بين الفلسفة والسينما

«في العمل الفلسفي، عقدت العزم على أن أتخلّى عن الأهداف الكبرى، وأن أعتبر نفسي سعيدا إن تمكنت ببساطة، هنا وهناك من إيجاد موطئ قدم على قطعة صغيرة جدا من أرض صلبة، في المستنقعات الضبابية المتقلبة، هكذا انتقلت في حياتي من يأس الى يأس، ومن تماسك الى تماسك» – أدموند هوسرل – العلاقة بين الفلسفة والسنيما هي تماما العلاقة بين ما هو نظري بتحفظ، وما هو عملي أيضا بتحفظ، بين ماهو فكري محض، تجريدي في الغالب، وبين ما هو تشخيصي/ تجسيدي، إذ العلاقة بينهما، في تقديري، هي علاقة جدلية، لا تُبنى من الخارج، بل من الداخل، حتى ليمكننا القول إنها علاقة عضوية، علاقة تناسل أسئلة وأجوبة، من الصعب الحسم داخلها في إشكالية الأسبقية، لأنها أسبقية ظلت مطروحة على مدار المسار التاريخي للفلسفة حتّى غدت إشكالية فلسفية.
تُطرح هذه العلاقة أول ما تطرح، في الشأن السنيمائي، على مستوى السيناريو، على اعتبار أنه الشرط الأساسي لقيام الشريط السنيمائي، ومربط أزمته، فهو المجال الأول لاختبار هذه العلاقة الداخلية – العضوية التي إذا ما تشبثت بخارجيتها، وبُنيت على الانفصال سار الأمر الى الخطابة الفلسفية، أو، بتعبير ساخر، الى “الوعظ” السنيمائي، وغاب كل اتصال من شأنه أن يساهم في بلورة الرائعة الإبداعية. فعلى هذا الاتصال والانفصال إذن تتأسس طبيعة العلاقة بين هذين الفنّين، بين فنّ الحكمة وفنّ التخييل، ولنا في اتصالية ابن رشد سندا معرفيا لإضاءة هذه العلاقة الشائكة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال خوض الحديث عنها دون حضور النموذج. ولن يكون هذا النموذج الا المنجز الذي تفاعل بشكل مباشر مع لحظته التاريخية بكل روافدها الاجتماعية والثقافية التي حكمت إنجازه، وجعلته يتخذ من هذه اللحظة بساطا لرؤيته الفكرية الكامنة خلف منجزه الفنّي.
من هنا يمكن اعتبار فيلم «السراب» لـ «أحمد البوعناني» (1979) نموذجا سبعينيا لسنيما مغربية كانت تشهد زخما ثقافيا، وحضورا معرفيا ناتجين عن شرطها التاريخي، بين حداثة العهد بالخروج من قبضة الاحتلال، والمدّ الثوري القادم من المعسكر الشرقي في إطار صراع القطبين. هذا الشرط التاريخي جعل هذا النموذج بعيدا عن مسألة التجريب، وأكثر ارتباطا بالواقع بكل حرارته المعيشية، وأسئلته الوجودية، لدرجة أنه يمكننا القول، بمبالغة ما، أنه من طينة الأفلام التي كان من شأنها أن تمنح للسنيما المغربية هويتها الخاصة، ليس بطبيعة الحال كشريط نمطي كامل ومتكامل، ولكن كخزّان لبعد ثقافي أوى تعدّدا أجناسيا، وشابك بين عوالم واقعية، وأخرى غرائبية، بحسّ شعبي قابل للاستثمار والتطوير والتوظيف وفق آليات جديدة استحدثها منطق التقدّم بكل تورثه التكنولوجية، ومستلزمات صناعته السينمائية، ومستجدّات هندسته الثقافية، كما أنّه نموذج قابل لبسط واختبار إشكالية العلاقة بين السنيما والفلسفة. ولا يستقيم، في تقديري، المنحى التحليلي الا إذا بني على المقارنة المخوّلة لضبط الثابت المتحكّم في توجّه عام نستطيع من خلاله الحديث عن “هوية” سنيمائية مغربية، عن نمط تمييزي خاص، من هنا كان اختيار لآخر ما جادت به القريحة السنيمائية المغربية، أقصد شريط «جبل موسى» للمخرج «ادريس المريني» (2022) في ظلّ شرط تاريخي مغاير عنوانه الأكبر سقوط جدار برلين.
