«شرقنة» (orientalisation) العلاقات الدولية.. تقارب حقيقي بين بكين وموسكو لكن تبقى الخلافات استراتيجية

هل هو تكتل أم تحالف أم شراكة؟ التقارب الذي تجلى الخميس بين الصين وروسيا في سمرقند في أوزبكستان يمثل بداية ظهور بديل للغرب، لكن معالمه وقواه الدافعة ما زالت غير واضحة نظرا للاختلافات الاستراتيجية بينهما.
تجمع بين الرئيسين الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين أمور كثيرة من التقارب الأيديولوجي والمصالح الاقتصادية والعسكرية إلى الرغبة في تجاوز النظام المتعدد الأطراف الذي أقامه الغرب ويشعران بأن قيمه تهددهما. لكنهما ليسا حليفين، فكل منهما يتحرك في مجال مختلف وله مصالحه الخاصة بالطبع، كما يشير بعض الخبراء.
يقول الباحث سيريل بريت من معهد جاك ديلور في باريس “إنها ليست كتلة بل شراكة حقيقية، غير متوازنة وغير متجانسة”.
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة “زواج مصلحة” كما تقول الباحثة أليس إيكمان، المحللة المسؤولة عن شؤون آسيا في معهد الدراسات الأمنية التابع للاتحاد الأوروبي (EUISS)، إذ إن بينهما “نقاط تلاق كثيرة”.
وتوضح أن “لدى الصين قراءة متقاربة إلى حد ما مع قراءة روسيا للتوترات القائمة مع الولايات المتحدة ومع حلف شمال الأطلسي وما تشير إليه بعبارة – الغرب – بالمعنى الواسع. … إنها ليست كتلة محددة جيدا، لكن من الواضح أننا أمام حالة استقطاب للعالم”.
ويقول بريت “لا يوجد رابط أيديولوجي بين البلدين، ولكن هناك رؤية مشتركة للعلاقات الدولية باتجاه إزالة التاثير الغربي عن العالم”.
من جانبه، يفضل إيمانويل دوبوي، رئيس معهد المستقبل والأمن في أوروبا (IPSE) الحديث عن “كتلة مرنة”، مع التأكيد على “الواقع الاستراتيجي لهذا التقارب” الذي يتضح من التدريبات العسكرية المشتركة التي تتكرر وتيرتها.
يتعاون البلدان كذلك في مجالات الطاقة والفضاء، وينسقان تحركاتهما ومواقفهما في الهيئات الدولية.
في النهاية، يرى دوبوي أن هيكلية تتشكل من خلال العديد من المنظمات، بما في ذلك منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) وهي الإطار الذي جمع شي مع بوتين الخميس، مما يؤكد على توجه نحو “شرقنة” (orientalisation) العلاقات الدولية.
ويضيف أن هذا “سيتم التعبير عنه بلا شك بطريقة يتجلى من خلالها الموقف الموحد على نحو أوضح في الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة”، بينما دعي إلى قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند قادة بيلاروسيا وإيران والهند وباكستان والعديد من دول آسيا الوسطى الذين تمكنوا من مشاركة وجهات نظرهم مع شي جينبينغ وفلاديمير بوتين قبل أيام قليلة من اجتماع قادة العالم في نيويورك.

