الدار البيضاء …تلك المدينة 14 : المسلمون مع اليهود وتبادلوا «السخينة» والرقاق وسمك «الشابل» والعجين والملح

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

بعيدا عن الدراسات الأكاديمية الصارمة والإحصاءات الرسمية أو غير الرسمية وأرقامها الجافة، الخاصة بالطائفة اليهودية بالمغرب، والتي تناولت عدد أفرادها إبان فترة الحماية وقبلها وأسباب هجرتها إلى الدار البيضاء، والمدن والقرى التي هاجرت منها، بالتفصيل، وأسباب هجرتها خارج الوطن، والتي لن تستطيع هذه المقالات البسيطة الإحاطة بها كلها، تاركة الأمر لأهل الاختصاص، فإننا سنركز قليلا على تلك الروح التي جمعت يوما ما بين المسلمين واليهود في مدينة الدار البيضاء، روح التسامح والتعايش، انطلاقا مما كتبه اثنان من أبنائها، الأول كاتب مؤلف «المدينة القديمة بالدار البيضاء ذاكرة وتراث» حسن لعروس، والذي تحدث عن الطائفة اليهودية وما جمعها مع المسلمين قبل الاستقلال، من مظاهر حسن الجوار والتآلف، والثاني ولد بالدار البيضاء ولكنه هاجر خارج المغرب ويعيش بأمريكا ويتعلق الأمر ببوب أروي ابيطبول الذي حكى عن طفولته بالبيضاء من خلال كتابه «طعم المُربَّيات» الذي ترجمه إلى العربية الكاتب الصحفي سعيد عاهد…
لم يكن الحي اليهودي بالدار البيضاء منغلقا على نفسه مثل باقي الملاحات في المدن الأخرى، فلم تكن تفصل المسلمين واليهود أي حدود، لا دينية ولا اجتماعية، ولا تزال كتابات عديدة تتحدث بكثير من النوستالجيا عن تلك الفترة من بداية القرن وحتى بداية رحيل هذا المكون الأساسي من مكونات المجتمع المغربي. لقد كانت أغلب المنازل متقاسمة ومشتركة بين الشعبين مسلمين ويهود، يجمعهم جوار واختلاط وعيش مشترك كريم، كان تبادل الزيارات والمشاركة في الاحتفالات والأعراس والمناسبات والسمر والسهر، بل حتى العزاء، أمرا عاديا وشائعا، ولم يكن هناك فرق بين أسرة يهودية وأخرى مسلمة، فكأنهم أفراد أسرة واحدة لا فرق بينهم، يتعاطفون ويتآزرون ويتعايشون في ود وسلام، حسب ما جاء في كتاب «المدينة القديمة بالدار البيضاء ذاكرة وتراث» لحسن لعروس.
عادات كثيرة كانت تميز اليهود ومعيشهم اليومي ومنها ما حكاه ابن المدينة القديمة في كتابه السابق الذكر، أن أكلتهم المفضلة يوم صومهم كل سبت كانت طعام «السخينة»، التي كانوا يعدونها من القمح الجاف واللحم والبيض المسلوق، ورغم أن طعام المسلمين محرم عليهم في شريعتهم ويسمونه «حامص» أي حرام، إلا أنهم كانوا يهدون بعضا منه وخصوصا هذه «السخينة» إلى جيرانهم المسلمين. في عيد الغفران يمتنعون عن أكل الملح في أطباقهم التي يقدمون أيضا بعضا منها لجيرانهم المقربين من المسلمين، أما خبزهم فكان عبارة عن رقاق بدون ملح، وعند «تذويقهم» لهؤلاء الجيران يوصونهم بعدم غسل الأطباق لأن ذلك محرم في شريعتهم، ثم يعودون، عندما تنتهي أيام صيامهم إلى تناول المأكولات العادية المالحة، وكانت لهم في ذلك عادة غريبة مع المسلمين، يقول كاتب ذاكرة المدينة القديمة بالدار البيضاء ذاكرة وتراث، في شهادة حية عما عاشه وأسرته من خلال تعامل والده مع جيرانه اليهود: «كانوا يتبركون بالمسلمين ليخرجوا من صومهم عن أكل الملح، حيث كان لزاما على الأسرة المسلمة التي كانوا يرسلون لها أطباقا من أنواع المأكولات» المسوسة «، أن ترد لهم الجميل بالمثل، ذلك ما كنت أشاهده في منزلنا عند طفولتي. كانت العادة أن يشتري والدي سمكة من نوع «الشابل» مصحوبة بالفواكه الجافة، تمر ولوز وجوز وتين مجفف، ومعها باقة من الفول الأخضر وباقة من السنابل والورود، لأن عيدهم هذا كان يأتيهم بداية فصل الربيع. كنت أراه يضع السمكة وسط إناء صينية يضيف إليها الفول الأخضر والسنابل والورود، ويضع معها صحنا به الفواكه الجافة، وما هو ضروري ومؤكد عند اليهود هو أن يضاف إلى ذلك كله صحن صغير به قطعة عجين مالحة لتقدم لهم كتهنئة وتبريك وليمزجوا تلك القطعة المالحة بعجينهم ويرسلونها إلى الفرن ليشرعوا في أكل المواد المالحة، وبها يكونون قد أنهوا صيامهم، وهي عادة كانت سائدة بالمدينة القديمة ولا أعرف مصدرها ولا تاريخها ولا كيف أحدثت» ..
