الإتجاهات والتوقعات العالمية لكل من الصحافة والإعلام لسنة 2023

يبحث تقرير «اتجاهات وتوقعات الصحافة والإعلام 2023» لهذا العام، المكون من 48 صفحة، والذي أعده كبار الباحثين لدى مؤسسة «Reuters Institute» بدراسة الصحافة وبشراكة مع «جامعة أكسفورد» المرموقة، آفاق قطاع الأعمال لدى المؤسسات (الشركات) الإعلامية، كما يحلل كيفية استكشافها واحتكاكها بتطبيقات التواصل الاجتماعي خاصة «تيك توك» (TikTok) وخدمات «البودكاست» و»الذكاء الاصطناعي».

 

عن نسخة 2023 ..
وربما 2024!

سيعرف هذا العام، تزايد المخاوف بشأن «استدامة بعض وسائل الإعلام الإخبارية» على خلفية التضخم المتفشي والضغط العميق على إنفاق الأسر، حيث أدى «غزو روسيا لأوكرانيا»، والتأثير المدمر لـ»الاحتباس الحراري»، إلى جانب الآثار اللاحقة لوباء «كوفيد-»19 إلى خلق «الخوف» و»عدم اليقين» لدى عامة الشعوب. وفي ظل هذه الظروف، غالبا ما شهدنا ازدهار الصحافة (بشكل أو بآخر)، إلا أن «الطبيعة المحبطة والقاسية لأجندة الأخبار» لا تزال تبعد الكثير من الناس عن المجال.. لهذا هل يمكن أن يكون العام الحالي، الوقت المناسب الذي يعيد فيه الناشرون التفكير لتقديم المزيد من الأمل والإلهام والفائدة؟
ستتركز الموجة التالية من الابتكار التقني، استنادا إلى الواقع المعزز والافتراضي مثل «الميتافيرس»، كما كشفت التطورات السريعة في الذكاء الاصطناعي (AI) عام 2022 ، عن المزيد من الفرص والتحديات الفورية التي ستواجها الصحافة. يوفر الذكاء الاصطناعي الفرصة للناشرين (أخيرا) لتقديم المزيد من المعلومات للمساعدة في التعامل مع تجزئة القنوات الإخبارية والحمل الزائد للمعلومات، إلا أن هذه التقنيات الجديدة، ستجلب أيضا أسئلة وجودية وأخلاقية على علاقة ب»التزييف العميق» و»الإباحية العميقة» وغيرها من الوسائط الاصطناعية. وعلى هذه الخلفية، فإن المؤسسات الإخبارية التي لم تتبن «الرقمنة بالكامل» بعد، ستكون في وضع غير موات للغاية، ولن يتم تحديد السنوات القليلة القادمة من خلال مدى سرعة تبنينا للرقمنة، وإنما من خلال كيفية تحويل المحتوى الرقمي لدينا لتلبية توقعات الجمهور المتغيرة بسرعة.