– فكيف تجلّت هذه العلاقة بين الفلسفة والسنيما داخل الشريطين من خلال الانفصالية والاتصالية السّابقتي الذكر؟

1 – الموضوعة أساس العلاقة:

إن القضية المطروحة هي قضية العلاقة بين النظري الفلسفي والعملي السينمائي، إذ من بين تجليات العقل العملي في الوسيط البصري ضرورة القصّة في العمل السنيمائي بحاجتي البطل الأساسيتين: الحاجة النفسانية، والحاجة القيمية:الحاجة النفسانية تؤثر مباشرة في البطل على اعتبار أنها حصيلة شروطه الفردية، وتقوده للدخول في التجربة، في حين تقتضيالحاجة القيمية ضمنيا ضرورة تعلّم صواب التصرّف تجاه الآخرين (وهي بشكل من الأشكال موجّة للجمهور على اعتبار أن ضرورة الفنّ تكمن آخر المطاف في قصديته، ورسالته). إنهما أساس السلوك الإنساني، وهو ما يجعلهما في تجاوب مع العقل النظري في تركيزه على المبادئ الثلاثة للوجود الإنساني: الحق، الخير، الجمال.
إن خطّ التماس بين النظري والعملي إنّما تكمن في إيجاد الخطّ الموضوعاتي (التيمي)، فالموضوعة هي دماغ القصّة على حدّ تعبير جون تروبي في «تشريح السيناريو»، إذ لا معنى للجسد دون دماغ. فهل يحقّ لنا الحديث عن شريط دون الحديث عن موضوعته، وعن قضية السيناريو تحديدا، فكيف السبيل الى الجمع بين أطراف الجسد ودماغه؟
قال سامويل كولدواين (Samuel Goldwayn) [منتج أمريكي(1879-1974)] :” إذا ما أردتم بعث رسالة فعليكم بـ «ويستيرن يونيون» (Western Union). وهذه القولة، على طابعها الساخر، فهي تضعنا في صلب المشكل بين الخطاب الإقناعي الذي يتوسّل بالحجج البرهانية، والخطاب الامتاعي الذي يعتمد الأدوات الجمالية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تستدعي القولة إثارة الخلط الحاصل بين الموضوعة (le thème) والموضوع(le sujet)، فالعلاقة بينهما علاقة تخصيص بتعميم: الموضوع تناول عام من مثل موضوع الموت، موضوع الخير ضد الشر، موضوع الحبّ، موضوع السعادة… بينما الموضوعة هي وجهة نظر الكاتب داخل هذا الموضوع، أي الرؤية التي يراها صالحة للتصرّف بشكل جيد داخل الحياة، ومن داخل الموضوع، على اعتبار أن هذه الرؤية، أو تلك، تعتقد أنّها العمل الحق، و«العمل الحق هو عمل ما يفيد السعادة ويجنّب ما يفيد الشقاء» على حدّ تعبير ابن رشد كما سنرى لاحقا. بذا نكون في صلب المطارحة القيمية، وليست الفكرية، فالقصة ليست صراع أفكار، وليست مناظرةحجاجية، بل هي شخوص تحمل قيّما تبتغي بها بلوغ هدف يشكّل أفق انتظارها، إن لم نقل ضمنيا أفق انتظار الجمهور، على اعتبار أن هذا الأفق من أوّل الأهداف المركزية لكلّ حكي. أفق يكون فيه الحوار، الى جانب أدوات تقنية أخرى، ترجمان أشواقه، وتكون الوقائع فيه بسط لحالات نفسية نتيجة أوضاع اجتماعية بالأساس، غير أنّه حين تكون هذه القصّة مثقلة بشكل مفرط بالقيم، والقيم المضادة، فإنها تلامس قصص المرشدين والوعاظ، فيتراجع الجمهور مهزوما خاوي الوفاض. إن الموضوعة الجيّدة هي تلك التي تنبني على الأفعال (les actes)، فتسير بالبطل الى النجاح أو الفشل، حتى ليمكننا القول إننا داخل الشريط السنيمائي بصدد تطارح الأفعال، وتدافع السلوكات، لا تطارح الأفكار والنظريات.
