تبون يطرح مشروعا جديدا:في الجزائر ، لكل رئيس دستوره…يعمق جراح البلاد

في الجزائر ، لكل رئيس دستوره ..ولكل عقد تعديلاته عليه ..فمنذ استقلال البلاد في بداية ستينيات القرن الماضي كانت هناك باحة يهرب إليها الرؤساء كلما اشتد الصراع السياسي . باحة إسمها : « الدستور».. وكانت الوثيقة تخضع لعمليات تجميلية بشكل عام أو جزئي بالقدر الذي ينسجم مع كل مرحلة رئاسية .لكنها لم تكن أبدا علاجا لأوضاع البلاد.

تاريخ الجزائر خلال الستة عقود الماضية أرتبط اساسا بدساتيرها . لكل دستور أزمته واسباب نزوله ومسطرة إقراره ومبررات العمليات الجراحية التي أجريت عليه ليولد اللاحق من السابق . والدستور المرتقب لن يحيد عن القاعدة ، قاعدة أن السلطة في الجزائر ، وهي ليست سوى المؤسسة العسكرية ، تعالج أزمات هذا البلد المغاربي بجرعات دستورية تعيد من خلالها إعطاء نفس لتحكمها في المشهد السياسي والمفاصل الاقتصادية .
وضعت الجزائر منذ إستقلالها ستة دساتير ، وبين كل دستور وآخر أجريت تعديلات مست إختصاصات المؤسسات وهندستها وولاياتها . لكل عقد دستوره ولكل حقبة تعديلاتها . كما أن لكل رئيس من رؤسائها الست دستوره (ماعدا محمد بوضياف الذي لم يقض في الرئاسة أكثر من ثلاثة أشهر) وجميعها من أجل إحتواء أزمات سياسية واجهتها السلطة الحاكمة .
أول دستور أعدته لجنة سياسية في عهد الرئيس أحمد بنبلة .عرضته على ندوة وطنية للحزب الوحيد آنذاك جبهة التحرير الوطني ليعرض على إستفتاء في8 شتنبر 1963 . دستور إعتمد «الاشتراكية كمنهج» وجبهة التحرير كحزب وحيد . كان ذلك في خضم الصراع مع أحد قادة حرب التحرير الحسين آيت أحمد الذي أسس أسبوعين بعد الاستفتاء (20 شتنبر) جبهة القوى الاشتراكية .
وكما أطاح الهواري بومدين بالرئيس بنبلة في إنقلاب يونيه 1965 ، أطاح كذلك بدستوره الذي لم يمر على إقراره سوى سنتين وإعتماد «دستور صغير» جاء ب»مجلس الثورة» كمصدر لجميع السلط أي في يد رئيسه والذي لم يكن سوى بومدين الذي جمع بين يديه الرئاسة والمؤسسة العسكرية. واستمر الوضع كذلك إلى منتصف السبعينات الذي احتدمت فيه صراعات أجنحة السلطة مركزيا وجهويا . فأصبح «الدستور الصغير « ميثاقا وطنيا ودستورا جديدا إرتدى شكلية فصل السلط .
في يوليوز 1976 تمت المصادقة باستفتاء على الميثاق الذي شكل العمق الايديولوجي لدستور أفرزه إستفتاء في نونبر من نفس السنة . وأبرز ما جاء به هو إعادة صياغة للمجالات لإمتصاص الصراعات التي وصلت حدتها إلى مجلس الثورة وأجهزة الحزب الحاكم . وبالتالي وزعت الوظائف على ثلاث مؤسسات : الوظيفة السياسية وتمارسها جبهة التحرير من خلال مؤتمرها الوطني ولجنتها المركزية ومكتبها السياسي . ووظيفة تنفيذية إستفرد بها رئيس الجمهورية تماما كما كان الشأن من قبل .ووظيفة تشريعية ممثلة في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان).
توفي الرئيس هواري بومدين في 27 دجنبر 1978 ولم يجد «مجلس الثورة» من خلف له سوى الجنرال الشادلي بنجديد كحل لصراع تأجج بين عبد العزيز بوتفليقة وكان وقتها وزيرا للخارجية وبين محمد الصالح يحياوي رئيس اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير . حافظ بنجديد على دستور بومدين وميثاقه كما حافظ ، بل قوى إمتيازات المؤسسة العسكرية وسطوتها على المجال الاقتصادي وعائدات المحروقات . لكن لم تنته العشر سنوات من رئاسته حتى عادت الصراعات إلى مستوى غير مسبوق .
يقول أحمد طالب الابراهيمي الذي حمل حقيبة الدبلوماسية الجزائرية في مذكرات له نشرها سنة 2013 :»أحداث الخامس من أكتوبر كانت نتيجة غياب توازن مؤسساتي بين «الاقطاب الثلاثة « التي سعت جاهدة منذ وصول الشاذلي إلى الرئاسة ، إلى التعايش فيما بينها ، وهي القطب الرئاسي الذي ساد في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين ، وقطب العسكر الذي هو في الواقع الامن العسكري ، والقطب البرلماني الذي كان يبحث عن موقع له في المشهد «.