كيف ينظر الإعلاميون والناشرون للفترة المقبلة؟

من المتوقع، أن يغلب على الناشرين في سنة 2023، «جو من عدم الثقة والتشاؤم» بشأن آفاق أعمالهم مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.. ف (44٪) من عينة المحررين والرؤساء التنفيذيين والقادة الرقميين، يرون أنهم واثقون في إيجابية الفترة ما بين 2023-2024، غير أن حوالي الخمس منهم (19٪) أعربوا عن ثقة منخفضة بهذا الخصوص، إذ تتعلق أكبر المخاوف ب»ارتفاع قيمة التكاليف» و»انخفاض الاهتمام من قبل المعلنين» وتراجع عدد الاشتراكات»، وحتى أولئك المتفائلون يتوقعون أن تبدأ عن قريب موجة «تسريح العمال» وتدابير أخرى لخفض التكاليف في نفس الفترة. وفي الوقت نفسه، نجد أدلة على أن معظم الناشرين (72٪) قلقون بشأن زيادة تجنب الأخبار (خاصة حول الموضوعات المهمة التي يراها الكثيرون محبطة في كثير من الأحيان) مثل الحرب على أوكرانيا وتغير المناخ، وأن 12٪ فقط منهم غير قلقين بهذا الخصوص. يقول الناشرون إنهم يخططون لمواجهة ذلك من خلال «المحتوى التوضيحي» بنسبة (94٪) و»تنسيقات الأسئلة والأجوبة» بنسبة (87٪) و»القصص الملهمة» بنسبة (66٪) التي تعتبر مهمة جدا هذا العام.
يستثمر المزيد من الناشرين، في «الاشتراكات والعضويات الدفوعة» في عام 2023، حيث ذكر «غالبية» الذين شملهم الاستطلاع (80٪) أن هذا سيكون «أحد أهم أولويات الإيرادات»، قبل كل من «الإعلانات» بأنواعها.. على الرغم من «الضغط على الانفاق الاستهلاكي»، لا يزال أكثر من النصف (68٪) منهم يتوقعون «بعض النمو» في مداخيل الاشتراكات والمحتوى المدفوع هذا العام. يضيف الناشرون أيضا، أنه وفي المتوسط، سيركزون على 3 أو 4 مصادر مختلفة للإيرادات ستكون مهمة إلى مهمة جدا هذا العام، كما يتوقع ثلثهم أو (33٪) الحصول على «إيرادات كبيرة» من المنصات التقنية لـ»ترخيص المحتوى» (أو الابتكار)، مما يعكس «ثمار الصفقات متعددة السنوات» التي تم التفاوض عليها في بعض الأسواق مع عدد من الناشرين الكبار، وغالبا في «سياق السياسات التي يدافع عنها هؤلاء الناشرون» أنفسهم والتي يتم تقديمها أو النظر فيها من قبل الحكومات.
مع التخطيط المتصاعد لمزيد من «التشريعات» هذا العام لتقييد المحتوى «الضار» على وسائل التواصل الاجتماعي، يشعر (54٪) من المستجوبين ب»القلق» من أن هذه «القواعد الجديدة» قد تجعل من الصعب على الصحفيين والمؤسسات الإخبارية نشر القصص التي لا تحبها الحكومات، على أن حوالي الثلث (30٪) أقل قلقا و (14٪) غير قلقين على الإطلاق. يذكر المشتغلون في القطاع أيضا، أنهم سيولون اهتماما أقل بكثير لمنصات ك»فايسبوك» و «تويتر» هذا العام، وسيستبدلونها بمنصات «تيك توك» و»انستغرام» و «يوتيوب» وجميع الشبكات التي تحظى بشعبية لدى الشباب. يعكس الاهتمام المتزايد بـ»تيك توك» مقارنة بالعام الماضي، الرغبة في التعامل مع الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما، وتجربة إمكانيات «سرد قصص» عبر الفيديو العمودي، على الرغم من المخاوف بشأن «تحقيق الدخل الكافي» و»أمن البيانات» و»الآثار الأوسع للملكية الصينية» للتطبيق.
أدى تناقص شعبية منصة «تويتر» تحت إشراف «إيلون ماسك» إلى تركيز الجمهور على قيمة الصحفيين. يقول نصف المشاركين في الاستطلاع (51٪) إن الخسارة أو إضعاف تويتر ستكون «غير محدودة» للصحافة، لكن 17٪ يتبنون وجهة نظر أكثر «إيجابية»، مما يشير إلى أنه يمكن أن يقلل من الاعتماد على «آراء النخبة». من بين المنصات البارزة الأخرى، نجد توجه ((42٪ صوب «لينكد إن» كبديل أكثر شعبية، يليه (10%) «ماستودون» (Mastodon). نظرا لتأثير تغير المناخ، الذي أصبح أكثر وضوحا، فقد أعادت «صناعة الأخبار» التفكير في كيفية تغطيتها لهذه القصة (يقصد تغير المناخ) المعقدة و متعددة الأوجه. يعتقد حوالي نصف المشاركين (49٪) إنهم أنشأوا فريقا متخصصا في المناخ لتعزيز تغطية أخباره، مع تعيين الثلث منهم (31٪) لمزيد من الموظفين، في الحين الذي أعرب (44٪) منهم أنهم يدمجون «أبعاد النقاش حول المناخ» في تغطيات موازية أو أخرى (مثل مجالي الأعمال والرياضة) وأن ثلاثة من كل عشرة (30٪) طوروا «استراتيجية تخص تغير المناخ» لشركاتهم.
في ما يتعلق بالابتكار، يقول (72٪) من الناشرين إنهم سيخصصون المزيد من الموارد للبودكاست (البرامج الصوتية الرقمية) بالإضافة إلى «النشرات الإخبارية» عبر البريد الإلكتروني بنسبة (69٪)، وهما قناتان إخباريتان أثبتتا فعاليتهما في زيادة عدد الجماهير للمنصات الإخبارية. وعليه، ارتفع الاستثمار المخطط له ل»تنسيقات الفيديو الرقمية» ب(67٪) عن العام الماضي، لربما مدفوعا بالنمو الهائل لمنصة «تيك توك». على النقيض من ذلك، يعتقد (4٪) فقط أنهم سيستثمرون في «الميتافيرس»، مما يعكس شكوكا متزايدة حول إمكاناتها ومنافعها لصالح الصحافة. على الضفة المقابلة، تقوم الجهات الإعلامية العالمية، ب»هدوء» ب»دمج الذكاء الاصطناعي في منتجاتها الإخبارية كوسيلة لتقديم تجارب أكثر تخصيصا»، حيث أن ما يقرب من ثلاثة من كل عشرة أو (28٪) منهم، يقولون إن «الذكاء الاصطناعي» أصبح الآن جزءا من أنشطتهم، بينما ذكر (39٪) منهم آنهم يجرون تجارب في هذا المجال.. تقدم التطبيقات الجديدة للذكاء الإصطناعي مثل : «شات جي-بي-تي» (ChatGPT) و «دالي –إي 2» (DALL-E 2) أيضا فرصا لتحسين «كفاءة الإنتاج» و»إنشاء أنواع جديدة من المحتوى شبه الآلي».

