جورج تْرَاكْلْ:( 1887 ـ 1914 ) أيقونة النمسا، والشعر الكوني الملتاع 1/2

عندما تناهى إلى سمع صاحب ( مراثي دْوِينو )، و( سونيتات إلى أورْفي )، الشاعر الألماني الكبير رَايْنا ماريا ريلْكِه (1875 ـ 1926)، موت الشاعر النمساوي جورج تراكل، صاح متسائلا تساؤلا غريبا في ظاهره: « من يكون هذا الرجل يا ترى؟، والحال أن ريلكه كان قارئا له، ومنبهرا بشعره، ومنزعجا في الآن ذاته. ألاً ينطوي السؤال على أثر تراكل الشعري اللافت والمختلف والاستثنائي في مدونة الشعر النمساوي والألماني الذي شرع ـ منذ فترة ـ يفتح له أبوابا دلالية وإيقاعية وجمالية جديدة وحديثة على يد كل من شللر وهلدرلين، ونوفاليس، وستيفان جورج، وآخرين ؟. ألاَ ينطوي على إعجاب كبير أُخْفيَ في الإنكار الغريب؟، ليس إنكارا بالمعنى المتداول الذي ينزع نحو الجحود و الإعراض، ولكنه الإظهار الأعظم من حيث هو حمل الذات على التكتم والتؤدة قُدَّامَ الفتح والاجتراح الشعريين اللذين حققهما تراكلْ في مجموعاته الشعرية الثلاث، والذي أحدث فيها رعشةً على غرار ما قاله فكتور هوغو عن شعر بودلير، وفي عمر قصير بحساب الزمن الفيزيقي، إذ مات تلك الموتة المأساوية وعمره لَمّا يتجاوزْ سبعاً وعشرين سنة، في العام 1914 عام الكارثة الأعظم، كأنه رفض من دخيلة وجوده ونبوءاته، واستشرافه، أن يعيش أهوال الحرب العالمية التي انطلقت شرارتها لتأتي بعد سنوات أربع على الحجر والبشر، والآمال العراض التي نسجتها متون الفلاسفة المتنورين، والمبدعين والشعراء، والموسيقيين العظام، والتشكيليين المبهرين. ــ من يكون هذا الرجل؟. إنه لسؤال مُلْغِزٌ وحارق وعميق عمق تراجيديا حياة جورج تراكل. سؤال يقول كل شيء، ولا يقول شيئا، إذْ أن بلاغة الصمت، وسكوت الجواب، أقدر على الوصول إلى عمق الجرح، ولوعة المسار. وقد يعني في ما يعنيه أن الشاعر غريب غربة وجودية ساحقة، ومختلف مخالف «ّ للمواضعات « الشعرية الدائرة والمطروقة، ما يجعل شعره ـ وقد كان ـ يند عن الوصف، ويتأبى على الإحاطة العجلى، والتحليل المتسرع. فهل يكون تْراكلْ ملاكاً أو شيطاناً، أو مسخاً أو شبحاً أَوْمَضَ كالبرق الخُلَّبِ، ولعلع كالرعد العابر، ومر مرور سحابة صيف، مرفوعا على ندفة من غيمة الماريخوانا والكوكاين، ملفوعا بوضاءة شعره العائم في الرموز والألوان، ملاحقا بلعنة السماء والأرض، وخطيئة علاقته الآثمة بأخته الموسيقية إيزابيلْ.
عرف جورج تراكل كيف يكون غَسَقيَّ العبور كبومة الفيلسوف هيجل «بومة الغسق « التي تحمل الحكمة، وتشير إلى الخراب. لكن المأساوي في حالة تراكل أنه كان يحمل الخراب في داخله: خراب روحي ووجودي ونفسي وديني وأخلاقي، وتلك، لعمري، قمة المأساة، وذروة الضياع بالمعاني كلها. ومن ثمةَ، جَهَدَ أن يدفن مرارته القصوى، وألمه الأليم، وإثمه الزنيم، في الشعر. الشعر بما هو مأواه الأثير، ووجوده الحق، وسكناه التي رحبت به واحتضنته بينما لفظته سكنى الواقع، وانفض من حوله الصَّحْبُ أو ما يفترض أنه الصحب، وذبحته مُدْيَةُ الحقيقة الحادة، وقصمته اللعنة السماوية التي لم تبرحه إلا بعد أن أسدل الستار، وسكت طائر الشعر الذهبي في قلبه. فقد طلب الموت قبل أن يحل موعده، ونَشَدَ الرحيل قبل أن يحين أوانه: ( خذْني يا موتُ، لقد اكتملتُ )، ( أنا نصف مولود، وإني لميت تماماً )، ( وفي آخر المطاف، سأظل دائما كاسْبرْ البئيس ). و» كاسبر « هذا، هو أحد أقنعته إنْ لم يكن أحد انداده المخترعين، وقد دأب على فعل ذلك في شعره. دأبَ على تشتيت وتشظية وجهه في أوجه تاريخية ومتخيلة، وميثية، كالمسيح، وكاسبرْ، وإليسْ، وسيبستيانْ، وهيليان، ومايسثْ.. الخ.
أقدِّرُ أنه الأسبق إلى اختراع الأنداد قبل أن يجد هذا الصنيع الإبداعي الابتكاري، تطورا على يد شاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسوّا. غير أن أوجه تراكلْ المُقَنَّعَة أو « المندودة « لم تكن سوى أوجه خلاص وفداء بالمعنى الكاثوليكي، رغم إلحاده ووثنيته المتسربة إلى شعره، مع أنه نشأ وتربى في وسط عائلي بروتستانتي وكاثوليكي، وإِنْ كان وسطا ممزقا جرَّاءَ إهمال الأب، وتهالك الأم بدورها على المخدرات.
فعبر الأوجه تلك، حاول جورج تراكلْ الاعترافَ بندمه الذي يقضُّهُ ويوخزه وَخْزا لاَ قِبَلَ لروحه المحطمة به، ليتخطاه طلباً لراحة نفسية زائرة موقوتة، ونشداناً لقُنوتٍ وجودي ما أحوْجَهُ إليه.
إن تهالكه الجنوني على المخدرات والخمور، واقتراف خطيئة ما يدعى ب « سفاح القربى «، والتعاطي النشوان للشعر، هي أركان وجوده وحياته، وشكلت، بالتالي، عناصر ومكونات بنائية ودلالية في شعره. وبالإمكان الإشارة إلى مصادر شعريته، والأحواض الفنية والرؤيوية والدلالية التي شرب منها، ونجح في تمثلها واستثمارها لصالح موهبته الشعرية الفذة، وقدرته المحاكاتية والتحويلية العجيبة للغة. كان الشاعر الألماني الإشكالي ستيفانْ جورجْ أحد المؤثرين فيه، فضلا عن نوفاليسْ الهائل، وهلدرلين المجنون العظيم الذي كان ينعته ب ( الأخ المقدس )، ونيتشه الانقلابي الشاهق، وبودلير وفرلين ورامبو المعلمين الملاعين. أُخذَ بسحر اللغة لديهم بما هي ولوج بدْئي للجنان الاصطناعية التي تحدث عنها شارل بودلير. ثم عرجت به أشعارهم الفاتنة والمدوخة إلى ما صنع فرادتهم، ولعنتهم، واستثنائيتهم، فراح يلج بحذق مداراتها، ويعانق مرتعشا لواعجها ولذاذاتها، ولعناتها أيضا.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 17/02/2023