د. يوسف تيبس، أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة: على الباحث تجسير العلاقة بين الحقول المعرفية وكسر الحدود بين المعارف والعلوم

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا للشعبة. من مؤلفاته: « مفهوم النفي في اللسان والمنطق»، ومن بين ما ترجمه:»رودولف كارناب، البناء المنطقي للعالم والمشاكل الفلسفية الزائفة» (2011)، «إدغار موران، في الجماليات» (2019)، « جون لوك ماريون، ظاهرة الحب، ست تأملات» (2015). جمع بين الأستاذ البشوش والباحث الدقيق والمترجم الشغوف. لم يتخصص في المنطق بمحض الصدفة، بل باستعداد شبه فطري عنده. ما يميزه كبيداغوجي هو «هدمه» لحاجز «البرج العاجي» بينه وبين من يدرسهم، وأحسن عربون على ذلك هو تنظيم طلبته لتكريم له برحاب الكلية الآنفة الذكر، على شكل ندوة يومي 18 و19 أبريل 2024، يشارك فيها أساتذة وطلبة جنبا لجنب؛ وهذا تقليد ميمون، يساهم في إعداد جيل جديد من المفكرين لإتمام الرسالة الفكرية والحضارية لأي مؤسسة جامعية. وبهذه المناسبة، طرحنا على ذ. تيبس هذه السلسة من الأسئلة، على شكل حوار.

p هل يمكنكم الحديث باختصار عن نشأتكم ومسيرتكم العلمية؟

n بداية دعني أعبر لك عن شكري وامتناني وسعادتي بهذا الحوار معك باعتبارك صديقا قديما وزميلا في المهنة وخصوصا أننا نتشارك مجموعة من الاهتمامات والهموم مثل التأليف والترجمة. ومن تواضعك أن تحاورني.
ولدت ونشأت في حي شعبي عريق (حي بوطويل- فاس الجديد). وهو حي أغلب سكانه أتوا من الجنوب، خصوصا الراشيدية ونواحيها لأن محطة حافلة الراشيدية كانت في باب السمارين، أي باب بوطويل. هذا الحي كان معروفا بتنوعه الموسيقي والثقافي (عيساوة، جيلالة، حمادشة…) وبالتربية الدينية وبأخلاق الكدح والقناعة والطموح من أجل تحسين ظروف العيش بأفضل الطرائق المتاحة والإيمان بأن لا أحد يمكن أن يرقيك في الحياة سوى عملك. (…). كانت دراستي الابتدائية بمدرسة باب الجياف، والاعدادي والثانوي بثانوية مولاي ادريس (…). من طقوس هذا الحي إقامة حفلات الزار (عيساوة، جيلالة، حمادشة، فرقة صحراوة -الملقب بالبوبوش-) (…)؛ ولعب الضامة (…) واجتماع حلقة الشباب في ‘درجة المكناسي’ تحت مصباح النور العمومي، من أعمار متفاوتة، نتبادل الحكايات والمعارف والآراء والغرائب. وبالمناسبة هذا المصباح كان له فضل علي لأن أبي كان يأمرني بإطفاء النور بالبيت عندما أسهر بالليل، فألجأ إلى المصباح العمومي لأتمم ما كنت أقرأه.

p بعد التخرج التحقتم بالعمل في التعليم الثانوي، وبدأتم في الوقت نفسه التحضير للحصول على درجة دكتوراه. كيف كانت هذه الحقبة من حياتكم؟

n بعد التخرج بامتياز قررت متابعة الدراسة العليا بفرنسا مثل العديد من طلبة فوجي، ومنهم أنت كذلك. لكن الظروف كانت قاسية هناك، على الرغم من أنني التقيت بمجموعة مهمة من المفكرين مثل مشيل سير وكورتيس (…). أضف إلى ذلك الظروف العائلية التي فرضت علي أن أعود بعد سنة من الدراسة بمونبولييه. عندما عدت اجتزت مباراة كلية علوم التربية، وكانت مباراة وطنية لأنها الكلية الوحيدة التي يتخرج منها أساتذة الفلسفة، كنت أول الفوج (…). وفي الوقت نفسه بدأت دراسة دبلوم الدراسات المعمقة بكلية الآداب بالرباط، تخصص المنطق وتاريخ العلوم مع الأستاذ طه عبد الرحمان وذ. بناصر البعزاتي ومحمد المرسلي.

p في أي سنة التحقتم بالتدريس بالجامعة ولماذا مدينة فاس بالذات، أو لأقل مرة أخرى؟

n التحقت بالكلية سنة 2004، وبهذه المناسبة دعني أحكي لك سببا آخر لتقززي من المعتقدات الإيديولوجية، لأنها لاحقتني حتى في هذا الجانب، إذ كان تقريبا من المستحيل أن ألتحق بالتعليم العالي. مناط ذلك أن أساتذة الفلسفة في المغرب كانوا (وربما لا يزالون) إما تابعين لمعسكر المرحوم محمد عابد الجابري أو معسكر طه عبد الرحمان، والسبب طبعا اختلافهما الإيديولوجي أولا والفكري ثانيا، وخلال إشراف طه عبد الرحمان على رسالتي كتبت مقالين مطولين في «نقد التصورات العربية للعقلانية»، به نقد لأركون والجابري ونقد خفيف لطه عبد الرحمان (طبعا لأنه أستاذي). فكان أن اعتبرني أتباع الجابري هرطيقا لأني مسست بالمقدسات، وعندما اختلفت مع د. طه عبد الرحمان دائما للسبب نفسه (الانتماء) مسني الطرد من الجماعة فأصبحت بين نارين ولا وسط في تلك الفترة بين النارين (…)
أما لماذا فاس فكأنك تسألني لماذا تحمل معك ذاكرتك عندما تسافر. وأنت تعلم أن الذاكرة هي الوجود لأنها التمثل والتصور والماضي والحاضر والإسقاط في المستقبل. فاس تسكنني وأسكنها، ليس هذا إعجاب ساكن مدينة بمدينته، بل عاشق لمعشوقته، هي جميلة بقدر جمال الفن ومليحة بقدر متعة حياتي. فاس هي عبق التاريخ وعطر الحاضر وأفق المستقبل، هي الأصل والحكم والعلم.

