الدار البيضاء …تلك المدينة -17- الجالية الأجنبية ..بداية الأفول

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير

 

لقد استمر هذا الزخم طوال النصف الأول من القرن العشرين وإبان الحماية الفرنسية إلى الاستقلال ليبدأ في التراجع شيئا فشيئا وإلى حدود سنة 1960 كانت هناك جنسيات أوروبية مختلفة كان من بينهم الفرنسيون والجزائريون والإسبان والإيطاليون والبرتغاليون إضافة إلى جنسيات أخرى قليلة التمثيلية نذكر من بينها البريطانيون والبلجيكيون والسويسريون والأمريكيون الذين وصل عددهم إلى 1470 بالدار البيضاء من بين 4280 في المغرب.
واستنادا إلى الإحصائيات التي تمت بين 1926 و 1951 تضاعف السكان الأجانب بالدارالبيضاء أربع مرات و134 مرة بين 1936و 1951 و20 مرة بين 1907 و1913 و6.6 مرة بين 1913 و1951، وقد تضاعفت تقريبا بين 1936 و1951 . وحسب أندري آدم وكتابه «الدار البيضاء»، فقد استمر عدد السكان الأجانب في التزايد بعد سنة 1951 لكن انطلاقا من 1951 إلى 1960 سيسجل تراجع في أعدادهم وتقلص بنسبة 13 في المئة بالدار البيضاء، وكغيرهم من المهاجرين الذين استقبلتهم البيضاء فإن أسباب هذا النزوح إلى مدينة ناشئة تعد بالكثير وتقدم فرصا كبيرة للشغل خصوصا بالميناء كانت اقتصادية بالأساس إضافة إلى نشاط المدينة الصناعي بخلاف مدينة طنجة مثلا التي كانت تضم جالية أجنبية أغلبها من الإسبان يتكونون من سياح فصل الشتاء ومتقاعدين وعشاق الفن، ومن أغنياء عالميين من مضاربين ومغامرين، أما العاصمة الإدارية الرباط فكانت مدينة للموظفين وأغلب الأجانب بها تكونوا من الموظفين في فترة الحماية الفرنسيين، بخلاف الدار البيضاء التي كانت تجتذب بالإضافة إلى الباحثين عن الفرص الاقتصادية، كل تاجر أو موظف أو طبيب غادر مرغما مدينته الصغيرة التي خلت من الأوروبيين وكان يتجه إلى البيضاء عله يجد بها فرصا أكبر في الشغل أو زبناء خصوصا إذا كان لا يرغب في مغادرة المغرب.
يخبرنا أندري آدم من خلال كتابه «الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب» أن الحركة العددية للأجانب بالمغرب لم تختلف كثيرا عن تلك المسجلة في صفوف الجالية الفرنسية باعتبارها أكبر الجاليات بالدار البيضاء، حيث تم تسجيل تزايد إلى حدود 1951 ثم تراجع ابتداء من سنة 1960 مع تسجيل ثلاثة استثناءات في صفوف الجالية الإيطالية والجالية الإسبانية ثم الجاليات من شمال إفريقيا.
بخصوص الجالية الإيطالية فقد أصبحت أقل عددا سنة 1951 منه سنة 1936، ويرجع المؤرخ ذلك إلى حالة الحرب بين بلدهم وفرنسا ابتداء من سنة 1940، وهي الحرب التي دفعت عددا من الإيطاليين إلى الهجرة حيث كان عددهم بالمنطقة الفرنسية 15521 نسمة سنة 1936 ، ليصبح 13337 سنة 1951، وبعد الاستقلال زاد تقلص أعدادهم حتى أصبح 11028 سنة 1960بما كان يسمى بالمنطقة الجنوبية، الواقعة تحت الحماية الفرنسية.
يتعلق الاستثناء الثاني بالجالية الإسبانية، فقبل الاستقلال كان تزايدها لا يختلف عن حركة الجاليات الأخرى ورغم أنه كان بطيئا إلا أنه كان مستمرا ، 22600نسمة سنة 1931 و 23300 سنة 1936 و25600 سنة 1951 بالمنطقة الفرنسية .
ثم الاستثناء الثالث الذي طبع الجالية من شمال إفريقيا ويتعلق بتزايد الجزائريين الكثيف، وكانت الدار البيضاء تضم العدد الأوفر منهم بعد مدينة وجدة، وكان هؤلاء اللاجئون الجزائريون لا ينتظرون سوى نهاية الحرب للعودة إلى بلادهم، وهذا ما فعلوه ابتداء من سنة 1962.
