الحاجة الملحة لتفعيل الوساطة كوسيلة لحل المنازعات

أصبح المجتمع الكوني في وقتنا الراهن يعاني من أزمة خانقة في مجال العدالة، أفرزتها المعضلة التي يواجهها القضاء منذ أمد بعيد في مختلف الأنظمة القضائية عبر العالم وعلى الخصوص في مجال الأسرة. وقد نتجت هذه الأزمة من تنامي النزاعات الأسرية التي لم يتمكن معها جهاز العدالة مواكبة هذه الوضعية الاجتماعية مما أثر سلبا في معالجة شقاق الأسرة الذي ينتهي دائما بالطلاق والدخول في دوامة الصراع الأسري اللامتناهي الحدود، مما أضحى معه لزاما على هذا المجتمع إيجاد حل لهذه الأزمة. فاهتدى العلماء السوسيولوجيون إلى تلك الظاهرة المجتمعية الجديدة /القديمة، المتمثلة في الطرق البديلة لتسوية المنازعات إلى جانب الآليات الرسمية لفضها، ويقصد  بها مجموعة من الآليات التي يمكن اعتمادها لحل النزاعات بمشاركة وموافقة أطرافها.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنها ليست بديلة عن القضاء، لكونها تجري تحت إشرافه في معظمها ومن تم فهي بديلة فقط عن بعض المساطر والإجراءات القضائية التي قد تسبب التأخير في إصدار الأحكام والبطء في الحسم في النزاعات ، زيادة على اتسام إجراءات التبليغ بالتعقيد، وانعدام الفعالية. ومن هنا يتضح لنا الحاجة الملحة إلى الوساطة الأسرية لتخفيف العبء عن القضاء .
فالصراعات التي قد تنشب بين أفراد المجتمع يزداد أهمية متى تعلق الأمر بالمنازعات الأسرية نظرا لطبيعة العلاقة التي تربط بين مكونات الأسرة. التي قد تتصدع أحيانا وقد تأتي على نهاية تماسكها، وكما نعلم أن النزاع في غالبيته يبدأ عبر مراحل من مراسم وتقاليد حفل الزفاف، أو الصداق، ينتقل بعده إلى استقلال بيت الزوجية والنفقة، ويصل حدود الطلاق وما يترتب عنه، والنسب، وكذا الصراع حول الإرث وقد يتجاوزه الأمر إلى بعض الجرائم التي قد تنشب بين الأصول والفروع والأقارب. ويتم بكل الحالات اللجوء إلى القضاء للفصل فيها.
وتنامي هذه الصراعات بشكل مهول في الآونة الأخيرة بعد الانحلال الذي تعرفه الأسر، راكم عددا كبيرا جدا أمام المحكمة من القضايا المعروضة عليها بهذا الخصوص وهو الذي جعل التفكير يصبح جديا في إيجاد حلول بديلة لتخفيف العبء عن القضاء. وأضحى السوسيولوجيون بعد الوقوف على هذه التحولات المجتمعية يركزون على دراسة هذه الوسائل في حل النزاعات ومنها الصلح والتحكيم والوساطة …
وقد نشأت في أول الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية في بداية السبعينيات بهدف إيجاد حلول بديلة للنظام القضائي التقليدي انطلاقا من تقنيات التحكيم للتقليص من آثار الطلاق. وفي هذا الإطار قام المحامي الأمريكي Jean colsin)) بالأبحاث الأولى في هذا المجال. ولجأ محامي آخر من الولايات المتحدة بولاية أطلنطا يدعى كولغر (coolgher) إلى فتح أول مركز للوساطة الأسرية، في نفس الوقت اهتم جهاز العدالة بهذه الأداة، إذ جعلت التجربة الأمريكية المحامي يقوم بدور الوساطة في كل الدعاوى التي تقل عن 15000 دولار، حتى إذا قبلت لجأ الأطراف إلى القضاء ليأتي دور القاضي الوسيط في مرحلة الاستئناف، أما في المرحلة الابتدائية فهناك أجهزة خارج القضاء تتولى مهمة الوساطة، وتعتبر ولاية كاليفورنيا أول ولاية تتبنى قانونا يلزم الآباء الذين هم في وضعية نزاع على حضانة الأبناء بزيارة وسيط أسري، وقد تبعتها في ذلك العديد من الولايات لتعمم بسرعة على التراب الأمريكي إلى أن وصل إلى كندا.
وانتقلت إلى فرنسا في نهاية الثمانينات بتأثير من وسطاء مقاطعة الكيبك في كندا، لتتبناها كمقاربة جديدة ومكملة للقانون في مجال تسوية الخلافات المرتبطة بالطلاق وانفصال الأزواج.
وتتخذ الوساطة أشكالا عديدة على النحو بعده:
. الوساطة البسيطة (Simple médiation) وهي التي تقترب من نظام التوفيق في وجود شخص يسعى إلى التقريب بين وجهات نطر المتنازعين.
. الوساطة تحت شكل قضاء صوري، هي التي يتم فها تشكيل هيئة يرأسها الوسيط تضم وكلاء عن أطراف النزاع وذلك للوصول إلى حد مقبول من الطرفين.
. الوساطة الاستشارية (Mediation-Consultation) وهي التي يطلب فيها أطراف النزاع من محام أو خبير استشارته أولا في موضوع النزاع، ثم يطلبون منه بعد ذلك له كوسيط لحل النزاع.
. وساطة التحكيم (Médiation-Arbitration) وهي التي يتفق فيها الأطراف على قيام الوسيط بمهمة التحكيم إذا فشلت مهمته في الوساطة.
. الوساطة القضائية Judicial-Mediation وهي المعمول بها في النظم الانجلوسكسونية حيث تقوم المحاكم قبل الفصل في النزاع بعرض اقتراح على الأطراف باللجوء بداية إلى الوساطة، وذلك كما هو الحال في النظام المعروف باسم (Summary Jury Trial).حيث يقوم المحكم المدني (Civil Jury) قبل الجلسة الرسمية بشرح مختصر للأطراف عن الموقف في الدعوى، ويتوصل معهم إلى إصدار حكم في شكل رأي (Advisory Verdict ) يكون بمثابة الأساس الذي تقوم عليه المفاوضات في الوساطة.
أما بالمغرب فمؤسسة الوساطة هي متجذرة منذ الأزل من داخل المجتمع في ظل الشريعة الاسلامية، أعقبتها المحاكم الشرعية ونظام الشيوخ بالقبائل…. كما نظمها قانون المسطرة المدنية في المواد من 327/ 56 إلى 327/68 . إلا أنها كوسيلة بديلة للتخفيف على القضاء لم يتم الحديث عنها إلا بعد أن أعطى خطاب العرش لسنة 2008 والخطاب الملكي الملقى بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب سنة 2009 انطلاقة ورش الإصلاح الشامل والعميق للمنظومة القضائية، وتم تتويجه بإحداث الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة في ماي 2012، والذي تضمن من بين آليات الإصلاح تطوير الطرق البديلة لتسوية المنازعات. إذ جاء في الخطاب الملكي للذكرى 56 لثورة الملك والشعب ما نصه : ‘’ … وبموازاة مع ذلك يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح….’’.
وجاء القانون رقم 05-08 ليعطي الإطار القانوني الدقيق لمؤسسة الوساطة رغم أنه يعاب عليه عدم تحديد تعريف لها واكتفائه بالوساطة الاتفاقية دون غيرها من الوساطات.
وتحدد المرجعية القانونية المنظمة للوساطة بالمغرب كالتالي :