ورد في يوميات كافكا قوله: «في معظم الأوقات، ما نبحث عنه بعيدا إنّما يقطن قريبا منّا». ولتيسير إدراك هذه القولة نستحضر قصّة بورخيص «بحثا عن ابن رشد»، كما تناولها عبد الفتاح كيليطو في «في جوّ من الندم الفكري»، والسير بها أبعد من مجرّد مشكلة ترجمة كلمتين يونانيتين (تراجيديا وكوميديا)، ودائما للتدليل على طبيعة العلاقة بين النظري والعملي، والاستفادة منها سينمائيا:
يقول سارد القصّة، وهو يتحدث عن الموقع المكانيلابن رشد في القصّة:” من بهو غير مرئي يعلو خريرماء نافورة “[الشرفة] الى أن يقول:” وإلى أسفل، نهر الوادي الكبير المنهمك، وبعد ذلك مدينة قرطبة العزيزة، التي لا تقل ألقاً عن بغداد أوالقاهرة، مثل آلة معقدة ودقيقة. يتابع السارد: «غير أن قلقاً خفيفاً شابَ سعادة ابن رشد»، يقصد صعوبة تعريب الكلمتين كما وردتا في كتاب أرسطو «فن الشعر»، «فأطلّ ابن رشد من الشرفة المُشبّكة، وكان هناك فـي الأسفل، فـي الفناء الترابي الضيق، بضعة صبيان شبه عراة يلعبون لعبة المؤذن والصومعة والمصلّين، ويتحاورون بما يمليه عليهم حوار قصة لعبتهم»، ثم بعده ينتقل السارد إلى ما جرى في المناظرة التي كانت تنتظر ابن رشد في بيت الخليفة، ثم يعيده الى بيته المطلّ على النافورة ليقول: «فأضاف ابن رشد، بخط ثابت ودقيق، هذه الأسطر إلى المخطوط: يطلق أرسطو تسمية «تراجيديا» على المدائح، و«كوميديا» على الأهاجي وكشف المثالب”، ثم يتابع سارد قصة «بحث ابن رشد»: «وإن ابن رشد، إذ أراد أن يتخيّل ما هي الدراما دون أن تكون لديه أي فكرة عما هو المسرح، لن يكون أكثر عبثية مني أنا الذي أريد آن أتخيّل ابن رشد». نخلص من هذا البحث عن ابن رشد ان العلاقة بين ما هو نظري بما هو عملي هو هذه المسافة التي فصلت موقع ابن رشد، وهو في البهو العلوي، والصبيان الممثلين في أسفل الشرفة، وأن ابن رشد لم ينظر فيما يقطن قريبا منه بتعبير كافكا. ان الفلسفة بكل بساطة، في تقديري، هي موقع ابن رشد في البهو العالي، بينما السنيما هي هؤلاء الصبيان وهم يمثلون لعبة المؤذن والصومعة والمصلّين. فهل كان ابن رشد مطالبا فقط بالانتباه الى ما يجرى تحت شرفته من لعب الصبيان، وتمثيلهم قصة المؤذن والصومعة وجماعة المصلين ليدرك ما معنى الدراما؟! إن العملي، والحالة هاته، هو التجسيد والتشخيص والتقليد الذي كان يقوم به الصبيان، فهل الصبيان أكثر فلسفة من ابن رشد؟، نعم ولكن بأي معنى؟ هل الأمر شبيه بأمثولة الكهف كما وردت في الباب السابع من كتاب ” الجمهورية”؟