لا حلفاء ولكن شركاء

لكن بكين وموسكو ليستا على قدم المساواة، لا بل إنهما بعيدتان كل البعد عن ذلك.
يقول دوبوي “كان على روسيا أن تتقرب ذليلة من هذه المنظمة التي أنشأتها الصين في الأساس للحد من تحركات روسيا في آسيا الوسطى. وهذا يوضح مدى حاجة بوتين إلى الصين”.
ويلخص بريت الوضع بقوله إن روسيا المعزولة والخاضعة لعقوبات غربية “عليها أن تتطلع نحو الشرق علم ا أن خياراتها محدودة”.
ويقول إيفان فيغنباوم من مركز كارنيغي للسلام الدولي إن “الصين أقوى من روسيا. ومصالحها أشمل وأكثر تنوع ا. هدف بكين هو الحفاظ على تفاهمها مع روسيا على المستوى الاستراتيجي، لمواجهة القوة الأميركية. … لكن دونما الحاجة إلى تقديم الدعم لموسكو على المستوى التكتيكي، لأن بكين تستفيد من الوصول إلى الأسواق العالمية، وتتجنب العقوبات وتبني علاقات مع دول تخشى روسيا، مثل تلك الموجودة في آسيا الوسطى”.
وتذكر إيكمان بأن “الصين ليس لديها حلفاء بل شركاء، وهي تعتمد استراتيجية التحالفات”.
ويقول المؤرخ بيير غروسيه إن دعم شي جينبينغ لبوتين قد يكون “فخا للصين”.
ويضيف في مقال في مجلة السياسة الخارجية الصادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية Ifri إن العداء الروسي للغرب “يفرض السير في منحدر خطير من المواجهة يجعل التعايش السلمي صعب ا، بينما ما زالت الصين بحاجة للتبادلات الاقتصادية والتكنولوجية مع الدول الرأسمالية الكبرى”.
ومع ذلك، تقول إيكمان إن “في سياق توتر شديد وطويل الأمد بين بكين وواشنطن، … ترى (الصين) أن لديها مصلحة في تسريع تقاربها مع روسيا”.
وهو وضع مقلق، خاصة في تايوان التي قالت حكومتها الجمعة إن تعزيز العلاقات بين موسكو وبكين يضر بالسلام الدولي.

