أحمد مدفاعي، مخرج الفيلم الوثائقي «الحالمون»

لكل فيلم أخرجته حكاية سربة

 

أحمد مدفاعي ليس مجرد اسم في عالم الإخراج المسرحي والدرامي. فهو قبل كل شيء ذو رؤية دقيقة ووعي حاد بالمسألة الثقافية في المغرب. لا يتوقف عند الصعوبات التي تعترضه، بل يزيح جانباً كل ما من شأن أن يؤدي إلى عرقلة العمل وتواصل رسالته واستمرارها، كما يدفعه إصراره على إنجاز العمل أحياناً إلى التخلّي عما يعتبره آخرون من الضروريات، وفي هذا الجانب يقول: إنه يعتبر نفسه كمن يمسك بجذع الشجرة الأصلية بكل ما تحتويه من ثقافة وعرف ودين وغيرها من الأصول، لذلك لا يأبه للفروع الصغيرة.
التقينا بمخرج وثائقي الحالمون في عاصمة الشاوية سطات وأجرينا معه الحوار التالي (الخاص لجريدة الاتحاد الإشتراكي) الذي يعرّف بتجربته الرائدة ويلقي الضوء على بعض الجوانب الأخرى من الواقع الثقافي والفني:

p في «الحالمون» ليس الهدف أن يفهم الجمهور كل ما يرى. وإنما عليه أن ينقاد لفترة من الوقت إلى عالم الحلم. هل يمكن أن يُنظر إلى فيلمك باعتباره إنسحابا من الواقع؟

n سؤالك يحمل فلسفة عميقة كيف يمكننا الانتقال من واقع الحال إلى عالم حالم؟ وكيف يمكننا أيضا وضع محددات تكون الفيصل في التمييز بين الواقع والحلم؟
سؤالك جعلني أعود إلى آراء الفلاسفة عندما خاضوا في الحلم وتفسيره بشكل يقبل المنطق أو العقل.
أذكر هنا فقط واحدا منهم «هنري برجسون» الذي قال إن حياة الانسان الماضية كلها محفوظة في الذاكرة، وعند اليقظة تُكْبَت بواسطة بواعث اليقظة، لكن النوم يفتح الباب المسحور في أرضية الشعور فتنهض الذكريات من القرار وتتحد مع الإحساس الحالي هنا يحدث الحلم…
بعد هذه «الفلاش باك» الفلسفي أعود بك إلى الواقع، وفي نفس الحال أحاول إسقاط هذه النظرية على ما عشناه في قطر. لكن من وجهة نظري كواحد عاش جميع تفاصيل الإنجاز غير المسبوق لأسود الأطلس.
كانت أول مشاركة للمنتخب المغربي في هذه الكأس العالمية سنة 1970، لحد الساعة لا زلنا نذكر أسماء مع لعبوا مباريات الدور الأول أمام ألمانيا الغربية، بيرو ثم بلغاريا، بعدها إنتظرنا 14 سنة وعشنا أجواء؛ أتذكر تفاصيلها ونحن نعاود الگرة أمام المنتخب الألماني بنجومه الكبار واستطعنا لأول مرة تجاوز الدور الأول. هنا بدأنا أول شوط في الإنتقال من واقع الحال إلى عالم حالم سيلعب فيه المغاربة دور الثمن النهائي أمام أعتى المنتخبات بالطبع ألمانيا…ليأتي هدف ماتيوس ويعيدنا إلى الواقع…حلم كان قصيرا إلا أنه كان طويلا من حيث السنوات لتمر مشاركات 98 ،94 و 2018 قبل أن يصل مونديال قطر.
34 سنة ونحن نعيش على حلم تجاوز الدور الأول، ننتظر من سيسحبنا من واقع الحال إلى عالم حالم نرى فيه منتخبنا وهو يتخطى الدور الأول…
إذا ما استعدت معك تفاصيل ما قبل مونديال قطر ستجد كل العناصر تتشكل حول موضوع الحلم، دولة عربية تحتضن لأول مرة المونديال، تعيين مدرب مغربي أيام معدودة قبل الانطلاق الرسمي للمنافسة، عودة أبرز اللاعبين الذي غادروا المنتخب بسبب مدرب متعنت، أليس كل هذا يجعلك تحسب نفسك أنك في حلم.
حتى الأغنية الرسمية لكأس العالم قطر كانت بلمسة مغربية أبدعها ريدوان وأطلق عليها ‘’الحالمون’’ بل حتى بعض الأغاني التي إرتجلها شباب في سمرهم (هالا هالا هالا) أصبحت تتردد على الألسن… أليس هذا سحبا من واقع الحال …
أعذرني إن أطلت الإجابة على هذا السؤال لكن صراحة كنت موفقا إلى أبعد حد في طرحه أو بداية الحوار به…