إن السيناريو متوالية من الأفعال القيمية تُبنى بطريقة لولبية صاعدة، تترجم قيم البطل في صراعه مع قيم خصومه لبلوغ هدف ما، وهو المقصود بالعمل الحق. إنّ كل سلوك، مهما كانت بساطته، هو جزء من نسق قيمي في صراع مع نسق قيمي آخر باعتبار اجتماعية الكائن البشري. وهذا الصراع يُبنى عن طريق التعارضات التي تنهض عن حاجة قيمية لتؤسس عودة وعي ما آخر القصّة. وكلّما كان التعارض على أشدّه، كلما وسّع شبكات الشخوص المتحاورة فيما بينها لغة أو سلوكا (التعارض بأربعة أركان مثلا). يتعلّق الأمر إذن بالمَشاهِد التي تُرى بالعين المجرّدة على اعتبار أن السنيما بتعبير بسيط هي وسيط بصري، ويُؤجّل النظر فيها بالعين الذهنية، والتي لا تحصل، في تقديري الا حين يستحضر الجمهور معها الحالة الاجتماعية المماثلة لها في واقعه المعيش، وأعتقد أنه كلما بلغنا هذا الاستحضار لدى المتلقي كانت ضمانة أولى لنجاح الشريط. فالموضوعة إذن، الى جانب كونها العلاقة بين ما هو فلسفي وما هو مشهدي سينمائي، هي هذا الدخول الى الواقعة الاجتماعية بكل تفاصيلها المعيشية، من خلال الشخوص، وهي تدخل لعبة الحياة بحضور قيمي [أخلاقي] ووجداني. انها لا تعني دخول الشخوص في حوار معرفي إثر مناقشة لغوية صرفة، والتي خاضها ابن رشد في مجلس الخليفة، والتي قد تفرض على الجمهور بطريقة مبتذلة، بل تجري من داخل بنية القصّة التي تسير بشكل متقاطع، يبدأ خافتا ثم ينمو الى أن يصبح جليا خلال المجابهة الأخيرة وقد بلغت ذروتها بانتصار نسق قيمي على نسق آخر، وبذا يحصل استيعاب الجمهور للموضوعة. إذن عبر الحوار والفعل المعيشيين يحصل الانتصار لهذا النسق أو ذاك، فيخلق ذلك نوعا من التماهي بين الجمهور والشخوص، ليكتشف الجمهور الموضوعة وقد بلغت ” غايتها النهائية” . وعبر الفعل وردة الفعل داخل الشريط، بين السؤال والجواب، بين المحاولة والخطأ، بين الضعف والقوة، بين النتيجة والسبب… ينسج كاتب السيناريو شبكته العنكبوتية للإيقاع بالجمهور، يضرب مثلا ليحصل “التصور”، ومنه الصورة السنيمائية، وليس “التصديق” الحاصل دوما بالبرهان، بلغة ابن رشد، ومتى ما حصل هذا الإيقاع بالجمهور، حصل استيعاب الموضوعة، القيمة، وحصل التصديق برؤية صاحب القصّة، ووصلت الرسالة، والتي لا يمكن أن تصل إطلاقا بأسلوب خطابي فجّ مغرق فيما هو تجريدي، فالجمهور في أشدّ الحاجة الى ادرما توقظ وعيه عوض استغبائه، والزجّ به في المتاهة الفكرية .

2 – لماذا ابن رشد؟: (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال)

كان “ابن رشد” في مراكش حين اتصل عن طريق “ابن طفيل” بالخليفة أبي يعقوب يوسف عبد المومن، أحد ملوك الدولة الموحدية، فكلّفهما الخليفة بتفسير كتب أرسطو وتلخيصها، ولمّا كان “ابن طفيل” متقدّما في السنّ طلب من ابن رشد ان يقوم بهذه المهمة.
