اللعبة السردية في رواية» نوارة « لعبد الإله رابحي

 

أمست السرديات عالما قابلا لخلخلة بنائه الداخلي بتفاعل أنماطه. دينامية هي جديدة تفتح شهية نكران الذات السردية المستقلة، والتنقيب في ملف الكاتب السير ذاتي، خصوصا عندما نلمس هذا التداخل الذي حتمه الفعل السردي داخل «نوارة»…
لقد بدا رابحي/ الناقد في «نوارة» ممارسا للكتابة بِحرّية من حيث الوعي الجمالي بها، فجاب عوالم السرديات المختلفة، تأرجحت فيها الذات الساردة بعيدا عن التقاطعات النصية بمفهوم كوهن، لتصبح الكتابة عنده كما يقول جبرا «حياة ودلالة في الحياة».
هكذا رؤيته التأملية لروافد الهوية وطنيا وقوميا، دون أن يلغي حضور الآخر بحضارته في الثقافة العربية ك»موسم الهجرة إلى الشمال» و»قنديل أم هاشم»..ولا بطابعه التاريخي كما عند فوكو.. إذ تصبح الذاكرة محكي «نوارة» واقعيا ومعتقديا، ووحدات قائمة بذاتها كتجمعات البلدة منطلق الأحداث في «امتداد الوصل المظلم بين الهنا والهناك، بين الدور المتراصة السطوح، وقد اشتعلت أضواؤها اللامعة البراقة وفتائل الهنا الباهتة لا يدركها غير ابن الأرض..» ص3
فتحريك الذاكرة تأريخ لذات الكاتب السردية بتداعياتها الواعية أو المندفعة إيديولوجيا مرحلة بناء الشخصية المغربية. لذلك جاءت «نوارة» تمزج بين السيرة عندما أضحى صوت الكاتب جزءا من مرحلة معينة للشخصية البؤرة «العربي» وبين الرواية. أي قيام البنية السردية على المزاوجة بين السرد الموضوعي والسرد الذاتي بتعبير «توماتشيفسكي»» بين الإدراك والوعي به، وبين تداوله القائم فكريا، وأنثروبولوجيا..» تلك كانت عادتها كلما عزمت على زيارة الولي الصالح … وحْدَة عْلِيَّ وعَلْ الباقينْ، والتَّانْيَة عْلى وْليدي.. أَسيدي ومُلايْ» ص7
كل هذا يصلنا بضمير «الأنا» في تقاطعاته الفكرية، والأدبية لأنا الكاتب، وكيفية تغليفه بالأنا المفترضة للسارد في تتبع خطواته اجتماعيا، بدءاً بالبادية والغلاف الزمني لشخصية العربي : الطفولة ومعاناتها من الضغط، أو الخصاص، أو المحتمل المفقود «المعلم وقهره.. السلطة لدى الشيخ وامتدادها..» وحضَرية الحياة للحاج أحمد كيفما بصمها المستعمر.. إلى
الانفتاح على المدينة، والتطلعات التي راودته ب»الداخلية» كلما تأمل عالمها الخارجي، وحرقة حلم تجاوز المحلي والوطني نحو الآخر (نموذجه الحاج أحمد) « كانت الساحة تغلي..وآخرين مثلي بعيون صافية يتوسلون لصخب المكان أن يكون رحيما « ص21
لقد وجد «جيل العربي في الاحتكاك بالجو الطلابي، وحماس الفكر اليساري، تراكمات قبيل الاستقلال، فكانت الحاجة ماسة إلى بناء الهوية باعتناق كل وافد ثقافي في بعده التنويري والثوري، لمواجهة الحد من حرية التفكير : اعتقال عمر/ النقاشات، التأثر بما هو تقدمي، تبني إيديولوجيات مختلفة الروافد، التهافت نحو فجر تحرري قادم من الضفة الشرقية (المجتمع السوفياتي)، وحركاته التحررية بأمريكا اللاتينية مع غيفارا ونيرودا وكاسترو «..جلست مطولا بين سطور في كتب.. غزت رفوف المكتبات قادمة من أصقاع ثلجية سيبيرية.. متحجرة البياض بين المنجل والمطرقة..والرايات الحمر..ودخان السّيكارْ، ووعورة الأدغال، وأغاني الثوار، وأناشيد للأقدام الحافية السائرة على الصفائح الساخنة، ورقصات الطيور المذبوحة، تهتُ أحلم بالوطن الجميل» ص25
