الجزائر تنهار.. فهل ستجرف معها فرنسا في الطريق؟

ماتت الجمهورية الرابعة في الجزائر،
فهل ستموت الجمهورية الخامسة هناك أيضا؟

 

مرت ثلاث سنوات بالجزائر، منذ تم انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية. ثلاث سنوات، عاد ليطرح فيها بالعاصمة هناك طموح ولاية ثانية له. لكن ما هي حصيلة الولاية الأولى هذه بداية، وما هي الدروس التي على فرنسا استخلاصها منها؟. إن صداقتي للجزائر، وكذا احترامي للشعب الجزائري، يفرضان علي التذكير ببعض البديهيات حول الواقع السياسي هناك والأوهام الفرنسية ونتائجها حوله.

 

إذا كان ممكنا تلخيص الوضعية بدون رتوش، فإنه يمكنني الجزم أن «الجزائر الجديدة»، كما يحبون أن يقال هناك، في طريقها للإنهيار أمام أعيننا، وأنها ستجر معها فرنسا في ذلك السقوط، بشكل أكبر من الذي تسببت فيه المأساة الجزائرية سنة 1958 مع الجمهورية الفرنسية الرابعة.
إن حقيقة الواقع الجزائري ليست ما يقدم لنا من أن النظام الفاسد للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة قد سقط سنة 2019. وأنه بعد الهزات التي تحدثها عادة كل ثورة، فإن «الحراك المبارك» حقق (كما يقال لنا) التقدم والإستقرار والديمقراطية.
بينما يسجل كل الملاحظين المنصفين أنه منذ سنة 2020، ربما بعد أسابيع من الأمل، أبان النظام الجزائري عن حقيقته من حيث إنه نظام عسكري (مكون كما ننسى كثيرا على طريقة الإتحاد السوفياتي البائد). أنه عنيف، ويتربص في العتمة وراء سلطة مدنية. أنه انتهازي، مثله مثل النظام السابق عليه، ومسكون فقط بالمحافظة على مصالحه الخاصة التي يهبها الريع، في لا مبالاة تامة بمشاكل الشعب الجزائري. فالقمع المسلط على البلاد، الذي يقوم به الجيش، الرافع فقط شعارَ تمجيد معاركه ضد فرنسا («العدو الأبدي»)، قد انتهى إلى وأد كل الأمل الذي بشر به الحراك من أجل دمقرطة الجزائر. واليوم، لا يوجد في السجون فقط الفاعلون السياسيون والموظفون والعسكريون المرتبطون بالنظام السابق (الذين إليهم يعود الفضل في وضعية الجيش الشعبي اليوم)، بل أيضا الصحفيون الذين كانت لهم الجرأة لتحرير مقالات ناقدة ومتحفظة من النظام. الصحفيون الذين نشروا أحكاما على مواقع التواصل الإجتماعي، أو آراء ناقدة (للأوضاع). لقد مكنت جائحة كوفيد منذ مارس 2020، الجيش من القيام بعملية تنظيف سياسي، مثلما أن تداعيات الحرب الأوكرانية دوليا قد منحته أن يضع البلاد تحت القبضة الحديدية.
إننا لا نملك أي فكرة في فرنسا عن ما كانته الصحافة الجزائرية، المقاومة أثناء الحرب الأهلية، التي استهدفتها بالتصفية الجماعات الإسلامية، بما ملكته من قوة سخرية ونقد متهكم زمن بوتفليقة، والتي كم كانت موفقة في الكثير من أحكامها. إنها اليوم تتعرض للعنف ويعتقل الصحفيون أو يحرمون من جوازات سفرهم، بينما صحف مثل «ليبرتي» يتم إغلاقها، ويعاد التحكم في جريدة مثل «الوطن» التي وضعت تحت وصاية النظام.  وبينما كانت التمثيليات الغربية تستفيق من الصدمة، تم منع آخر قلاع الصحافة (المستقلة) «راديو م.» وموقع «مغرب إيمورجون»، وتم اعتقال مديرهما إحسان القاضي ليلا. ثم جاء الدور يوم السبت 7 يناير 2023، على موقع «الجزائر بارت»، الذي تم اتهامه بتلقي مساعدات مالية من الخارج لنشر الأخبار الزائفة بغاية «زعزعة استقرار البلاد».
إن الخارج المقصود هنا هي فرنسا.
ذلك أن الخطاب المناهض لباريس في عهد بوتفليقة، الذي كان انتهازيا وأحيانا غير مصيب، قد أصبح اليوم عصب النظام القائم. بل إن قوة هذا النظام الجديد كامنة في أنه يعمل على إيهام العالم أن الجزائر ليست بالضرورة ديمقراطية على الطريقة الغربية، لكنها في الطريق كي تصبح، بإمكانياتها الذاتية، نظاما تحكميا بعض الشئ، بوليسيا بلباقة، لكنه لن يكون أبدا ديكتاتوريا. مثلما أن مكر هذا النظام كامن في نجاحه في أن يقنع بذلك أكثر من يعرفونه جيدا، أي الفرنسيون.
كلنا يعتقد أننا نعرف الجزائر كوننا استعمرناها، لكن ما نغفله هو أن الجزائر تعرفنا وتتحكم فينا أكثر. وستكون سنة 2023، بعد الزيارات الرسمية للسنة الماضية (يقصد زيارة الرئيس ماكرون وما تبعها من زيارة رئيسة الحكومة الفرنسية للجزائر)، ستكون زمن الإغتباط (للنظام الجزائري) خاصة مع زيارة الدولة التي سيقوم بها الرئيس الجزائري إلى باريس. لنكن واقعيين وبدون أوهام، فإنه في فجر انتخابات رئاسية جزائرية، ستشهد سنة 2024 أزمة جديدة وسيكون خطاب كراهية فرنسا الخميرة المثالية لحملة رئاسية موفقة.