p هل كانت الرباعية الوثائقية «الحالمون» انسحابا من الواقع؟

n حقا كانت كذلك لأنها أعادت سرد الحكاية من البداية ليعرف الجمهور المغربي تفاصيل كثيرة عن هذا الحلم الذي ساهم في تحقيق العديد من الفاعلين، الحالمون أظهر لأول مرة شخصية وليد قبل أي مباراة وبخاصة داخل مستودع الملابس وهنا وضعنا اليد على أسلوبه في تحفيز اللاعبين حتى يتحقق الحلم ويأخذونا بعدا من واقع جثم على أنفاسنا سنوات طوال.
كان انسحابا بل اقتلاعا شديدا من الواقع نحو السماء والفضاء اللامتناهي نحو تحقيق الأحلام…تجاوزنا الدور الأول وتسيدنا في جميع الأدوار على كبار المنتخبات قبل أن نستفيق في النصف النهائي.

p كيف ولدت فكرة الفيلم ؟

n ولدت فكرة رباعية «الحالمون» مثل فيلم تشويقي عشناه ذات صباح، الساعة كانت تشير إلى السابعة صباحا عندما استيقظت على رنة الهاتف علمت أنها رسالة قصيرة، قرأت الرسالة قبل أن أغادر فراشي لأجدها دعوة للحضور على الساعة العاشرة من نفس اليوم للقاء السيد المدير المركزي للقناة.
تناولت وجبة الفطور وأنا في طريقي إلى مقر القناة، وقبل أن أركن السيارة انتبهت إلى حضور أصدقاء لي في مجال إعداد البرامج والأفلام الوثائقية، عبد الهادي رازقو الذي اشتغلنا سويا على إنجاز العديد من الأفلام الوثائقية (من رحم المعاناة حول هشام الكروج في جزئين والذي نلنا به الجائزة الوطنية الكبرى للصحافة سنة 2014)، صحفي ورئيس تحرير أعتبره الأستاذ الذي يعشق الإبداع والمتمكن من مهنته باحترافية عالية.
الصديق الثاني الذي التقيته والذي توصل بدوره بنفس الرسالة لحضور الاجتماع هو عبد الإله حيضر، بدوره عمل لسنوات على إعداد برامج للقناة واشتهر «بكلوب تيڤي» الذي كان يقدم كل أسبوع.
الصديق الرابع كان المعلق الرياضي سفيان الراشدي الذي تألق بأسلوبه المتميز في الوصف الرياضي وعرف أكثر بإعداده للبرنامج الذي كان يقدم حول المنتخبات الوطنية «مائة في المائة أسود».
هذا اللقاء الأولي جعلني أجزم أن الاجتماع الذي اقترحه السيد حسن بوطبسيل كانت لغاية واحدة، أن تكون النتيجة في مستوى التطلعات.
أتذكر كيف جلسنا في صف واحد وجها لوجه مع السيد المدير الذي طلب منا العمل على إنجاز عمل يؤرخ لما أنجزه أسود الأطلس بقطر.
فهمنا الرسالة ووضعت أمامنا جميع الإمكانيات التي سنحتاجها دون قيد أو شرط، ومباشرة بعد إنهاء اللقاء الأول مع حسن بوطبسيل اجتمعنا لنضع الخطة التي تسهل علينا إنجاز المشروع.
بدأ العمل كخلية نخل، الاتصالات باللاعبين أخذت منا الكثير بسبب تركيز اللاعبين مع أنديتهم، وهنا أذكر المدير العام السيد فيصل العرايشي كان يتابع معنا جميع مراحل الإنجاز والحق نقول أن الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وفرت لنا كل شيء حتى تمر محطات إنجاز الحالمون في ظروف حسنة…و دور حسن بوطبسيل في تيسير مهمة التواصل وكيف كان يتصل بالجامعة الملكية المغربية حتى تدخل على خط تيسير تواصلنا مع اللاعبين.
جانب آخر لابد أن أذكره هو الإدارة التي تكلفت بإجراءات الحصول على التأشيرات والتي كانت تأخذ منهم جهذا كبيرا لابد أن نشكرهم على ما قدموه وهو فريق يعمل في إدارة الإنتاج ثم فريق التصوير التابع للجامعة الملكية المغربية الذي رافقوا المنتخب في رحلة الحلم بقطر، حيث ساهموا بشكل كبير في إنجاز «الحالمون» بعدما وضعوا أمامنا المادة التي صوروها، بخاصة كواليس مستودع الملابس.
دون أن ننسى الفريق الفني والتقني من مصورين وتقنيي الصوت وغرافيست إضافة علي حفيظ د الذي أبلى البلاء الحسن في المونتاج قبل أن يخرج الحالمون في صورته النهائية دون أن أنسى العزيز محمد علي ولمسته أيضا.