بعد نيل المغرب لاستقلاله سيغادر حوالي 20 ألفا من الفرنسيين المغرب بين الأول من يناير و 31 يوليوز 1965، ولم يبق من الأوربيين إلى حدود هذا التاريخ إلا 117679 ، و في ما يتعلق بمدينة الدار البيضاء فإن عدد الفرنسيين المسجلين بالدائرة القنصلية، والذي يتجاوز حدود المدينة بلغ 87792 في 31 ديسمبر 1961 و 83991 سنة 1962و 82303 سنة 1963 و في أواخر 1963 كان تقدير عددهم 77500، و 76000أواخر 1964 وقد وصلت التشطيبات خلال السبعة أشهر الأولى من سنة 1965 12000، أي ما يقارب 11000 بالنسبة إلى الدار البيضاء ، وتبعا لذلك لم يبق من ساكنة الدار البيضاء الأجانب إلى حدود الأول من غشت سنة 1965 إلا 65000 فرنسي تقريبا.
لقد كان سكان الدار البيضاء الأجانب مثلهم مثل السكان المغرب أغلبهم شباب وخصوصا من الفرنسيين، وبسبب نسبة الشباب هذه شبه الباحثون المدينة بالبلدان ذات الديناميكية كالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كان يجعل فرنسيي المغرب يفخرون بهذا الوضع أمام الفرنسيين المقيمين بالبلد الأم، الذي كان يعاني من ركود وشيخوخة مستفحلة خلال تلك الحقبة، وهو شعور بالتفوق استحوذ كذلك على الجالية الأوروبية بالدار البيضاء إزاء أهل البلد أنفسهم حيث إن عددهم، وخصوصا الشباب منهم، الذي فاق حتى المسلمين مكنهم من أن يتمتعوا بحالة نفسية مخالفة لتلك التي يعيشها الأوربيون الآخرون بمدن كبيرة أخرى مثل فاس ومراكش، لأن هؤلاء كانوا يقاومون الشعور بكونهم أقلية مع ما يرتبط بهذا المعطى من شعور عميق ومكتوم بالقلق رغم حصولهم على الامتيازات.
لقد كانت أسباب هذا التراجع في أعداد المهاجرين الأجانب بالمغرب وبالتالي بالدار البيضاء، الإجراءات التي تضاعفت بسبب تأميم التجارة الخارجية لبعض المواد ومغربة وزارة العدل وتقليص المساعدين التقنيين بنحو 20 في المئة، وهو ما جعل الجالية الفرنسية بالخصوص تفقد توازنها العددي، فما شجع هؤلاء الأجانب، حسب المؤرخين، على القدوم إلى المغرب في ما مضى والاستقرار بالدار البيضاء، على وجه الخصوص، تخلي الدولة الشريفة عن الاحتكار وتطبيق الحرية التي جاءت بها المعاهدة المغربية الإنجليزية، وبعد قرن من الزمن هاهي العودة إلى الاحتكار نفسه (التأميم )الذي سيدفع هؤلاء إلى مغادرة هؤلاء الأوربيين للبلد « هذا لا يعني أن التاريخ يعيد نفسه لأن المقاولة المؤممة اليوم لا تربطها علاقات حقيقية مع الاحتكار السلطاني القديم، وهؤلاء الذين يذهبون اليوم إلى حالهم يتركون وراءهم مدينة الدار البيضاء مخالفة لذلك التجمع السكني الذي جذب أجدادهم « أندري آدم.
وحسب ذات الكاتب فإن الدور الذي سيلعبه الأوروبيون الباقون بالمدينة لا يمكن مقارنته مع الدور الذي لعبوه منذ نصف قرن من الزمن حيث أن عددهم بغض النظر عن وضعهم يمنعهم من لعب أي دور مهم في الدار البيضاء ما بعد الاستقلال .
لقد غادرت أعداد كبيرة من الأوروبيين البلاد سنوات 1962 -1963-1964 لكن المغرب استمر في جذب آخرين وصلوا ليس فقط في رحلات عمل أو للسياحة بل للإقامة بعض الوقت، وكان هؤلاء القادمون الجدد لا ينوون البقاء بالمغرب لمدة طويلة بل سيمكثون فقط سنوات قليلة، وقد انتمى أغلبهم إلى أشكال مختلفة من المساعدين التقنيين أو الثقافيين كانت تحتاجها البلاد في ذلك الوقت ، وشكل الفرنسيون بينهم الأغلبية لأسباب لغوية أولا ثم لأن المغاربة اعتادوا العمل معهم، وهؤلاء أيضا سيقعون تحت التأثير الطاغي للدار البيضاء التي ستحتضن العدد الأوفر منهم في دروبها وأحيائها الأوروبية.


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 30/03/2024