أُنطولوجيا الجسد (36)

المدنّس والمقدّس: في المفهوم الفلسفي للجسد (2)

 

واتّبع أفلاطون أطروحات مُعلّمه سقراط فحقّر بدوره الجسد وحطّ من قيمته واعتبره أيضا حاملا للشهوات والحواس، أمّا الروح فهي التي تسمو إلى عالم المثل لبناء المعرفة والابتعاد عن كل ما هو حسّي: “ويؤكد أفلاطون على لسان سقراط “إنّ قضيتي الوحيدة هي أن أجوب الشوارع لإقناعكم جميعا شبابا كنتم أم شيوخا بألاّ تولعوا بالجسم ولعلّكم بالنفس سعيا إلى جعلها خيرا ما استطعتم”، فالاهتمام المفرط بالجسد أفلاطونيا يكدّر صفو التفكير إلى حد قول سقراط، ولكن النفس تفكّر أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعكّر صفوها السمع ولا البصر ولا الألم ولا اللذة بل فقط لما تعتكف أشد ما يكون الاعتكاف متخلّصة من الجسد وقاطعة معه بحسب الإمكان كل معاشرة وكل اتّصال سعيا إلى إدراك الواقع…”(4) ويقول أيضا: “الجسم قبر النفس لأنّها مدفونة فيه.”(5) ، بينما اعتبر أرسطو على عكس سقراط وعلى نهجه أفلاطون، أنّ الجسد والروح هما جوهرا الإنسان وأنّ وجوده لا يتحقّق إلا بوجود ثنائية الروح والجسد وليس الفصل بينهما على أساس التقديس الخالص للروح والتدنيس الكلّي للجسد.
لقد فضّل أفلاطون الروح التي ترمز للعقل على الجسد الذي يرمز للحسِّ، بينما ذهب أرسطو، وهو تلميذ لأفلاطون، إلى نظريّة مغايرة عن معلّمه، وهو الذي لم يقارن ثنائية الروح والجسد على أساس التدنيس والتقديس أو على أساس الترتيب العلوي والسفلي، بل إنّ الروح والجسد هما جوهرا الانسان ولا يعلو واحد عن آخر وأنّ الوجود الإنساني يتحقق بوجود هذا الثنائي معا بدون فصل أو إقصاء لأي منهما، لأنّ الانسان هو جمع من الروح والجسد: “أرى أنّ النفس والجسد يؤثر كل منهما في صاحبه: فأيّما تغيّر يعتري حالة النفس يفضي إلى تغيّر في شكل الجسد، والعكس صحيح – فأي تغير في شكل الجسد يفضي إلى تغيّر في حالة النفس”(6). اهتم أرسطو بالروح والجسد اهتماما متساويا واعتبرهما جوهرين أساسيين للذات الإنسانية ويشكلان وحدة باعتبار أنّ الانفعالات والمحسوسات تصدر عن النفس والجسم معا كالغضب والفرح على سبيل المثال فيما يخص الانفعالات أو كالبصر أو التذوّق فيما يخص المحسوسات. يقول أرسطو: ” يحسن تجنب القول أن النفس تتعلم أو تفكر بل قل أن الإنسان يفعل ذلك بفضل ما به من نفس”(7). إنّ إقامة المساواة بين ثنائية النفس والجسد، تُلغي من وجهة نظر أرسطية نظرية المدرسة الأفلاطونية باعتبار أن الروح وحدها جوهر الانسان.
اعتبرت الفلسفة اليونانيّة عموما أنّ النفس متعالية عن الجسد الذي لا يعدو أن يكون إلا مصدرا للدنس باعتباره جامعا للحواس التي تعيق ملكة الفكر المسؤولة عن البحث والمعرفة، ولئن اختلف أرسطو في نظريّته عن سابقيه من الفلاسفة وأولى اهتماما بالجسد، تبقى النظرة الدونيّة للجسد هي الفكرة الطاغية في المنظور الفلسفي القديم. فكيف تبنّت الفلسفة الحديثة هذا المفهوم؟

2.الفلسفة الحديثة: تبنّي الجسد في مفاهيم متباينة

سار ديكارت على نهج أفلاطون في تحقيره للجسد وتهميشه له رغم انتمائه لمدرسة الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر، واعتبر أنّ النفس هي المصدر المفكّر، بينما الجسد هو مجرّد شيء ممتد: “هو ليس إلا جوهرا ممتدا مادي مقارنة بالآلة التي تعمل بطريقة ميكانيكية ويفهمه ديكارت عن طريق الفيزياء وبالميكانيكا، التأمل السادس: كتب ديكارت” بناء عليه وحتى ولو عملت بيقيني أني موجود وأني مع ذلك لا ألاحظ فقط أنه يخص بالضرورة أي شيء آخر بطبيعتي أو جوهري إلا أني شيء يفكّر فإني أستنتج بقوّة إن جوهري يكمن في هذا فقط”(8).
فصل ديكارت الجسد عن الروح واعتبرهما مادّتين مختلفين، وأنّ الروح لا تكون إلاّ تابعة لملكوت الله، أمّا العقل عند هذا الفيلسوف فلا ينتمي إلى الجسد بل إلى الروح، فالفكر عند ديكارت يتميّز بالاستقلال التام عن الجسد الذي شبّهه بالآلة ذات الحركات والوظائف والأعضاء المنتظمة والتي تعمل بمعزل كلّي عن الذات المفكّرة وقد اعتبره مجرّد امتداد لا يعيق ملكة التفكير والتأمّل المنفصلة كلّيا عن الجسد: “الجسم بمثابة آلة صنعتها يد الله فكانت من حيث التنظيم تعلو على كل مقارنة ولها في ذاتها من الحركات ما يفوق روعة كل ما في الآلات التي يمكن أن يخترعها البشر”(9).


الكاتب : أمل الهاني

  

بتاريخ : 24/08/2021