الظاهر والخفي في لوحة الفنان التشكيلي المغربي محمد فيلالي فكير

كل شيء في هذه اللوحة يوحي بالانقباض والزوال،  فاللون الكستنائي يفرض سكونا مستلهما من المكان والزمن يجعل المتلقي يشعر وكأن الزمن متوقف عند هذه اللحظة بالذات، رغم أن النهر يضفي نوعا من الحياة على هذا الفضاء الذي لا يوجد إلا  في مخيلة فنان عبقري جاءنا من فاس، المدينة العريقة والعلمية التي تزخر بالمبدعين.
إذا أمعنا النظر في اللوحة، نلاحظ أنها تقف على ثلاثة عناصر أساسية: الطائر والنهر والشجرة، مما يثقلها بمحمولات يفرزها الواقع على رؤية الفنان.فهذه المحمولات المتعلقة بالأشكال  غير منفصلة عن بعض، بل مرتبطة في ما بينها  ولا تبرح إطارها الفني، فهي تخلق وحدة النص التشكيلي رغم  أن الخطوط والألوان وما يحوم حولها تكون في حالات متباينة بدرجة اللون، وطبيعة الخطوط وتداخلها، مما  يدل على بنية سردية قادرة على عكس ما هو مرئي في الواقع، بنظرة تشكيلية خالصة، يحضر فيها الخيال إلى جانب أفكار مبدع يتقمص شخصية فيلسوف،  يتفرس الوجود كما يتفرس الرسام الوجوه «كما قال المفكر الفرنسي موريس ميرلوبونتي».
إذن فنحن هنا  أمام تجربة تجمع بين البعدين الفكري والجمالي، تزاوج بين البحث عن العمق، ومتعة النظر.
فهذا الطائر الذي يبدو أمامنا بحجم صغير، وكأنه معلق، يأخذ حيزا  مهما في هذا الفضاء الموحش نظرا لرمزيته المعتبرة، المتعلقة بالهجرة وعدم الاستقرار في مكان معين، وقدرته على مفارقة البدن لحظة الوفاة، حيث كان المصريون القدماء يصورن الروح أو «البا»  على هيئة طائر برأس بشري وفي الديانة الهندوسية يرمز  إلى ذلك  أيضا. أما النهر الذي يفصل الضفتين، فهو  يوحي بالاستمرارية والحياة ،  وأما الشجرة الخالية من أوراقها، فهي طبعا  تذكر بالخريف، أو بداية النهاية المشار إلى ذلك بلون غامق، مستوحى من لحظة الغروب وأفول شمس تدل على الحياة  طبعا، لكنها هنا تبدو وكأنها منكمشة، وعاجزة عن  إرسال أشعتها بعيدا في الأرجاء كلها، أرادها المبدع أن تبقى محصورة داخل غيوم كثيفة،  تشكل ستارا غير شفاف يطمس زرقة السماء.
تتوالى المفردات في تتابع تام، وبطريقة عمودية على إيقاع تدفق المياه للدلالة على  التجدد، يشعر به المشاهد عبر  إطار مربع، تم تشكيله اعتمادا على قالب هندسي ليقوي تلك المعركة من أجل البقاء، وتأجيل ساعة الوداع، وكأنه حلبة تحتضن صراعا أبديا بين الحياة  والموت، تم تجسيده من خلال   لون حار وآخر بارد وشجرتين، إحداهما مورقة خضراء في طور النمو، والثانية مهترئة ويابسة في مرحلة الاحتضار، إلى جانب خيط رفيع، يتمدد مخترقا أحد الخطوط العمودية في اتجاه أسفل اللوحة لتصوير السقوط الحتمي، وتأجيج السجال الأبدي القائم  بين الثابت والمتحول الذي اشتغل عليه الفلاسفة منذ القدم، والتذكير كذلك بالنهاية التي لابد منها.