أتساءل معكم هل كان فقط عامل السنّ وحده وراء تنازل “ابن طفيل” ل “ابن رشد” عن المهمّة التي أوكلهما لها الخليفة؟
أليس ابن طفيل هو كاتب قصّة “حي ابن يقضان” التي اقتبسها “دانييل ديفو” تحت اسم ” روبنسونكروزووي”؟ أليس لان ابن طفيل كان يرى أن الأجدى يتمثّل في كتابة القصة عوض الخوض في غمار تلخيص فلسفة أرسطو [الذي ينتمي لملّة أخرى]؟ وهو الأمر الذي انتبه اليه ابن رشد، فخصص فصلا من كتابه تحت عنوان ” علوم غير المسلمين وحكمها”، اليس لان ابن طفيل كان عملي(قصصي)، بينما ابن رشد كان نظري(فلسفي)؟
لعلها الحادثة التي أدركها بعمق ” ابن رشد”، وهو الخارج لتوّه من “محنة قرطبة”، وهو التنازل الذي فهمه لكتابة كتابه في “الاتصال بين الشريعة والحكمة”، ذلك أنه أول من أدرك، في تقديري، بعد درس ابن طفيل، أن الجمهور لا يمكنه أن يعيش بالأفكار، بل بما هو حسّي (عملي)، فالحكمة النظرية، بتعبيره، لا تعطى للجمهور، إذ التصديق هنا ليس برهانيا، ولا خطابيا، بل جدليا يتأسس فيه التصور على الوقائع والأحداث أي على الفعل(ACTE) مادام يقول” إن التصور يكون إمّا بتصور الشيء نفسه وإمّا مثاله”، ذلك لأن الجمهور ليس كلّه من أهل النظر، ولا كلّه يدرك الكليات، وإنّما أغلبه يدرك الجزئيات، يقول ابن رشد:” إن علمنا يبدأ بالجزئي ثم يتدرّج ويرتقي نحو الكلّي”. ففي الجزئي يسكن شيطان تفاصيل اليومي، ومنه أيضا تخرج “الفضيلة العملية”، الناهضة مما يجري بين الناس في الأسواق، أو ليس لأن هذا الجزئي علم بالظاهر، وإرجاء العلم بالباطن لمن هم أهل له، وحديث للناس بما يعرفون، وحصول للإجماع في “العمليات” بخلاف الأمر في “العلميات”، لأن علم الجمهور بها معلول للمعلوم به، أي أن الشريط السنيمائي محاكاة للواقع بدرجات مختلفة يكلّم الناس بواقعهم، فيدخل في باب ضرب المثل من خلال الجزئي، لأنه الأبقى في النفوس، والموصل ل ” الفضيلة العملية”. فهل نقول ما قاله ابن رشد بصريح العبارة في الصفحة 52: «لا يجوز أن يكتب للعامّة مالا يدركونه… ومن أباح التأويل للجمهور فقد أفسده.»؟

3 – بين «السراب» (1979) و«جبل موسى» (2022):

حين يتسلّم البطل في قصّة «السراب» كيس الدقيق ليعثر فيه على النقود، فإنّه دخل بذلك في جزئية الانطلاق ليبدأ مشوار الجزئيات، بالانتقال الى المدينة المملوءة بالفاصيل، فيدخل عالما مليئا بالطقوس والعادات والشعائر العملية، والخطابات السحرية العجائبية المبنية على السلوك العملي والحركة والفعل، فينخرط البطل داخل هذا العالم الجزئي بكل حركيته المضطربة البعيدة كلّ البعد عن عالمه السابق الذي يكاد يكون فارغا من هذه الحركة، عالم يسكنه الكلام من وراء الحجاب (صوت الحاكم المعمّر- صوت الجارة)، في حين أن عالمه الجديد هو عالم الحركة، عالم الصراخ المكشوف، عالم المباشر، عبر سلوك حسّي يتخلّله خطاب شعري أغدق على الشريط سمة الواقعية العجائبية، ليكتشف البطل عالما سحريا خرافيا يتاخم شاطئ البحر بكل رمزيته المتلاطمة، ولا يتوصّل فيه الى استبدال النقود بنقود أخرى صالحة للتداول ليحاول الفرار من هذا الواقع، والعودة من حيث أتى. صحيح أن خلف الشريط تكمن خلفية فلسفية تعكس نمطا قيميا ما، غير أن هذه الخلفية حاول المخرج ان يصرّفها من خلال جزئيات الواقع الملموس… وبعيدا عن أحكام القيمة يمكن أن نتساءل: هل استطاع شريط ” السراب ” التخلّص من القول الخطابي؟ وبتعبير آخر: هل شوّش القول الخطابي على آدمية البطل، وحال دون طابعه العملي؟
