خديجة مروازي … بالحكي تقاوم النسيانَ

إلى خديجة مروازي كما عرفتها … إنسانة ، وما حملت في جوفها قلبين

يا أمي …
الصخر يولد صخرا ، والعتــْمة سديمٌ تحجب الرؤية والرؤيا معا ، أجراس مدينة الجدران باردة … يا أمي ، وبرودتها هشــَّمت عظامي … وأنا نحيفة أكثر من اللازم . ما زال الباب مقفلا ، وخصاصاته الصدئة تدفع عني … يا أمي … ضوء النهار .
صفعٌ ، و جلادٌ ، و مخبرون ، وأشياء أخرى مباحة ، والثدي الأيسرُ … كلها تعرفني عند استفاقتي من يم العذاب . وأعظم شيء في الوجود هو أن تعتقل امرأة ، وترسم على ثديها ، وهي عارية ، قلبا أحمرَ . كُورَثُوني . أو أن تنزع عن نهديها رافدا ممزقا ، وتضاريس الجسد الممشوق ناتئةٌ من صهد الوجع ، فيتفجر الجلادُ اثنتي عشْرة عينا … زبدا كريها يزكم الأنفاس الطاهرة … النقية …. تسونــَّاميا ، وما كـــُبت فيه من عُقد ضارة ، بفعل فشل في هسيس حياة ملؤها ؛ فقر و جلد وجهل وقمع و نسيان وتيهان .
لازالت رواية « سيرة الرماد « تملأ حفرا لا تكف عن الامتلاء ؛ حفر تؤوب ، وأخرى تدفع عني وعن وجه الحياة الكدمات و الصدمات . منظمات تشتغل ، وتحلم بالسَّنا يُشعل المدى … ومخبرون يتربصون في عتْمة الليل البهيم ، فيصفعون الفجر الوليد . أقرأ الرواية ، ثم أقرؤها من جديد ، « سيرة الرماد « سيرة أدب السجون ، حيث الجسد مستباح . تنتهك حرماته ؛ فيتعتق دما قانيا . أقرأ الرواية ، فأحس أن خديجة مروازي عطلت بندول الساعة ، فتوقفت معها الحياةُ عن النبض . لا إحساس فوق إحساس الألم … يعلو ويسمو ، ويذهب بعيدا في المدى . رجلاي في السماء ، و جسدي المثخن بالجراح في الأسفل … مكبل بأصفاد صدئة ، تنشد … هكذا قُداد .
وجعٌ وصريرُه سمفونية الأمل ، فيهرع المخبرون يتجاسرون ، ويقتلون ويتفننون ويبدعون في القتل . وأنا أقرأ « سيرة الرماد « من جديد تقتل خديجة مروازي قارئها … وتتفنن ، هي أيضا ، في قتله . بوصف كزبد البحر . بل ببلاغة مدسوسة كالسُّم في الخطاب . تصور ببلاغة المصوريين الفوتغرافيين ، فتجنح نحو المجاز السابح في ملكوت الحرية ؛ صباح الخير « الغربية « ، تعبير بالمحل و الكاتبة خديجة مروازي تبغي الحالين بالمحل . تبوح لغد بما باحت به للرفاق قبيل الاعتقال وبعده . وتمر السنين دون محاكمة ، وما يترسب في الذاكرة ، ثمالة التعذيب في أقبية الذال والعار .
« سيرة الرماد « و « الآن … هنا ، أو شرق المتوسط مرة أخرى « ، وجهان لعملة واحدة . الموت يلفظ أنفاسه أو في هزيعه الأخير ، يحتضر ويحترق فوق أزيز الألم . « وحين بدا موتي وشيكا … أطلقوا صراحي « أو « البحر ، البحر … لا شيء غير البحر ، سأتوجه إليه « ، الموت بألف كساء ، تتعالق فيه المداخل بالمداخن، فيصير عبد الرحمان منيف نفسه خديجة مروازي ؛ لأنهما وثيقتان شاهدتان على الوأد .
فالبحر مكان للموت أو للبوح بأسرار مدفونة في دهاليز الإهانة والوجع ، تزرع الرعب وتسير على الهامش والمنسي . فأورفيوس ما نظر إلى الخلف ، وإنما سارع الخطى كي يفر من العالم السفلي دون يوريديس، إنه عالم الأموات ، فقبالة البحر نترك وراءنا الرماد . فالرماد غير الرماد في الثقافة العربية القديمة أو بالأحرى في البلاغة العربية ، نقول : إن فلانا كثير الرماد ؛ كناية عن شخص حاتمي ، يطعم السابلة بسخاء . أما في عالم الأسطورة ؛ الطائر الذي يبعث من رماده ، إنه « الفينيق « .
خديجة مروازي المرأة التي وثقت للحظات السقوط و الانهيار ، وثقت لما يعتور السلطة السياسية من قصر النظر . فاليسار أو صفع الخد الأيسر أو كهربت النهد الأيسر عناوين بمداد شاهد على هذا الانتظار الذي يؤوب في السديم . كان الغناء على إيقاع الشعر ضفيرة السمو و التعالي على واقع معطوب وموبوء، كانت الرفيقات يغنين لحن الغروب من أمل دنقل إلى نازك الملائكة ، رحلة وسفر مقيم في الأقاصي . لعل وجودهن عَتــــــَّقه الحديد ، فأصبحن متشبثات بهذا البرق ، الذي يضئ العَتْمات .
خديجة مروازي الكاتبة والإنسانة التي تحكي ، ويصبح الأدب مقاوما للنسيان ، أليست شهرزاد لامست العصب العاري ، لما يمكن أن يفعله المخفر و المخبرون ؟ نزولا و صعودا ثم صعود ونزول . وعلى حافة الجنون كانت أمي تنتظرني … تنتزع الحياة من جلمود صخر ، وإن حطه على شط القبر و الرموس . تعوي الريح من شباك اللامعنى فتدفع كل شيء … إلى الأمام ، مطلين على حافة البحر … للبوح … للنسيان … للمحو. للتيه …
منذ أن ظهر الأدب ، وهو في مقاومة ، مقاومة الأدب تأتي بالكلمة ، بالشعور ، بفيض الشعور ، بالإنسانية ، فتغدو الكاتبة ملكا طهورا ، ترفض حتى الابتسامة في وجه الصدأ الذي ينخر أجسادنا الواطئة كالسوس ، وما يزحف من الليل ،
خديجةُ كما عرفتها ، في كتب النحو ، ممنوعة من الصرف لسببين ؛ المقاومة والبوح .
فتطفح أملا في غد ، قد ندركه … وقد لا ندركه …
يا أمي …


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 27/01/2024