إصلاح مجلس الأمن في ظل المواجهة مع روسيا

ويحتل ملف إصلاح هيكلية الأمم المتحدة صدارة سلم الأولويات لدى الكثير من الدول الأعضاء في المنظمة، إذ يطالب أصدقاء وخصوم الولايات المتحدة على حد سواء بتغيير تركيبة مجلس الأمن.
وبينما يشارك قادة العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تصدر دعوات التغيير من جهة غير متوقعة هي الولايات المتحدة التي ضاقت ذرعا من سلطة الفيتو (حق النقض) التي تتمتع بها روسيا في وقت تسعى لمحاسبة موسكو على غزو أوكرانيا.
ودرست القوى الغربية القواعد الإجرائية لضمان عدم حظر روسيا اجتماعات مجلس الأمن وفي إطار سعيها لإدانتها، لجأت إلى الجمعية العامة، حيث تملك كل من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 بلدا حق التصويت.
وبدا عجز الأمم المتحدة جليا أمام العالم في فبراير عندما واصل دبلوماسيون قراءة بيانات معدة مسبقا بينما بدأت روسيا قصف جارتها.
وفي خطابها مؤخرا، أعربت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليندا توماس – غرينفيلد عن دعمها “للمقترحات العقلانية وذات المصداقية” لتوسيع عضوية مجلس الأمن الذي يضم 15 بلدا.
وقالت “علينا ألا ندافع عن وضع قائم عفا عليه الزمن وغير مستدام. يتعين علينا بدلا من ذلك إبداء مرونة ورغبة في التوصل إلى تسوية خدمة للمصداقية والشرعية”، من دون أن تضيف أي توضيحات.
وأشارت إلى أن الدول الخمس الدائمة العضوية التي تتمتع بحق الفيتو (بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة) تتحمل مسؤولية خاصة في المحافظة على المعايير وتعهدت بأن الولايات المتحدة لن تستخدم حق النقض إلا في “حالات نادرة واستثنائية”.
وأضافت أن “أي عضو دائم يستخدم الفيتو للدفاع عن أعمال العدوان التي يقوم بها يخسر السلطة الأخلاقية وتتوجب محاسبته”.
وتسخر روسيا والصين من هذا النوع من التصريحات الصادرة عن الولايات المتحدة التي تجاهلت مجلس الأمن الدولي في عهد رئيسها جورج بوش الابن لغزو العراق.
وقالت ناليدي باندور، وزيرة خارجية جنوب إفريقيا التي لطالما طالبت بتمثيل إفريقي في مجلس الأمن، إن انتقاد نظام الفيتو بسبب روسيا يعد نفاقا.
وأفادت في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن “لم يحصل بعضنا ممن نادى بتعزيز دور الجمعية العامة بأي دعم، وفجأة اليوم” تبد ل الوضع.
وأضافت “في هذه الحالات يفقد القانون الدولي معناه. لأن بعضنا يرى في ذلك غشا”.
وبينما أقرت توماس-غرينفيلد بأن الولايات المتحدة لم ترق على الدوام إلى مستوى معاييرها، أشارت إلى أن واشنطن استخدمت حق النقض أربع مر ات فقط منذ العام 2009، كانت جميعها لدعم إسرائيل باستثناء مرة واحدة، مقارنة مع استخدام روسيا لهذا الحق 26 مرة.
وأشار الخبير المتخصص بالأمم المتحدة لدى مجموعة الأزمات الدولية ريتشارد غوان إلى قلق أميركي حقيقي حيال “عجز” مجلس الأمن الدولي.
وقال “لكنها أيضا طريقة ذكية لإحراج الصين وروسيا. لأننا نعرف جميعا أن البلدين الأكثر تحسسا من فكرة إصلاح المجلس هما روسيا والصين”.
وتعكس الدول الخمس الدائمة العضوية ميزان القوى في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي لحظة تاريخية حاسمة بالنسبة للهوية الروسية. وصدرت وجهة نظر جديدة عن أوكرانيا مؤخرا مفادها بأن مقعد مجلس الأمن الدولي كان للاتحاد السوفياتي السابق، لا لروسيا.
وجاء أكبر تحرك لإصلاح مجلس الأمن في الذكرى الستين لانتهاء الحرب عندما أطلقت البرازيل وألمانيا والهند واليابان مسعى مشتركا من أجل الحصول على مقاعد دائمة.
وعارضت الصين بشدة إمكانية حصول اليابان التي تعتبرها قوة موازية في شرق آسيا على مقعد، علما بأن طوكيو تعد من أكبر الدول المساهمة في الأمم المتحدة بعد الولايات المتحدة.
وسبق لقادة الولايات المتحدة أن أي دوا شفهيا الإصلاح من دون السعي إليه على أرض الواقع. ولطالما دعمت واشنطن منح مقعد لليابان، وهي دولة حليفة تتوافق مواقفها عادة مع تلك الأميركية. كما أعرب الرئيس السابق باراك أوباما في الماضي عن تأييده بشكل عام منح الهند مقعدا.
ولفت غوان إلى أن صدور دعوة واضحة من بايدن من شأنه أن يعيد فورا إحياء جهود إصلاح المجلس، لكنه أضاف “أشعر بأن الأميركيين لا يملكون خطة واضحة في هذا الصدد”.
وتابع “يطرحون الأمر من أجل اختبار الوضع، لتحدي الصين والروس. قد تتلاشى” الفكرة لاحقا.
ويشكك مراقبون معنيون بالشؤون الدبلوماسية بإمكان تطبيق أي إصلاح في مجلس الأمن طالما أن روسيا والصين تعتبران أن الأمر يعرض مصالحهما إلى الخطر.
وأوضح جون هربست، الدبلوماسي الأميركي السابق والباحث في “المجلس الأطلسي” أن “بعض الأشخاص ضمن المجتمع (الدولي) مم ن دعموا أوكرانيا في مواجهة عدوان الكرملين يتحدثون عن الأمر طوال الوقت… لكنني أعتقد أن الاحتمالات الواقعية ضئيلة للغاية”.


بتاريخ : 20/09/2022