
إذا ما كانت المعلومة العلمية عن الجسد بهذه الضحالة على امتداد التاريخ الإنساني فعن ماذا وكيف للفلاسفة أن يكتبوا عنه لمدة أكثر من ألفيتين.
الحقيقة وفي رأيي الخاص أن كلا من الفلاسفة والمتدينيين قد تبجحوا كثيراً في ادعاءاتهم بمعرفة الإنسان. ولذلك ومن هذا المنطلق سنتحدث عن الفلسفة بأفواه الفلاسفة على امتداد التاريخ ومن ثم ننتقل إلى النظر للنتائج العلمية الحديثة بالنسبة لاكتشاف الجسم ومن ثم الدماغ.
الجسد عند الفلاسفة

بغض النظر عن «ديمقراطيس» الذي تحدث عن أن الجسد هو مجموع ذرات وهو الأقرب للواقع المادي الذي وصلنا الى معرفته اليوم إلا أن الجدل الفلسفي الحقيقي بدأ مع «سقراط» وكان واضحاً جداً في محاورات «أفلاطون» و»فيدون» فهو يقول أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على جزأين هما الجسد والنفس.
وإن الجسد انساني بينما النفس أكثر ما تكون شبيهاً للألهي! ورغم أنه شبه النفس باللألهي فقد قال أنها يمكن أن تتلوث هي نفسها بالجسد الذي سكنته وأنها يمكن أن تصبح مفتونة بالرغبات واللذات وعندها ستعاقب بأن تبقى تدور في القبور والأضرحة عقاباً لها.
حيث أن كل من الجسم والنفس له وجوده الخاص بالنسبة لسقراط: الجسد هو مكان سكن النفس وإن كان لأفلاطون ذات المفهوم إلا أن أفلاطون بدل طبيعة الجسد فحوله من سكن إلى قبر.
ثم يبالغ أفلاطون بوصف التناقض بين الجسم والنفس، ليشبه ذلك بالعربة المجنحة ذات الحصانين. ثم يغالي في ذم الجسد فيقول:
«وحيث أن الجسد قبر للنفس فالحياة إذن موت للنفس لذلك يجب أن تبحث عن الحياة الحقيقية عن طريق الموت».
لا يوافق آرسطو أستاذه افلاطون فبالنسبة له فإن النفس ليست عالية لتحل عشوائياً في أي جسم كان بل إنها كمال أول للجسم وهي لا يمكن أن تنفصل عن الجسم ذاته.
إن «آرسطو» يقترب من علم اليوم حين يقول أن النفس هي فعل بالنسبة لمادة هي الجسم.
عند القاء نظرة عامة على التاريخ الفلسفي للجسم والنفس فاننا نلاحظ ان كفة الجسد ترجح شيئاً فشيئاً مقابل النفس او بعبارة أصح ان الفهم المادي للعلاقة الجسمية النفسية يزداد رسوخاً مقارنة بالفهم الغيبي لها.
الجسد في المسيحية والإسلام

وهنا أجد ضرورة أن ألقي في هذا السياق التاريخي بعض الضوء على القناعة الدينية وخصوصاً لدى المسيحية والاسلام عن كل من الجسد والنفس وخصوصاً اننا بدأنا بسقراط الذي كان متأثراً بالفكر الفيثاغوري الاقرب الى الديانة.
لا شك أن كل من الديانتين يقتربان من المفهوم الثنائي للنفس والجسد.
في المسيحية الجسد آثم ومذنب فحتى العلاقة الجنسية الزوجية يجب ألا تحدث في المسيحية إلا بهدف الإنجاب، ليس هذا فقط فالقديس «أوغوستين» ينادي بجنسية دون انفعال ودون متعة. و»كليمن الاسكندراني» يدعو إلى أن يمتنع المرء عن الرغبة والوصايا العشر لا تشجب الزنا فقط بل تمنع الاشتهاء «لا تشتهي امرأة جارك»، في حين ان الإسلام لا ينكر حق الجسد «ولجسدك عليك حق»، فالإسلام لا يمنع المتعة وإنما يطالب بتنظيمها دينياً.
لم تتأثرالفلسفة الأوروبية بالنظرة الإسلامية للجسد وبقيت تتبع أقوال أغسطين الذي كان يحاول بمسيحيته التصدي للدائرة الفسيولوجية في قمة ضغطها العالي أي في قمة رغبتها وهي بمثابة أكبر تصعيد ديني في مواجهة عصبوية الجسد.
عند ديكارت