عاشت الجزائر العاصمة وعدة مدن في كتوبر 1988على إيقاع مظاهرات صاخبة خلفت 500 قتيلا وإحراق العديد من مؤسسات الدولة لم يجد الرئيس بنجديد من مهرب لإحتواء الازمة سوى الاعلان عن مجموعة إصلاحات أولها إجراء تعديل دستوري للوثيقة التي ورثها عن بومدين . وبالفعل تم إجراء إستفتاء على هذه التعديلات في 3 نونبر 1988 كان ابرزها إحداث منصب رئيس الحكومة وإقرار المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان .
وفي 23 فبراير من سنة 1989 عرض دستور جديد على الاستفتاء من بين مبادئه : التخلي عن خيار الاشتراكية الذي فشل بالشكل الذي تم تطبيقه وخاصة من خلال ما سمي بالتعاونيات . إقرار التعددية الحزبية والتراجع عن الحزب الواحد الذي أصبح جزءا من المشكل. «فصل» للسلطات والتوجه نحو صيغة تزاوج مابين النظامين البرلماني والرئاسي وإحداث منصب رئيس الحكومة . إدراج بعض الحقوق والحريات في مسعى لامتصاص غضب الشارع .
ويبدو أن هذا الدستور لم يكن العصا السحرية ليحل معضلات الجزائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .فالفساد إستفحل ليطال صادرات البلاد من المحروقات والتي تعد المورد الرئيسي للميزانية وللمشاريع بنسبة تفوق 90 بالمائة . والواردات من الاسلحة ومن المواد الغذائية والتجهيزات التي أصبح لها مايسمى ب»تجار الشنطة» . وتم تمييع التعددية ليقارب عدد الاحزاب المائة في ظرف وجيز . ولم تخمد حروب أجنحة السلطة ومناوراتها إلى أن وجدت الجزائر نفسها في انتخابات بلدية تعددية في يوينه 1990 فازت فيها جبهة الانقاذ الاسلامي وهو ما حول العاصمة إلى ساحة مظاهرات واعتصامات شبه يومية إلى أن جاء الدور الأول من التشريعيات في دجنبر 1991 لتحصد جبهة عباس مدني وعلي بلحاج أغلب المقاعد .
ولم تجد المؤسسة العسكرية من خيار سوى وقف المسلسل الانتخابي وإقالة الرئيس بنجديد في يناير 1992 والاصطدام بحقيقة دستورية هي أن منصب نائب الرئيس غير موجود والبرلمان سبق حله وبالتالي لا يوجد نص يسد هذا الفراغ الدستوري . الامر الذي دفع بالمؤسسة العسكرية للاستنجاد بأحد قادة الثورة الجزائرية الي قضى بمنفاه بالمغرب ثلاثة عقود لتناط به الرئاسة ثلاثة اشهر ويتم اغتياله في 29 يونيه من نفس السنة .
إنزلقت الجزائر إلى ساحة حرب مع الجماعات المسلحة خلفت خلال عشر سنوات أكثر من 200 ألف قتيل . وفي منتصفها جاء لامين زروال الذي أفرزه مجلس الدولة كرئيس ، جاء بدستور عرضه على الاستفتاء في 28 نونبر 1996 مراهنا على وقف حمام الدم الرهيب الذي تميز بالدبح الجماعي والتفجيرات والاغتيالات ، اغتيالات النخبة من إعلاميين ومثقفين وفنانين وأطر …ومن أبرز ماجاء به هذا الدستور ثنائية غرفتي البرلمان بإحداث مجلس الامة ،وإعادة إنتشار إختصاصات السلط والمؤسسات خاصة الرئاسية والتنفيذية والتشريعية.
وفي ظل هذا الدستور جاء عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في أبريل 1999 . ولإحتواء الأزمة التي إندلعت بمنطقة القبايل في سنة 2001 بادر إلى الاعلان عن تعديل دستوري يقضي بدسترة الامازيغية كلغة وطنية في نونبر 2002 . وفي 12 نونبر من سنة 2008 أجرى بوتفليقة تعديلا جديدا على الدستور ليفتح أمامه الباب لولاية رئاسية ثالثة بعدما كانت المادة 74 تحد ذلك في ولايتين فقط . كما تم إستبدال صفة «رئيس الحكومة» إلى «وزير أول» وبالتالي منح صلاحيات جديدة للرئيس في وضع البرنامج الحكومي وتنفيذه. إختار الرئيس بوتفليقة المادة 176 من الدستور لتمرير التعديلين عبر مصادقة البرلمان دونما اللجوء إلى إستفتاء شعبي خوفا من إحتمالات سياسية تربك حساباته .