مع فارق زمني شاسع قد لا تصحّ معه المقارنة، تجري احداث شريط ” جبل موسى” أيضا متاخمة للشاطئ بكل جماليته المدهشة، ورمزيته المتلاطمة، يحمل فيه البطل الذي يحمل إسم “حكيم” المشتقّة من الحكمة، حمولة فلسفية صوفية صبغت الشريط بمكنون معرفي نظري زاده حدّة التعارض مع خطاب آخر يحمله فقيه البلدة أكثر تطرفا، وشخصية أخرى لعبت دور الوسيط، وليس صدفة أن تحمل هذه الشخصية إسم “مروان”، المشتقة من ” المرو”، وهي الحجرة الصلبة يقدح بها الزند لترسل شرر النار، فهي العلاقة بين الحجر والنار الكامنة فيه بالقوة ، فالعملي هنا هو “الحجر”، والعلاقة هي عملية “القدح”، والنظري هو” النار”، والسؤال هو ” هل كان “حكيم” في حاجة ل” مروان ” كي تنقشع نار الحجارة؟ وهل كان ” مروان” هو” بروميتيوس” ولعنة سرقة النار في ” جبل موسى”؟. بالفعل فهي الشخصية الرئيسية، في تقديري، التي تحاول في العمق لعب دور الربط بين النظري والعملي في الشريط لاكتشاف الحقيقة على “رأس الجبل” بعيدا عن جزئيات الواقع، وهي في العمق تلعب دور الجمهور وهو يحاول الفهم، لذا تراوحت سلوكاته داخل قصّة الشريط بين الدهشة والصدمة، وكأنّي بالقصة، على عمليتها تنتصر للنظري على حساب العملي ما دامت الحقيقة وفق نهاية الشريط تكمن بالقرب من السماء. فقمّة الجبل هي عالم الفيلسوف الطبيعي، المفكّر الأكبر الذي عليه أن يفهم قوى الطبيعة حتى يتمكّن من العيش معها في تناغم، وأن يراقبها أحيانا. ومن وجهة نظر بنيوية يرتبط الجبل، المكان الأكثر علوا، بعودة الوعي، فالتحولات والانعطافات – الكشوفات هي لحظات الاكتشاف الضرورية لتحويل الحبكة، والدفع بها الى المستوى ” الأكثر علوا “، والأكثر كثافة. هنا أيضا ينتج الإطار الطبيعي “الجبل” علاقة مباشرة بين الفضاء والشخصية، وفي هذه الحالة تدقيقا بين العلو والفهم. وكأن الحقيقة لا تعطى الا في الأعلى بعيدا عن الجزئي.
توجد هذه العلاقة المباشرة بين الفضاء والشخصية أيضا في التعبير السلبي للجبل التي توصف دوما كمكان للهرمية، للامتياز والاستبداد، مسكونة على العموم من لدن ارستقراطي يسود من الأعلى على عامّة الناس.
صحيح أن “السراب” فيه منتوج الواقع [انعكاسي] في حين جاء ” جبل موسى” إعادة إنتاج لهذا الواقع، غير أن البؤرة المركزية بينهما لم تصل بعد مرحلة إعادة تركيب الواقع. أو ليس لأن الأجواء الصوفية لشريط ” جبل موسى” بالإخراج الحديث، هي تنويع على الأجواء السحرية لشريط “السراب” بالإخراج القديم؟
ان الطابع الميتافزيقي، بخطابيه الظاهري والباطني، الذي هيمن على الشريطين معا يجعلنا نغامر للقول: إن السنيما المغربية لم تستطع بعد التخلص النهائي الفعلي مما هو نظري، لتنخرط بالفعل فيما هو عملي غير مبتذل؟
إن العملي، في تقديري، هو هذا الانخراط الكلي في اليومي، دون السقوط في روتينيته، انّه الوعي باليومي، خارج البداهة، أي تحويل العلاقة بين النظري والعملي الى علاقة موضوعاتية تلعب دور الخطّ الموجّه. ولكنّه انخراط ينبغي أن يكون حذرا لأنه يجري على أرض ملغومة، انخراط أساسه التمييز بين المحاكاة العالمة والمحاكاة الخادعة، هاته الأخيرة التي كانت من نتائجها طرد أفلاطون للشاعر التراجيدي من جمهوريته الفاضلة.


الكاتب : عبدالالاه رابحي

  

بتاريخ : 11/03/2023