 p الفيلم الوثائقي هي شغل فني وثقافي بالأساس هدفه الإمتاع وتحريك السواكن الذهنية ومساعدة المتلقي على طرح جميع أنواع الأسئلة، وليس من مهامها التأريخ لأن مهام المؤرخ تختلف عن مهام الفنان.
هل يمكن القول إن الأفلام الوثائقية دورًا جوهريًا في المحافظة على ذاكرة الشعوب وإعادة الاعتبار إليها ؟

n في الجانب الأول الفيلم الوثائقي بالنسبة لي هو الوثيقة المصورة للمؤرخ، لماذا؟ بالنسبة لي عندما أضع مشروعا لفيلم وثائقي فإن أول ما أجدني أبحث للتواصل معهم المؤرخ الذي سيمنح الفيلم المصداقية، وهذه تجربة عشتها عندما اشتغلنا على فيلم «العربي بن مبارك من رماد النسيان» بحيث انطلقت رحلة البحث عن الأشخاص الذي يحملون المعلومة الصحيحة حتى يبقى الفيلم وثيقة تاريخية. هذه وجهتي نظري حول المؤرخ والفيلم الوثائقي.
في الجانب الثاني، أقول إن لا تاريخ لأمة بدون ذاكرة، الذاكرة التي تفرض علينا النبش فيها وإحيائها من خلال الفيلم سواء كان وثائقيا أو دراميا، ولك من الأمثلة الكثير التي تدعم هذا الطرح. أذكر هنا الفيلم الوثائقي «ملح الأرض» الذي اعتبر أهم ما أنتجته السينما العالمية والذي يستمد تجربة المصور البرازيلي الفوتوغرافي «ًسيباستياو سالغادًو» والإخراج كان «ًلفيم فيندرزً»، هذا الفليم رحلة لأربعين سنة لهذا المصور وهو يجوب العالم وينقل معاناة الإنسان ليصبح وثيقة تاريخية. الفيلم الوثائقي والمؤرخ كل في مجاله لكن الرسالة واحدة حفظ ذاكرة الشعوب إما بالقلم أو العدسة.

p من خلال عدد من أفلامك الوثائقية يبدو المخرج أحمد مدفاعي صوتًا للأقليات، إلى أي مدى يبدو ذلك صحيحًا؟

n يمكن أن ترى أن أفلامي صوت للأقليات، لكن بالنسبة لي فكل فيلم أخرجته كان لي معه قصة، «حكاية سربة» شدني إليه المكان، فعلاقتي بمدينة سطات لا يمكن أن توصف، ترعرعت في أزقة أحيائها القديمة من پام إلى الملاح إلى درب الصابون إلى سيدي بوعبيد، كنت أجوبها طولا وعرضا، وأنتظر بشوق موسم بويا لغليمي لأستمتع بالتبوريدة التقليدية، مشهد الخيل والبارود لم يفارقني لأعزم على إخراج فيلم يختزل هذه الرحلة وشاءت الأقدار أن أحصل به على الجائزة الكبرى للصحافة الوطنية نسخة 2013.
بعدها بدأت أبحث عن المواضيع التي ُتظهر للجمهور المورث المغربي الذي يعطيه خصوصية متفردة وهنا جاء فيلم «حليمة» كأول مقدمة لسربة نسائية؛ الفيلم قدمتة في روما والحمد لله كان الحظ بجانبي ونلت به الجائزة الدولية للفيلم الوثائقي، بعدها اشتغلت على فيلم «حكاية ماطا» والذي كان مفاجأة للجمهور بعدما اكتشفوا رياضة ضاربة في العمق التاريخي عند جبالة.
خصوصية المواضيع لربما هي التي أعطت نظرة إعتبار أفلامي صوتا للأقليات.

p أنت بالطبع فنان مسرحي، ما التحدّيات التي واجهتك في الصحافة والإخراج؟

n المسرح عاش معي وعشت معه منذ كان سني 15 سنة، حيث إنطلت أولى تجاربي في الكتابة للمسرح، ولم أستطع الخروج منه لأنه المتعة اللاحدود لها، أعيش مع شخصياتي وأشكلها كيف أشاء لأجل الحبكة والفرجة المسرحية، العائلة المتمثلة في والدتي التي أستمد منها نفسي الإبداعي وفرقتي المسرحية (فرقة مسرح سطات) من بين أهم ما يربطني أيضا بمدينتي سطات.
كنت دائما أضع نصب عيني قولة «ًأرتور شوبنهاور» حول الإبداع وأخذ ما هو مألوف وتقديمه بشكل غير مألوف؛ هنا تكون في خانة الإبداع وإلا سيكون حضورك باهتا.
هذه القولة عاشت معي طيلة مسيرتي في المجال الفني عندما التحقت بالبرنامج الشهير «ألف لام» سنة 1999 قبل أن أنضم إلى فريق الرياضية عند انطلاقتها سنة 2006. هم الإبداع الذي عشته في المسرح لا يزال يرافقني لحد الساعة وسط زملائي من الصحفيين داخل قناة الرياضية.


الكاتب : حاوره: عزيز مفضال

  

بتاريخ : 24/06/2023