واصل «ديكارت» نفس الأفكار الأفلاطونية بمعنى أن النفس والجسم هما جوهران متمايزان وظيفتهما الأساسيتان هما الفكر والامتداد وتحظى النفس بمزية تزويد الوجود الإنساني أما الجسم فإنه يختزل إلى مادية امتداده.
«يُؤلِّل» ديكارت الجسد (اي يعمله آلة) فيعتبر الوظائف الجسمية مثل (الهضم، والتحرك، والتنفس) أنها تنجم عن آلية تنبع من إرادة الله التي جعلها الله ذاتية الحركة وشبهها بحركة الساعة.
بفكره الميتافيزيقي يميز بين النفس والجسم وبنفس الوقت يؤكد على اتحادهما ولكن كيف للنفس والجسم اللذان هما جوهران متمايزان … أن يتبادلا التأثير وأن يكونا مرتبطين بدقة ويؤثر أحدهما على الآخر. الغريب أن يعترف «ديكارت» برسالة موجهة إلى الأميرة إليزابيث بصعوبة تصور هذا الاتحاد.
بعد تطور ممارسات التشريح الجسدي والتي حضر ديكارت بنفسه إحدى الجلسات تراجع بعدها قليلاً عن موقفه ليقول أن النفس لا تتحد مع مادة الجسم بل تتحد بوظائفه، وإذ به فجأة يصدر فتوى خطيرة في علم الأعصاب حيث يقرر أن النفس تمارس وظائفها عبر الغدة الصنوبرية في المخ!! لماذا اختار هذه الغدة بالذات؟ وبدون تجارب أو أي إشارة بيولوجية! لا أدري!!
تدرب ديكارت في التأمل الثالث على ممارسة التفكير الخالص والتخلص بأسرع ما يمكن من عينيه وأذنيه ومن الجسم بكامله فيقول (سأغمض عيني وسأصم أذني وسأصرف كل حواسي فأنا شيء يفكر) .. ولو أطعنا ديكارت لظهر لدينا كثيرون مثل «جيني» الطفلة الأمريكية البائسة التي تم عزلها 12 سنة بعد الولادة في غرفة منفردة دون أن تستمع إلى أي خطاب بشري، فكانت النتيجة فقدانها القدرة على الكلام ليس ذلك فقط بل وفشل كل الجهود لإعادة تعليمها وذلك لأن شبكة الأعصاب تتوقف عن النمو إذا لم تحرض هذه الاعصاب (بصرية ام سمعية ام جلديه ام كلامية) من قبل المحيط الخارجي.
فمقولة الكوجيتو الديكارتية بقيت قضية أكثر من خلافية فـ «فرويد» يجيب أنه لا يفكر أثناء النوم بل يحلم، و»جاك لاكان» المحلل النفسي الفرنسي يجيب مؤيدي ديكارت فيقول: (حيث أن الوعي لا يشكل إلا قطرة من اللاوعي فأنا أفكر حيث لا أوجد وأوجد حيث لا أفكر وأنا لا أوجد حيث أكون لعبة تفكيري بل إنني أوجد حيث أكون لعبة في يدي لاشعوري).
رغم أن «سبينوزا» بقي يفكر مثل ديكارت بأن الإنسان يتكون من جسم ونفس إلا أنه لم يجعل من الجسم والنفس جوهرين مختلفين وإنما وضعهما كصفتين في جوهر واحد.
أي أنهما تعبيران متمايزان لجوهر واحد فكل ما يجري في الاول يكون له ما يماثله في الآخر أي أن كل ما يحصل في الجسم له ما يطابقه في النفس – حالة مادية ما في المعدة على سبيل المثال يعبر عنها في الفكر بشعور الجوع.
الطب الحديث

إذا ما عدنا إلى الطب الحديث وراقبنا الرنين المغناطيسي الوظيفي الذي يبين عمل الدماغ في نفس لحظة الفحص التي نجريها فإننا نراقب –كمثال نشاط المركز البصري حين يرى الشخص الذي يخضع للفحص شيئاً ما ونراقب في نفس اللحظة ردود فعل هذا المركز وإشاراته المتعددة تجاه المراكز الهامة الأخرى في المخ، مثلاً إلى القشرة الرمادية في المخ المسؤولة عن الحركة إذا كان ما رآه يحتاج إلى الهروب ثم إشارات أخرى إلى المركز السمعي إذا ما رافقت الرؤية أصوات معينة ليستفسر عن معناها من ذلك المركز، وثالثة لقسم الذاكرة ليحصل على معلومات إضافية لذلك الشيء إذا كان محفوظاً في ذاكرته وهلم جرا.
من هذه الفحوصات البحثية تستطيع ان تتصور أن المخ عبارة عن مراكز متعددة جداً ولكل مركز وظيفته الخاصة، ولكل مركز أيضاً أسلاكه التوصيلية الخاصة ومواده الكيميائية الخاصة. هذه المراقبة لا تتناسب مع فرضية «كانط» بالعقل القَبْلي بل توحي لك مباشرة وتعيدك إلى «جون لوك» في مناداته بنظرية الصفحة البيضاء للعقل الإنساني والمتأثر من قبله بـ «آرسطو» و«الإكويني» و«بيكون» حيث يعمل العقل طوال وقته على تعبئة هذه الصفحة كما رأينا في موجات الرنين المغناطيسي.


الكاتب : د. ماهر الصراف

  

بتاريخ : 02/08/2021