الدستور:
نص الفصل 32 من الدستور على أن الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وأن واجب الدولة العمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها من جهة، والسعي لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية من جهة ثانية. كما نص على إحداث مجلس استشاري للأسرة والطفولة.

مدونة الاسرة :
تضمنت مدونة الأسرة مؤشرات لتفعيل الوساطة في مجال قضاء الأسرة، بحيث ورد في ديباجتها».. تعزيز آليات التوفيق والوساطة بتدخل الأسرة والقاضي. « كما تضمنت العديد من موادها مقتضيات تسمح باللجوء للصلح.

قانون المسطرة المدنية:
تم إدماج نظام الوساطة في قانون المسطرة المدنية من خلال القانون رقم 08.05 المعدل للباب الثامن منه، وقد نص الفصل 55.327 من هذا القانون على أنه» يجوز للأطراف، لأجل تجنب أو تسوية نزاع، الاتفاق على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح ينهي النزاع».
الميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة
نص الميثاق في إحدى توصياته على ضرورة مأسسة الوساطة الأسرية.
وفي جميع الأحوال تبقى الأسباب المشتركة بين جميع دول العالم في التجائها للوساطة كحل لبديل لحل المنازعات في المجال الأسري معظمها واحدة على رأسها التطور السوسيولوجي للأسرة. والانتقال المجتمعي لها بما نتج عنه من نزاعات متفرقة وعديدة أهمها نمو نسبة الطلاق من داخل المجتمعات بشكل اصبحت معه نسبة زواج واحد تقابل ما يفوق خمس حالات من الطلاق. وتكونت اسر أحادية تتشكل من الأب والاطفال، أو الأم والأطفال، وغيرها من الظواهر المجتمعية منها ما سمي بالأمهات العازبات.
فكيف تعمل الطرق البديلة لتسوية النزاعات الأسرية على الاستجابة لحاجة الأسرة والقضاء من أجل تسيير أفضل للنزاع الأسري؟
بالواقع يتصدر الاكتفاء والاستجابة لحاجة الأسرة العامل النفسي والثقة وحرية الاختيار بعيدا عن الالزامية .وكذا تقريب وجهات النظر بشكل واقعي مجتمعي يحافظ في مجمله على استمرارية الروابط بشكل ولو جزئي ومن وجهات نظر أو جهات متعددة .