هذه المرحلة فتحت آفاق الذات نحو تحقيق الطموح، حين ترسخت صورته في القادم من عالم الآخر « صيفا كان أبناء المدينة العائدين من هناك من خلف البحر..فأهوي في الحلم، في المتاهة « ص22ــ23
إن مزاولة الدراسة بالخارج، مرحلة تعكس في عمقها تضاربا لعالمين مختلفين سلوكا وقيما وثقافة، وما تنطوي عليه أسئلتها الحارقة « عدت إلى البلدة … إلى حب البلدة الدفين « ص 26
فاستمرارية الرغبة في حياة الآخر وأرضه، تجعل من «العربي» لوحة تشكيلية للغائب المضمر، كحلم مؤجل تهفو إليه العامة (المهاجرون، والعمال، والنخبة..) و»العربي» نموذج منفذ كما عبر عليها «العربي ابن الحاج أحمد» حين قال للعربي «إنه ليس صدفة عابرة من صدف حكي متعثر..بل إنه مدار الحكي كله «ص24
فالواقع الوردي بتراكماته التي حفرت أخاديد الحلم بالذاكرة، ترتيب ذهني، سبيله صعوبة التأقلم مع الجو الجديد بكل تبعاته دراسة، وعملا، ومهانة ضريبةً لمقاومة أهّلتها صدفُ الأحداث المتولدة عنها (المطعم، مساعدة الأب نينو، العمل مع موشي..) هذا التفاوت ساهم بضرورته القسوى في بناء الذات مهندسا ومقاولة :
« ــ ألو مسيو العربي .. صباح الخير ….
ــ يسرني أن أخبركم أن مقاولتكم الفتية قد حظيت بالاهتمام …» ص30
خطوة استشراف المؤجل كما تسرب إلى وعي العربي، هاجسه الموقع الجديد، واعتقاد بسحب هويته التي طاردته في البلدة ونوارة بكل مكوناتها «..وبدأت أقلب أوراق ملف المشروع وبين السطور والأرقام تزداد البلدة ابتعادا، وتضيع على إيقاع رنات الهواتف «ص41
لذلك فهو حضور طبيعي بعد محاصرته بواقع بدأ يفقد خيوط رباطه به (تأخر زوجته يوميا، موقفها من تعلم ابنتها اللغة العربية، نظرتها الدونية إليه..) هي انتفاضة خجولة تبحث عن إمكانية قبول العودة إلى البلدة مادام يكتوي بظلها اللحظة « لم تعد البلدة حضارة فحسب بل لي أيضا أجداد وشموا الجنوب الغربي… « ص45.
حتى تتحقق شروط العودة إلى البلدة. وقتها ستكون له رغبة مسايرة إحساس طفولته بنوارة.. «في هذه الأرض خطوت خطواتي الأولى… في هذه البناية تعلمت أبجديتي المقدسة… هناك دار الشيخ… وتلك ضيعة الحاج أحمد… وذلك دكان الحاج اصغير…هنا بين هذين المسربين كنا.. نتسابق، نتقافز، نتراكل، نتعلم ركوب الحمير…» ص73
من هنا يتضح أن النسق السردي الذي تقوم عليه « نوارة « اتخذ محطات لحدثيات قصصية عندما يمسي الحوار بين العربي وصديقه وقفات متكررة دون أن تُظهر خللا في البناء العام لهذه الحدثيات.. وكأنه ينبئ بالتحول بعد أن استوفى شرط الاكتفاء بمهمته المتعالية عن لغة السرد الاسترسالية. إذ تتسم متونه ببعد فكري وثقافي ليس بالسهل تفكيك دلالاتها.
