الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -3- عندما تعيش الإمبراطورية والدولة الوطنية جنبا إلى جنب في المغرب الحديث..

 

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

إن إعطاء الأفضلية للدولة كمدخل للتفكير في السلطة وممارسة السيطرة (والهيمنة) في المغرب يعني مواجهة تقليدين راسخين ورسم طريق تحليل خارج بعض المفاهيم الكبرى التي تكمن وراءها، وهي في نظرنا أقل ملاءمة للقبض على كل تفاصيل وتعقيدات وتغيرات مختلف التشكلات السياسية للمملكة.
أول هذين التقليدين يعتبر الدولة ضمن رؤية نشوئية ـ تطورية، وذلك بتفضيلها للتفكير عبر نمط النظام السياسي، عبر مستوى تمايزات وتعقيدات المؤسسات، أو عبر الاستعداد القبلي لتنبي سيناريو للانتقال. والابتعاد عن هذا، يعني التحليل خارج مفهوم السلطوية autoritarisme بدون إنكار البعد السلطوي للحُكْم أو خارج مفهوم الديموقراطية بدون إغفال الديناميات النابعة من لدن المسيطر عليهم أو الطرائق، المُمَأْسسة بهذا القدر أو ذاك، للبحث عن التوافقات أوالتسويات (يذكرنا بروييرBreuer بأن الديموقراطية عند ماكس فيبر هي “وسيلة للوصول، بِمشقَّةٍ إلى تسويات وليست ندوة فلسفية أو مؤسسة للتربية الأخلاقية في خدمة الحق والخير والجمال”). ويعني كذلك أن نحمل على محمل الجد التحولات الحاصلة بدون استباق توجهها واتجاهاتها¡ وبدون السقوط في ما يسميه بيتر براون ” إيديولوجيا التغيير”!
التقليد الثاني، هو يعمل على تمديد الإرث الاستشراقي مع انتقاده في نفس الوقت، وهو الذي نعته البعض بـ”الاستشراق المعكوس” (على حد تعبير المفكر السوري صادق جلال العظم).. هذا النوع الثاني ينتج أشكالا أخرى لتأصيل دولة إسلامية مثالية، والابتعاد عنه يعني التفكير من خارج النظرية الإسلامية للسلطة. بدون إنكار الدور الذي يلعبه الدين في ممارسة السلطة وشرعَنَتِها. (هشام شرابي نموذجا)، وهو أيضا التفكير من خارج نظرية الباطرياركية، بدون إهمال أهمية تاكتيكات التزاوج (الماتريمونيالية) وتوظيف القبيلة في الانتخابات كما في استراتيجيات التنمية أو في ممارسات المشاركة. ويعني، في الأخير، التفكير من خارج التنظيرات لعبودية (وخنوع) سببها علاقات الشيخ والمريدين في الأعراف الطُّرُقية للزوايا (انظر عبد لله الحمودي)، بدون إخفاء الحضور الهامشي لهذه الأوضاع الاستعبادية (السُّخرة ) على المستوى المنزلي كما السياسي..
هناك ثلاث مسلمات أرشدت هذا المشروع المنبيمعلى اتخاذ مسافة مما سبق: استثمار مغاير للأعمال الحديثة العهد حول راهنية البعد الإمبراطوري، إعطاء مكانة مركزية للمخيال، منظورا إليه كَرَحمٍ تنمو وتنتشر فيه عمليات تطبيع وشَرْعنة العنف في علاقات السيطرة، والتفكير عبر النموذج المثالي أو المجرد الأسمى (بالمعنى الفيبيري نجد أن النموذج المثالي L’idéal-type يعني أداة تحليل منهجية في العلوم الاجتماعية، وهو النموذج المجرد الذي يعين على فهم بعض الظواهر والتنظير لها…).
ـ استثمار مغاير للعمل حول البعد الإمبراطوري في الوقت الذي كانت فيه العلوم السياسية في تسعينيات القرن الماضي تتابع بغير قليل من القلق القيَّاميِّ وصول الإسلاميين إلى الحكم في الجزائر ومصر والسودان، وكان الاقتصاد السياسي يحلل العدد الهائل من الإكراهات والمقاومات التي تواجهها الإصلاحات النيوليبرالية، فاجأتنا أعمالنا حول التحوُّلات السياسية والاجتماعية في المغرب بنقطتين اثنتين: السهولة التي قَبِل بها الإسلاميون بل التي اندمجوا بها في مجموع التصورات التي اقترحها الجهاز البيروقراطي للدولة، بل دورهم في استدراج الأحزاب الأخرى في السلطة، بما فيها الاشتراكية، للتخلي عن تردداتها إزاء متطلبات النيوليبرالية.
هذه المفاجأة قادتنا إلى النظر إلى التجربة التاريخية للنيوليبرالية انطلاقا من ممارستها الفعلية، والنظر إليها كذلك على ضوء الطريقة التي تتمثَّل (وتُقدِّم ) بها الدولة نفسها والطريقة التي تُقدَّم بها وتُفْهَم بها، متفاعلين في ذلك مع التعريف الفيبيري للدولة المذكور أعلاه.
وفي نهاية هذا البحث، الممتد لعدة عقود، توصلنا إلى التفكير بأن هذه التمثلات ليست ناجمة فقط عن وجود شكل الدولة المسماة عادة الدولة الوطنية، بل عن شكل آخر سميناه الإمبراطورية أو الدولة الإمبراطورية، إذ أن مميزات هذين الشكلين يتعايشان، وليسا متنافسين بل متزامنين، ولا يقتصر ذلك على تمثُّلِهما، بل نجده في طرق الحكم الملموسة. (وعدم تلاؤم بين الإمبراطورية والدولة الوطنية هو الموقف العام الذي يتبناه خبراء الدولة، وقد أخذه مجددا بيير وبردي أو عبر النزعة القومية كما في أعمال بينيديكت اندرسون في عمله الأساسي أو الفيلسوف البريطاني التشيكي ارنست غيلنير، عالم الإنسانيات والاجتماع الذي اشتهر بدراسته عن أمازيغ الجنوب عبر كتابه الشهير “صلحاء الأطلس”…. م)


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 25/03/2023