أولا من جهة الأطراف المتنازعة :

إن اللجوء إلى مؤسسة الوساطة أو الصلح يشعر أطراف العلاقة باستقلالية أكبر في اتخاذ قراراتهم، وحرية في إدارة النزاع القائم بينهم، واسترجاع الثقة في قدرتهم على الوصول أنفسهم بمساعدة طرف مستقل لحل النزاع الذي يعترضهم. كذلك فإن الاتفاق الذي تسفر عنيه هذه البدائل كالصلح والوساطة تكون له حظوظ أوفر للتطبيق كونهم هم الذين صنعوا القرار بأنفسهم كما إذا تعلق الأمر بقرار أو حكم قضائي ملزم.
وهذه الحاجة لطريق جديد لحل النزاعات الأسرية عند الأطراف تجد أساسها كذلك في عدم الاطمئنان إلى العمل القضائي، الذي أصبح يتسم ويوصف بالبطء نتيجة المساطر التبليغية المعقدة، وارتفاع التكاليف والرسوم أمام المحاكم وتعقيدها في مقابل رغبة الأسر المتنازعة إنهاء النزاع سريعا، وبأقل التكاليف، وهو ما لا يوفره النظام القضائي في الوقت الراهن.
وأخيرا إن الحاجة إلى طريق بديل جديد تفرضها المصلحة الفضلى للطفل التي يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا النوع من النزاع، إذ أبانت الصراعات القضائية المشاكل الكبيرة التي تسببها الفرقة والطلاق لكل الأطفال في حين أن الوساطة أو الصلح توفر البيئة السليمة للطفل وللأطراف من الناحية النفسية بحيث لا يشعر الطفل بتداعيات الفراق والصراع المستحكم بين أبويه أو عائلته.

ثانيا من جهة القضاء :

وبالموازاة مع مصلحة الأطراف المتنازعة فإن وجود طريقة بديلة لتسوية النزاع الأسري فيها مصلحة القضاة والقضاء إذ تخفف عدد القضايا المعروضة أمامهم وتعطيهم الفرصة لإنتاج الجودة بالأحكام والوقت اللازم لتمحيص الملفات بشكل يخدم العدل والعدالة . إضافة إلى أن القضاء من جهة أخرى لا يتوفر على العناصر الكافية ولا الوسائل الضرورية لحل هذا النوع الخاص والمميز من النزاع، وتكون بذلك المصلحة الفضلي لجميع الأطراف هي انتداب شخص آخر محايد ومستقل يطمئن له الطرفان ويتوفر على احترافية أكبر في المصالحة أو الوساطة . ذلك أن القضاة يمكنهم البت في النزاع من مقاربة قانونية تنهي النزاع برمته ولكنهم لا يستطيعون بالمقابل إنهاء النزاع والحسم في الخلاف بحلول ترضي الطرفين معا، ومن خصوصيات هذا النوع من القضايا اعتماده أكثر على الواقع وليس القانون. ومن هنا تظهر أهمية الوسيط والذي رغم كونه لا يصدر أي قرار، ولا يلزم الأطراف برأيه فإنه يملك حرية كبيرة في التوسع في مناقشة الأطراف مادام لا يتقيد بالجوانب القانونية وأدلة الإثبات، كما يملك مناقشة الوقائع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية بل وحتى الإنسانية المرتبطة بالنزاع. ناهيك أن حتى الأطراف المتنازعة تطمئن أكثر للوسيط وتفضي له بما لايمكن أن تفضيه للقضاء خوفا من أن تفقد مركزها القانوني في القضية.
وختاما، ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن تقنين الوساطة لا يكفي فيه وضع النصوص وبقائها جامدة حيث يجب تفعيلها على المستوى العملي الذي يبرز فيه دور القاضي والمحامي، فمن جهتهم يلقى على عاتقهم إقناع أفراد الأسرة المتنازعة بحل نزاعهم بواسطة طرف ثالث وهو الوسيط ومنحهم أجلا كافيا لذلك، وإن فشلت محاولة التوفيق والوساطة تدخل القاضي للحكم في النزاع. ولن يتحقق الامر إلا بنشر وعي مجتمعي أكبر في اللجوء إلى الحلول الودية وتقبلها أكثر بل وتفضيلها.

(*) محام بهيئة وجدة


الكاتب : لطيفة رحو (*)

  

بتاريخ : 23/09/2023