السارد يتحكم في ضوابط الحكاية، وكيفية توزيعها وراء كل وقفة حوارية دون أن ترتبط بها «زيارة الأم برفقة السارد/ الشخصية إلى الولي الصالح.. نوارة وخصلات أنوثتها …انتظار أبيه له أمام المدرسة…علاقته بنوارة…الإحساس بمرحلة الشباب…الداخلية وبعض تراتبياتها..الوضع الجديد بالغربة..الحاج اصغير ودوره داخل البلدة…» توليفة تثير إشكالية البعد الدلالي لهذا الحوار. أو إمكانية جعل الحوار الداخلي حتمية الارتقاء إلى إدراك صيغته الاستجوابية بقواه البنائية التخييلية، كي نواجهه كخطاب له مرجعياته الفكرية والفلسفية والإيديولوجية بمعنى ما. فتصارع هذه القوى داخل الذات جعلت شساعة الرؤية منطلقها البلدة/الواقع/العالم/المتنفس/الهوية/الذات، كما جيكور عند السياب…
ضمن هذه اللعبة ينفلت السرد من الحوار ويمتثل إلى السارد بضمائره (الأنا، الهو..) إحالة على الشخصية في عمقها اللاشخصي كما يذهب بنفنست، نستطيع إدراك هذا التلاعب بالعملية السردية أمام إمكانيات التوقع المتعدد… «قال صاحبي: بين الجذب والخصب، بين نسيم المساء في يوم قائض، واشتعال الصبح في يوم حار.. نبتت البلدة..» ص4
لذلك لا نستغرب إذا كان الحوار هو المنطلق لمتعدد السارد :
« قلت لصاحبي : لا تشغل بالك بطرح الأسئلة الجديدة عن الأجوبة القديمة.
قال : أرفض سياسة الأرض المحروقة..» ص3 .
ولا يخرج عن ثنائية « الأنا والهو» وكأننا أمام تصنيف فرويد للذات وفق بنيته العازلة. بمعنى أن الأنا الأعلى هي المتحكمة في العمل ككل (أنا الكتابة)، بما يفسر أن السارد الغائب ذات ساردة ثانية منبثقة عن السارد الأعلى بالإحالة إليه « وتابع.. ضيعات ممتدّة مفتوحة على بعضها البعض، وأحواش ضيقة لا تتسع إلا لرؤوس معدودة..” ص5 .
هذا التمويه يفسح المجال إلى التعددية السردية. والحوار يلعب دور تكسير تتابعها الخطي كتابة بين السارد الأعلى (الأنا) والهو(قلتُ)، واستراحة المستوى الثقافي للشخصية المتعددة السرد، لتهيئ القارئ إلى الأسئلة الكبرى وحساسيتها الثقافية والفكرية، والفلسفية للكشف عن كرونولوجيا صورة « العربي». هذا التوالف (السارد/العربي/الصديق).. يغدو السارد المتكلم صيغة لشخصية العربي بالوراثة للمزج بين بؤرتين سرديتين بمفهوم جيرار جينيت…الأنا والهو تسهيلا لمأمورية السارد/الشخصية، الصديق الوهمي للعربي أو صورة السارد/العربي في شخص الكاتب، في إعادة الذاكرة بدينامية الخيط الذي يلف رقبة السارد/ العربي.. ويتخذ من أناه لولبا للأحداث بانفعالاته سلوكا ومعرفة.. يصعب استساغة أسئلتها العالقة ورؤيتها للحياة…
نتاجا لما سبق، تتقاطع عدة نماذج داخل نوارة كي تعكس صورة معالم الواقع المغربي لحظتها/لحظةً تأخذ الروايةُ الزمانَ شكلا خطيا متموجا يقطعه الحوار بين السارد/الشخصية وصديقه استراحة تعيد استئناف المحكي، بلغة تخييلية مزدوجة للشخصية والكاتب تفجر ما بقي عالقا بالذاكرة عوالم تَنساقُ ضمن بنية الحكي. تتداخل فيها الأجناس السردية السيرة الذاتية والرواية، كي تذهب بنا إلى استراتيجية ما قبل الكتابة في استثمار المادة الحكائية التي تستنزف إمكانيات الكتابة التخييلة.


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 21/01/2022