من عاصر تلك الفترة التي تعايش فيها المسلمون واليهود في نفس المكان يشهد أن لا فرق كان بينهم حتى في احتفالاتهم، نفس العادات والتقاليد، فالتلاحم والترابط بينهم سجل حتى في الأعراس والمناسبات إذ لم تكن هناك اختلافات كثيرة بين عرس إسلامي وآخر يهودي، سواء في اللباس والجلباب والطربوش والبلغة أو ليلة الحناء والطرب والزغاريد وحتى التكبير، لقد كانوا أسرة واحدة داخل الأحياء الشعبية للمدينة القديمة، كل شيء قابل للقسمة على اثنين عن طيب خاطر، دورهم ومنازلهم وأفراحهم، وحتى أحزانهم، يتبادلون التهاني والتبريكات بالأعياد والمناسبات والأفراح، يرتادون نفس المقاهي والحمامات، ويملؤون القسم الغربي من المدينة القديمة عن آخره .. .
هذا الترابط تكرس أكثر وزاد، يقول ابن المدينة القديمة، بعد ظهور فئة من المطربين اليهود، من بينهم سلبم لهلالي وسامي المغربي وألبير سويسا وغيرهم، بأغانيهم التي كانت تتغنى بها الطبقات الشعبية، مسلمين ويهودا، ولقيت صدى واسعا على الصعيد الوطني، ولا تزال تتردد حتى الآن وتغنى في الأعراس والحفلات .
بعد أحداث مؤسفة وقعت بالدار البيضاء سيكتب لهذه القواسم المشتركة في الحي الغربي أن تنتهي وتتبخر لتصبح في خبر كان، وتتحول الحياة بين المسلمين واليهود في المدينة القديمة للدار البيضاء إلى مجرد ذكريات يتذكرها من عايشها ويحكيها بكثير من الحنين، فقد بقيت هذه الحالة المسالمة التي يطبعها التعايش والسلم إلى أن نفي الملك محمد الخامس رحمه الله، وما استتبع ذلك من كفاح ومقاومة للمستعمر بكل ما يملكه المغاربة من أموال وأرواح، ثم في سنة 1955 يوم الخميس 14 يوليوز، ستتفجر أحداث دامية بالمدينة القديمة مع تفجير المقاومة المغربية لقنبلة بأحد المقاهي، المقهى الكبير لمرس السلطان، كانت تملكها امرأة أوروبية وهي المقهى المعروفة «بحانة مدام كران»، تفجير أسفر عن مقتل وجرح فرنسيين كانوا يحتفلون بعيدهم الوطني وكان يشاركهم، حسب ما حكاه حسن لعروس، يهود متطرفون.
ستلي هذا التفجير أحداث دامية أتت على الأخضر واليابس ذهب ضحيتها مغاربة نساء ورجالا وأطفالا، فبعد ذلك الانفجار قرر المستعمرون الانتقام لبني جلدتهم فتوجهوا إلى ساحة درب عمر وأضرموا النار في متاجر المغاربة، وقتلوا في طريقهم كل من صادفوه دون رحمة، لم يميزوا بين طفل وامرأة أو شيخ، وعندما وصلت الأخبار المفجعة كل المسامع وأولها أبناء المدينة القديمة قام الشباب المغربي بتكوين مظاهرتين خرجت الأولى من المدينة القديمة وملحقاتها والثانية خرجت من درب السلطان، وانتشر الجمعان الغاضبان بين الأحياء الأوروبية لتتواصل المواجهات على مدى ثلاثة أيام بلياليها، فرضت خلالها حالة منع التجوال ليلا، لكن رغم ذلك بقيت المواجهات بين الطرفين ..كانت معركة حامية الوطيس، دامية، وصل فيها الغضب العارم عنان السماء، وانتشرت الأدخنة والنيران المستعرة في القلوب والشوارع، وأحرقت السيارات والمتاجر والمرافق، فقد أصابت الشبان المغاربة حالة من الهيجان والهستيربا غضبا وحنقا على ما قام به المستعمرون من قتل للأبرياء وتنكيل بهم، فأحرقوا كل ما يملكه الأجانب ودمروا السيارات، واستعمل جنود المستعمر والمعمرون الرصاص الحي والقنابل، منهين حياة العشرات من البيضاويين، لكن الأنكى ما وصل إلى علم هؤلاء الشبان من كون مجموعة من اليهود المتطرفين شاركوا مع الفرنسيين في موجة القتل والتنكيل بالمغاربة المسلمين ليتوجه هؤلاء إلى منازل اليهود ويقومون بإخلائها وإحراقها، وكان من نتائج هذه الأحداث المؤسفة يذكر ابن المدينة القديمة، تخلي اليهود عن مساكنهم والرحيل خارج السور تاركين حي التناكر والأحياء المحيطة به كجامع الشلوح وزنقة آسفي وساحة لفرينة وزنقة أزمور وزنقة موكادور وزنقة بين الجوامع وزنقة الصليب الأحمر، ليستقروا بكل من الملاح وباب مراكش وبوطويل ودرب الانجليز وساحة وادي المخازن فردان.. ولتطوى بذلك هذه الصفحة من تاريخ اليهود بالقسم الغربي من المدينة القديمة…
(يتبع)


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 27/03/2024