إننا نغمض العين عن الواقع الجزائري وحقيقته في باريس إما بانتهازية أو خدر، وأكيد بعمى. ونحاول إقناع أنفسنا أن النظام الجزائري شرعي تنقصه الديمقراطية، وأن الخطاب المناهض لفرنسا هو ضريبة آنية وانتقالية وأن الديمقراطية صيرورة تتطلب تعلمها مع الوقت.
إن عَمَانَا هذا خطأ تاريخي. لأن التوهم في أن زيارتنا للجزائر والتنازل للجزائريين في الملفات ذات القيمة لديهم مثل مواضيع الذاكرة والتأشيرات، سيجعلنا نربحهم في صفنا وسنحملهم على مزيد من التعاون معنا، هو خطل كله. فليس للعسكريين الحاكمين في الجزائر أي ملامح حالة إيجابية حين يتعلق الأمر بفرنسا، لأن في ما نراه نحن خطابا للعقلانية وأدلة مقنعة، يرون فيه هم بلادة وتناقضا وعدم معرفة بطبيعة النظام، أو باختصار نزوع ملائكية من طرفنا. وأستطيع تخيل شكل النظرات بعد عودة مسؤولينا ونهاية الندوات الصحفية وصدور البيانات الموقعة، حيث إنهم يعودون إلى اهتماماتهم مع إحساس أنهم مرة أخرى قد سجنونا في بوثقة الإحساس بالذنب.
علي هنا أن أوجه تحية لرئيس الجمهورية (ماكرون) حين أطلق في شهر أكتوبر 2021، كلاما قويا نقلته يومية «لوموند»، واصفا: «تاريخ رسمي يعاد كتابته من قبل الجزائر قائم على كراهية فرنسا»، و «ريع الذاكرة»، و«نظام سياسي عسكري متهالك». لقد أبان حينها عن حصافة لم يصلها أي من سابقيه. لكن، يا للعجب، لماذا الهرولة أسابيع بعد ذلك صوب الجزائر العاصمة كي يعلن للجزائريين الكلمات التي ينتظرونها بخصوص الذاكرة والهجرة؟. لماذا أرسل بعدها الوزيرة الأولى متقدمة خمسة عشر وزيرا، تم إلهاؤهم حين سمح لهم بزيارة المقبرة المسيحية التي زارها الرئيس وكذا الثانوية الفرنسية؟. لماذا لم يتم الإلتزام بخط صرامة وحده الذي تفهمه الجزائر جيدا ومنطق ميزان القوة وليس هشاشة نزوع ملائكي في التعامل؟.
إن كل ذلك محزن، بسبب أثاره السلبية سياسيا على فرنسا. فالجزائر ليست على ما يرام، أكثر مما يتوهمه المراقبون والصحفيون. إن 45 مليون جزائري ليس لهم من حلم سوى المغادرة والهرب. والمغادرة إلى أين إن لم تكن فرنسا حيث لكل جزائري عائلة هناك؟. ولم نعد نحصي اليوم عدد طالبي التأشيرة الذين لا نية لهم سوى السفر بدون عودة، بغاية البقاء في فرنسا على أمل تسوية وضعيتهم ذات يوم.
إن الخيارات الكارثية لسنة 1962، والأزمة الإقتصادية، والفساد المتولد عن الريع النفطي، ويأس ليس فقط نخب مدن الشمال بل أيضا ساكنة البوادي والجزائر العميقة، وإسقاطات كرم فرنسا، جميعها تجعل من سيبقى بالجزائر قليلا جدا. ذلك أن ثمن عمانا أو تواطؤنا سيكون هو هجرة مضاعفة لا علاقة لها بالحالة القائمة اليوم، مما ستكون نتيجته زيادة أسلمة ضواحينا وتفريخ الغيتوهات فيها وتوبة الذاكرة.
تواجه فرنسا هنا مفارقة مزدوجة: من جهة تحالفا معيبا بين جيش مناهض لفرنسا وإسلاميين يكرهوننا (كلاهما يشترك في مقت فرنسا والرغبة الراسخة للقضاء على التواجد اللسني والثقافي الموروث عن الإستعمار، مع دفعنا لتأدية ثمن ماضينا الإستعماري عبر الهجرة ومطلب الإعتذار). فيما المفارقة الثانية كامنة في تواصل منذ 60 سنة ما هو مفروض أن تضع له اتفاقيات إيفيان لاستقلال الجزائر نقطة النهاية.
بهذا المعنى ربحت الجزائر المعركة ضد محتلها السابق. لكن يبقى هناك خطر قائم ضد فرنسا، لأن الجزائر المنهارة ستجرف معها باريس. لقد ماتت الجمهورية الرابعة في الجزائر، فهل ستموت الجمهورية الخامسة هناك أيضا؟

(*) غزافيي دريونكور ديبلوماسي فرنسي. مدير عام سابق لإدارة وزارة الخارجية الفرنسية، رئيس المفتشية العامة للشؤون الخارجية بها. كان سفيرا لفرنسا بالجزائر مرتين ما بين 2008 و 2012 ثم ما بين 2017 و 2020. أصدر كتابا يستعرض تجربته تلك تحت عنوان: «اللغز الجزائري، يوميات سفارة بالجزائر العاصمة» ضمن منشورات الأوبسرفاتور سنة 2022.
(نشرت هذه المقالة بالصفحة 22 من عدد يومية لوفيغارو الفرنسية ليوم الإثنين 9 يناير 2023).

 

 


الكاتب : غزافيي دريونكور (*) ترجمة: لحسن العسبي

  

بتاريخ : 11/01/2023