تطورات أخرى محتملة لـ2023 – 2024؟

من المتوقع أن تتوقف المزيد من الصحف عن إصدار النسخ المطبوعة اليومية هذا العام، بسبب «ارتفاع تكاليف الطباعة» و»ضعف شبكات التوزيع»، ما قد يحيلنا إلى أن نشهد موجة أخرى من العناوين المعروفة التي ستتحول إلى النموذج الرقمي عبر الإنترنت بشكل شبه كامل. بالنسبة ل»الأخبار التلفزيونية و الإذاعية» ستشهد القسم الأكبر من «عمليات التسريح الصحافي» عالميا، كما ان عددا لابأس به من الإعلاميين والصحفيين المشتغلين في إذاعات الراديو يتحدثون ب»صراحة» عن «وقت قد يتم فيه إيقاف البث الإذاعي في بلدانهم» لعدة أسباب من بينها توجه المعلنين نحو منصات أخرى من قبيل «نيتفليكس» (Netflix) القائمة على نموذج الإعلانات (الترفيهية الرقمية) وزيادة الضغط على إيرادات الإعلانات الصحافية بأنواعها.
في تقرير العام الماضي، توقعنا (القائمون على التقرير) «انفجارا» في الإبداع في رواية القصص القصيرة بالفيديو (مقاطع طويلة أو قصيرة – Shorts) في الشبكات الاجتماعية التي يزورها الشباب، كما سنرى هذا العام المزيد من الناشرين يتبنون هذه التقنيات، بينما تستغرق مقاطع الفيديو وقتا أطول في البحث عن أرباح مستدامة. نتوقع أن نرى كذلك، تصحيحا في «الاقتصاد المبدع» هذا العام تزامنا مع أن العديد من شركات «الصحافة الفردية» التي بدأت على منصات مثل «سابستاك» (Substack) والمنصات الأخرى لتستمر في الازدهار، إلا أنه لا يمكن الاعتماد على «أموال الداعمين» و»الحوافز النقدية» المماثلة التي تقدمها بعض المنصات للاستمرار، باستثناء «التكتلات الصحافية والإعلامية» و»الشركات الصغيرة» التي ستأخذ اتجاها جديدا لـ2023 – 2024.
يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بالخطوة التالية لأغنياء العالم المتحكمين في المنصات الاجتماعية الرقمية على غرار «إيلون ماسك» على «تويتر»، ولكن من المحتمل أن تكون هناك «فجوة هائلة» بين الخطابة والتسليم حيث تصبح «تعقيدات إدارة مجتمع عالمي مبدع وصريح أكثر وضوحا»، إذ من المرجح أن يتنحى ماسك عن منصبه كرئيس تنفيذي عاجلا وليس آجلا، ولا يمكن استبعاد أي تغيير آخر في ملكية «تويتر». في الوقت نفسه، ستستمر تقنيات أخرى ك»النظارات الذكية» و»أجهزة VR» كلبنات أساسية لـ»الميتافيرس» (metaverse) في جذب الانتباه، خاصة مع توقع انضمام «آبل» (Apple) إلى الحفلة (الافتراضية) بأول منتج لها…
إن طرح هذه الصور الرمزية المفيدة (شخصيات الميتافيرس أو الآفاتارات – Avatars) لن تفلت من أقلام وتصريحات النقاد أو يجعل المفهوم (الافتراضي) أكثر صلة بالصحافة.
كخلاصة، فإن المزاج السائد في «صناعة الأخبار» هو حالة من «عدم اليقين» وبعض «القلق» بشأن ما قد تخبئه 2023 – 2024. صحيح أن المؤشرات الاقتصادية لا تبدو جيدة، مع ارتفاع التكاليف بسرعة والضغط على انفاق الأسر المتوقع أن يستمر لبعض الوقت.. في نفس السياق، يلاحظ توسع انتشار قضايا مثل تجنب «النشرات الإخبارية» أو «الأخبار البعيدة عن الإيجابية» و «التعب من الأخبار» على نطاق واسع، في نفس الوقت الذي يبدو أن بعض «المنصات الاجتماعية» تبتعد عن الترويج للأخبار (السلبية)، ويبدو أن «المنصات الناشئة غير مهتمة بها إلى حد كبير» ، مما يجعل من الصعب جذب عملاء جدد لاستهلاك الصحف أو الأخبار ككل. من جهتها، تظل الشركات الإعلامية التي أكملت بالفعل انتقالها الرقمي مستندة لإيرادات متنوعة للخروج من قلب العاصفة، إلا أن تلك التي تعتمد بشكل مفرط على «الطباعة» أو «الإعلان» أمامها سنوات صعبة في ظل المنافسة والتوجه للرقمنة في أجزاء كثيرة من العالم، وسيجعل هذا «الضعف الاقتصادي» بعض المؤسسات الإخبارية أكثر اعتمادا على الإعلانات الحكومية أو المالكين ذوي العلاقات الواسعة والمتشعبة، مما يقوض قدرتها على محاسبة الأغنياء والأقوياء، وإمكانيات التقدم بالنسبة لها والمنافسة في سوق باتت شرسة للغاية.

عن : تقرير «Reuters Institute»


الكاتب : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 20/01/2023