وما يضفي على اللوحة بعدها الجمالي، هو توظيف تلك الألوان المخملية التي تطبع الفضاء كله بصبغة سديمية، تكتسح أفقا لامتناهيا يجعل من الخلفية محورا مهما في العمل إلى جانب العناصر الصائتة التي تمثل الحياة، والصامتة ،المثيرة للرهبة البصرية التي تدفع الحس الجمالي نحو البحث عن التفاصيل وحيثياتها الدقيقة التي تتوج عبقرية هذا  التمازج التشكيلي على مساحات واسعة، تتوازن فيها الخطوط الداخلية والخارجية،  وبمؤثرات دقيقة  تدفع بالبحث عن الفراغات بين تراكم الالوان وفي خضم الأشكال  رغم تباعدها وتأثيرها على الواقع البصري  الذي يستمد توازنه  المتميز من العمق، المنبثق من طقوس ونظم فكرية ، تتجسد في لوحة تقوم على التضاد  اللوني الذي لم تتم صياغته  من الانعكاسات الضوئية، بل من خلال طريقة التكثيف والتخفيف، ولذلك تشعر بالألوان وكأنها  تطفو بشكل انسيابي داخل  المساحة الجغرافية  المحددة، وفق منظور هندسي، تفاديا لاغتيال تجليات صورة تغيب  فيها الظلال، تبدو  غير قارة  وفي امتداد مستمر، سيما وأنها جاءت مسطحة، غير مقعرة ، وخالية من النتوءات بفعل خلفية تستمد كثافتها من لون داكن،  يشكل ضبابا ثقيلا وغامقا، يرخي سدوله حتى على الحواشي ويقف كحاجز  لإيقاف تحليق ذلك الطائر الذي يظهر فاقدا توازنه للعيان بفعل خيط رفيع يربط  ساقيه، لكن ومع ذلك، لم يفقد الأمل في البقاء، مما يفسر اتجاهه نحو فتحة أمل، أبى الفنان إلا أن يستحضر من خلال ذلك إنسانا لا ييأس، وفي بحث دائم عن مسلك جميل، يوصله للنجاة والخلاص، ولذلك حضر طائر اللقلاق بالذات، لارتباطه بالإنسان على الخصوص، وقدسيته عند بعض الشعوب، مما يزيد اللوحة بعدا روحانيا، يستمد طقوسه من بعض الثقافات الشعبية التي ترى فيه فال خير، وذلك ما يواري عن الصورة جزءا من صبغتها التشاؤمية، ويجعلها مفتوحة على أكثر من تأويل وغير خاضعة لمعنى جامد، تضعه الفرشاة على قطعة قماش، وتحصره داخل صباغة زيتية، سيما وأنها جاءت ضمن سلسلة أعمال بدلالات متعددة، بعيدة عن التحايل، أنجز بعضها سنة 2019 ، وقد  حرص المبدع على تقديمها بلمسة سريالية تحيلنا إلى حد ما على مدرسة الفنان دالي، حيث لا نصادف  إلا أشجارا مفتولة، وعارية، تتيه  مع منحنيات ممدودة في الضباب على إيقاع صدى يخرج من عمق متاهة الزمن،  تتشكل من خاطر وإحساس فنان، قد تحمله فرشاته إلى تجاوز عالمه الواقعي للوصول إلى «النيرفانا»،  معتمدا على خامة أحيانا طبيعية، لا يعبث بها، بل يوظفها بشكل دقيق، بعيدا عن العشوائية و الإبهام المركب.
رغم أن هذه اللوحة جاءت بفجين يفصل بينهما نهر، لكن  ينظر إليها كمساحة واحدة تحتضن ثنائيات، ترسخ المبارزة غير المتكافئة بين القوة والضعف،  يتم تصورها من خلال  مفارقات، تختزلها أحجام صغيرة ، تقابلها أخرى ضخمة، تعمد الفنان خلق مساحات بينها لإعطاء فرصة إيجاد منفذ ، يلقي نحو أفق لا يعرف منتهاه، في إشارة منه إلى أنّ بصيص الأمل يبقى قائما وراء هذه البرية التي لا تشبه الأجمة في شيء، والنور لا يختفي من الحياة، وشمس التفاؤل والحياة والحرية لا تغيب،  إلاّ إذا تعمد الإنسان غض الطرف عنها.
والحقيقه أن تصور المبدع  الكبير  محمد فيلالي فكير، ونظرته للحياة  هو ما يبهرنا في هذه القماشة بإيقاعيها الفلسفي والفني، لقد ترك فيها بصمة خالصة وخاصة، تقوم على التخلص من المحاكاة ، وتجنب  التكرار أو التقليد، و استطاع عبرها الكشف عن علاقة الإنسان وتفاعله مع تقلبات الطبيعة،  والنفاذ إلى أعماق عوالم الذات الإنسانية التي ترفض كل شيء غير جميل، يثير الاشمئزاز، مما قد يمكن المهتمين من التعرف أكثر إلى  ميول هذا التشكيلي الفذ  الذي يفضل الاشتغال في الظل، بعيدا عن الغوغاء والبهرجة الإعلامية، ومع ذلك فهو معروف محليا، ووطنيا، ودوليا، وأعماله تزين العديد من الكتب  والدواوين الشعرية.


الكاتب : ذ.عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 22/01/2022