ولترتيب الاوضاع والتحكم فيها أقدم بوتفليقة على إعادة صياغة حكومة عبد المالك سلال الذي يعد سابع وزير أول في عهده منذ مجيئه إلى الرئاسة في أبريل 1999 . لم يكن التعديل تقنيا أو عاديا لحكومة لم تمر سوى سنة على تشكيلها في 3 شتنبر 2012. لقد تخلص بوتفليقة من ماتبقى من «جيل الاسرة الثورية» الذي كان له منذ استقلال الجزائر موقع قدم في الحقائب السيادية . وأسند وزارات الداخلية للطيب بلغيز الرجل الذي ترعرع في سلك القضاء وأحيل على التقاعد بطلب منه ويغادر رئاسة المجلس الدستوري التي شهدت انتقادات واسعة بسبب عدم تفعيلها للمادة 88 من الدستور والتي تتعلق بشغور منصب رئيس الجمهورية لوجود مانع (مرض بوتفليقة طويل الامد ). أما رئيس الاركان أحمد قايد صالح فأحكم قبضته على وزارة الدفاع بعد إخراج عبد المالك قنازرية من منصب الوزير المنتدب بها ليصبح الوزير الجديد يحمل الحقيبتين معا …
في سنة 2016 أجرى محيط بوتفليقة تعديلات جديدة فتحت الباب لعهدة خامسة لرئيس أصيب بشلل مطلق وعطالة شاملة لحواسه .. وكان إعادة ترشيحه شرارة أشعلت حراكا شعبيا يعد الأطول في التاريخ . اندلع في 22 فبراير 2019 واستمر دون توقف كل جمعة وكل ثلاثاء بجميع مناطق البلاد ولم يوقفه سوى الحجر الصحي الذي تم فرضه بسبب وباء كورونا في مارس الماضي..لقد كانت العهدة الخامسة هي القبر السياسي لعبد العزيز بوتفليقة الذي قدم استقالته في أبريل ماقبل الماضي .. رحل بعد أن كانت تعديلاته الدستورية تعمق من جراح هذا البلد المغاربي وتؤجج أزماته …وهاهو الرئيس الجديد يسعى لمعالجة أمراض الجزائر بعقارات دستورية رديئة تبث أنها تفاقم حالة جسد رهينة لدى المؤسسة العسكرية بدل إسعافه من علله واختلالاته التي تراكمت ستة عقود.
اليوم هناك مشروع طرحه الرئيس الجديد عبد المجيد تبون الذي جاء الى السلطة في دجنبر الماضي من خلال انتخابات عليها ما عليها سياقا ومأزقا وسعيا لامتصاص غضب شعبي عبر عنه الحراك الذي عم الجزائر طيلة أكثر من سنة (منذ 22 فبراير 2019)..
مشروع أقل بكثير من سقف مطالب الحراك بالنظر للمواقف المعبر عنها تجاهه من طرف الطيف الشعبي والسياسي والحقوقي.. مشروع لا يضع أصبع العلاج على جروح الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتراكم منذ ستة عقود والتي مافتئت تنفجر انقلابات مباشرة وغير مباشرة ، اغتيالات ، انتفاضات وطنية وإقليمية ،أحداثا مؤلمة ، مجازر رهيبة…
المثير في المشروع الذي تم نشره من طرف الرئاسة الجزائرية أنه بدا وكأن اللجنة التي أعدته لم تزرع فيه روحا بقدر ما رممت بعض فقراته (وباللون الأحمر ) لغويا ومصطلحا .. وصححت بعض تعابيره وشطبت على أخرى.. في الديباجة وهي طويلة أصلا ( 26 فقرة) ،تمت إضافة سبع اتفاقيات دولية وإقليمية بالاضافة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان دون التنصيص على سمو هذه الاتفاقيات عن القوانين المحلية.. وتم إضافة فقرة تحيل الى الحراك الشعبي :»يعبر الشعب عن حرصه على ترجمة طموحاته في هذا الدستور بإحداث تحولات اجتماعية عميقة من أجل بناء جزائر جديدة والتي عبر عنها سلميا منذ الحركة الشعبية التي انطلقت في 22 فبراير 2019 في تلاحم تام مع الجيش الشعبي الوطني..
ومن بين ماتضمنه المشروع أنه يمكن لرئيس الجمهورية أن يعين نائبا له وينهي مهامه ،ويمكن أن يفوض له بعضا من صلاحياته …(المادة 95). ويمكنه كذلك وبموافقة الرلمان
ارسال وحدات من الجيش إلى الخارج ..
على العموم هذا « المشروع التمهيدي « كما أسمته رئاسة الجمهورية ، أدرجت فيه مبادئ وأحكام واختصاصات دستورية إلى جانب مساحات واسعة من مقتضيات مجالها التشريع في قوانين عادية أو تنظيمية .. وهو مشروع خلف ردود فعل واسعة رافضة له باعتباره كما وصفه الحقوقي مصطفى بوشاشي أنه ليس دستورا «… لتكريس الديمقراطية، بل ستحافظ على نفس النظام الأحادي الشمولي الذي لا يؤمن بحق المواطنين بالمشاركة في بناء جزائر جديدة».


الكاتب : مصطفى العراقي

  

بتاريخ : 04/06/2020