p تم اختياركم قبل سنوات لرئاسة شعبة الفلسفة بكلية ظهر المهراز بفاس، أية صعوبة يلتقي بها أستاذ في محاولة التوفيق بين مسؤولياته الإدارية والتدريس والبحث والترجمة؟

قبل رئاسة الشعبة كان من الضروري أن أتولى مسؤولية منسق المسلك وهي مهمة أصعب، لأن الأولى بيداغوجية تكون علاقتك بالطلبة والأساتذة مباشرة، أما الثانية فإدارية أكثر منها شيء آخر. طبعا في فترة دخولي للكلية كان هناك الإصلاح الجامعي التائه والمتيِّه، لا أحد يعرف المبتغى ولا كيف، سواء المسؤولين أو الأطر الإدارية والبيداغوجية. (…) توليت مسؤولية التنسيق رغم أنني كنت مشغولا بشكل كبير سواء في البحث أو الأنشطة الحقوقية الوطنية وخصوصا الدولية. (…) والأمر نفسه بالنسبة للشعبة، إذ مرت عليها فترة لم تشهد أنشطة علمية بارزة وأشياء أخرى، فتقلدت مهمة رئاستها، واتفق الزملاء على تنظيم ندوة علمية كل سنة تكون مصحوبة بتكريم أحد الأساتذة السابقين، بالإضافة إلى أنشطة أخرى موازية. (…) وإلى حد الآن كرمنا تسعة شخصيات، وأنا فخور بذلك.

أما بالنسبة لصعوبة التوفيق فعادة تكون مرتبطة بالفريق الذي تشتغل معه، وأنا أحمد الله أني أشتغل مع فريق رائع، كما يقول زميلي سي محمد بن المقدم: «يمكن أن نتقاتل في ما بيننا عندما يتعلق الأمر بالمعرفة، لكن عندما يتعلق الأمر بالأنشطة العلمية نكون واحدا». كما يساعدني على ذلك التنظيم المحكم للوقت، فأنا عندما يتعلق الأمر بالشغل والكتابة والترجمة أشتغل مثل الموظف مهما كانت الظروف، وبعد ساعات الدوام أصير فوضويا.

p في أوائل اهتمامكم الفلسفية، خصصتم وقتا أيضا لفيلسوف فرنسي آخر: ميشال سير. وأعتقد أن بحثكم للحصول على الإجازة كان يدور حوله. ماذا أخذتم من م. سير؟

n قبل سنة من الإجازة اقترح علي الأستاذ إدريس المنصوري البحث في موسوعة هيرميس (Michel Serres; Hermès) المكونة من خمسة أجزاء لمشيل سير. (…) كانت أول صعوبة أواجهها هو عدم توفر أجزاء الكتاب، وثانيا حتى لو وجدتها فإمكانياتي المادية لا تسمح باقتنائها، ومع ذلك تدبرت أموري بصعوبة كبيرة وحصلت عليها من فرنسا عبر البريد، لكن ستواجهني عندئذ صعوبة لم أكن أتوقعها وهي لغة الكاتب التي تجمع بين الأدب والأسطورة والعلم والشعر وغيرها من أساليب التعبير المجازية للتعبير عن موضوع إبستيمولوجي (…).
أما ما استفدته من مشيل سير، فهو تقريبا ما استفدته من إيليا بريغوجين وإدغار موران، أي التجسير بين الحقول المعرفية وكسر الحدود بين المعارف والعلوم، وإن كنت قد وجدت نفسي أكثر في فكر إدغار موران، لأنه يجعل الحياة هي منتهى المعرفة، وأنا من بداية معرفتي كنت أعتبر كل شيء يصب في الحياة ومن أجل الحياة حتى أننا نحيا من أجل الحياة ونموت من أجل الحياة.

p من بين المواضيع التي اهتم بها م. سير في السنوات الأخيرة هناك موضوع التكنولوجيا، هل لهذا الموضوع حضور في الساحة الفلسفية العربية الحالية؟

n رغم أهمية إشكالية التكنولوجيا في الحياة الإنسانية من حيث تأثيرها القاتل بجميع أبعاده الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية عموما، إلا أنه موضوع لا يحضر في الكتابات العربية سوى باعتباره إشكالا إبستيمولوجيا وبشكل عابر. وربما يرجع الأمر إلى أن أهل الفلسفة يعتبرون التكنولوجيا إشكالا خاصا بالحضارات الصناعية، في حين أن التكنولوجيا أضحت موضوعا كونيا، بل حاسما في العولمة. وعموما إذا استثنينا بعض المفكرين مثل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان وحسن حنفي وغيرهم قليل، من الصعب أن تجد من يبتكر إشكالا فلسفيا أصيلا يفرض نفسه في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المواطن العربي الأمازيغي. بل غالبا ما تتبع الكتابات الفلسفية موجات العصر.


الكاتب : أدار الحوار وقدم له: د. حميد لشهب

  

بتاريخ : 20/04/2024