في « عطفا على خصر الكمان» للشاعر بوعلام دخيسي في صروح الكمان

يغلب ظني ، أن الشعر يمار تخلقه الأدبي والجمالي محاذاة مع العالم ، في تجاذب دائم . كلاهما يسعى بترساناته وحواشيه إلى امتصاص الآخر . فالشعر اختار المعنى والتجدد ، استنادا على أدوات وآليات ، تعيد بناء اللغة ، بعين ثالثة، وأفق احتمالي غني بالحلم و الفضاءات غير المتصالحة مع النمط بأشكاله المختلفة ، في حين العالم يرزح تحت سلطة القرار وسلط المألوف . حضرتني هذه الفكرة بقوة ، وأنا أقرأ الإصدار الشعري الأخير للشاعر بوعلام دخيسي المعنون ب “ عطفا على خصر الكمان “ ، ديوان يتخلق على مقربة من اليومي ، من خلال ذات تشعرن كل شيء ، في ممرات حياتها ووجودها ، فتصيبه بما في الحواس والنظر من حرائق واشتعالات تبث الدبيب في الأشياء المتصلبة والميتة ، بفعل سطوة العالم و الأنساق المغلقة . لهذا ، فحالات الذات في النصوص ، متشابكة بالمحيط ، والأمة ، بل والحياة الإنسانية .
وفق هذا الاعتبار ، فالنصوص الشعرية في هذه المجموعة ، لا تصور وقائع تخيييلية محضة ، بل تنطرح كأسفار للأنا الشعري ، على ضوء الذاكرة وسؤال الواقع ،وأيضا سؤال الوجود . نقرأ في المجموعة قيد النظر، من نص شعري بعنوان “ لست ككل الشعراء “ :
هل لي أن أستغفر قلبك سيدتي ؟
هل لي أن أحمل شعري
و أنا أدخل محرابك ؟
كان وما زال الشعر عصاي
إذا قصرت ساقي
كان الصاحب في الرحلة
كان الزاد
وكانت تخلقه في الحب ،
متى سافرت أشواقي
الذات بهذه الصورة ترزح تحت كلكل تاريخ مليىء بالانكسارت والاحباطات . فحضرت نغمة الفقد والحنين ، يكون معها الشعر مخزن مرتعش للجراح والأحلام ، للرغبات الصغيرة التي تجعل الذات كدائرة تتسع رؤيويا ، وتضيق كقطرة عالقة ببال السقوط . هكذا تأتي القصيدة دفقة شعورية طاوية دوما على مفارقة أو مفارقات حياتية وواقعية ، سرعان ما تتحول إلى مفارقات وجود ، تستحضر سؤال الإنسان والمصير والشعر نفسه .
إحساس الشاعر بهذا المعنى في الحياة والوجود ، امتد للغة وتجلياتها الجمالية، انطلاقا من قلب الترابط المألوف لمفردات الحياة لتغدو معادلات شعرية ، في تبئير للكثير من الكلمات التي تحولت إلى كائنات شعرية . وحين تدخل هذه الكلمات في علاقات تركيبية وشعرية جديدة ، تبدو الصفات قريبة المأخذ ، ولكنها عميقة الدلالة كسهام نافذة تثير الأسئلة . لهذا ، فنصوص المجموعة يمكن نعتها بالسهل الممتنع ـ الممتع . فليس بالضرورة مثلا ما نلاحظ اليوم أن تكون النصوص مغلقة وموغلة في غموض بلا سند ، لكي تنتسب للشعر . لأن هذا الأخير أوسع مما يقرأ ، و يكتب ؛ إنه الأعمق روحا والأبعد إشارة والأوسع رموزا . وعليه فالنصوص هذه ، تؤسس لتلك الروح التي تسري بين الأشياء في الظلال والإقامات الصغيرة ، بما فيها الذوات والأجساد .
ورد في نص “ لي من الحزن ما يكفي “ :
ليس المقام لعد ما
لحزني من الأهوال ،
بل لأصده
سأبني من الأشعار بيتا
فمن يرد زيارتنا
فليهجر الدمع خده
ولي ولكم
إن جاء شعري مجددا
يردد حزنا ،
صمت ،
لم أتعده
تبرز الكثير من الخصائص التعبيرية و الجمالية في هذه المجموعة ، من ذلك النزعة الغنائية المأساوية والمتشظية التي تؤرخ لتحركات الذات أو بالأحرى سفرها ، مما أدى إلى حضور النفس السير ذاتي ـ السردي ، بمعنى شعري يبدد من حدة التطابقات . ويمكن الإقرار هنا تدرجا في التحليل والتوغل أن الأمر يتعلق بمحنة الذات في ذاتها ، و في أحوال الأمة التي تنتمي إليها ؛ بل الإنسانية . كما يمكن التوقف حول الصورة والسياق الشعري . الأولى كأداة بحث في الحياة والوجود في احتفاء بالمفتقد و المؤشكل ، ضمن سياق شعري ينطلق من واقعة صغيرة تتضخم بتشكيلات الأنا الشعري من ذاكرة ومقروء فكري ، بل ومشاهدة دون إغفال في هذا السياق ، تلك الروح الحوارية والجدالية في المجموعة المتجلية في توظيف أساليب إنشائية ( الاستفهام ، الأمر ، النفي و النهي….) بطريقة ايحائية ، مما أدى إلى تعدد المقامات التواصلية والتداولية . لكن كل ذلك يتم من منطلق وموقع الذات . نقرأ في نص “ هي هي “ :
هي هي…
ليست حرفا
أو حرفين
وإن كانت ..
فلماذا حرف دون الحرف ..؟
قم و تأملها
في كل حروفي
في الأول..
وفي البين
وفي الآخر…
طالما انتصرت للتجارب والأفراد في كتابة الشعر ، عوض الأجيال والعموميات في الطرح والتحليل . وأظن أننا في حاجة لذلك اليوم ، قصد الإنصاف أولا ، وإبراز الخصوصيات الشعرية التي تخفي جهدا ذاتيا قد يتفتق الأمر عن رؤيا يغذيها الشاعر يوميا بما يلزم ، ليكون له موضع قدم ضمن صفحة الكتابة الغاصة بالأصوات والتخلقات . ولكن في هذه “ الكثرة “ ينوجد خيط دقيق وشفيف لكل تجربة شعرية ، ينبغي إبرازه بالتتبع المطلوب والإصغاء اللازم ، وهو ما تحسسته من خلال تناولي لهذه المجموعة المرتكزة على تشكيل شعري ، في حاجة دائمة إلى الكشف والمحاورة .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 20/07/2018