عائلة  الشهيد  المهدي بن بركة ترد على  مقال «الغارديان» البريطانية

الهجوم على المهدي بنبركة أصبح شبه عادة كلما حلت ذكرى اختطافه

محاولات التشهير لا يمكن أن تغير من حقيقة أن المهدي كان عدوا كبيرا للاستعمار والإمبريالية

 

 

أمام محاولة أخرى دنيئة لاغتيال المهدي بنبركة، رمزيا، في ذكرى اختطافه، لم تتوان عائلة الشهيد بن بركة (البشير بن بركة)، في الخروج ببيان صحافي توصلت “الاتحاد الاشتراكي» بنسخة منه، عبرت من خلاله عن أسفها للهجومات المستميتة والمشينة التي يتعرض لها المهدي بنبركة في السنوات الأخيرة، خاصة كلما اقتربت الذكرى السنوية لاختطافه واغتياله، علما أنه أحد أهم القادة السياسيين في المشهد السياسي النضالي لدول العالم الثالث، ورمز من رموز مقاومة الاستعمار الجديد والإمبريالية، في تجاوز تام لما أبداه من تضحيات من أجل قضايا بلده والبشرية، ذلك أن المهاجمين المأجورين ينتهزون كل فرصة من أجل التضليل والقذف و التلميح بالسوء والذم في حقه وفي حق عائلته.

* وسيبقى الشوك دائما محيطا بالورود..

ومما جاء في بيان العائلة أنه:
«على غرار ما نشهده من هجوم في حقنا، فقد نشر الأكاديمي التشيكي «جان كورا» في طبعة الأحد من صحيفة «الغارديان» البريطانية الشهيرة (تاريخ 26 من دجنبر الحالي)، مقالا تحت عنوان جذاب: «زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة، أكان جاسوسا كما تشير إليه ملفات الحرب الباردة»، كما نقلت «الأوبسيرفر» (التابعة للغارديان) جل الأطروحات التي وردت في مقالتي هذا الأكاديمي الذي استنسخ بدوره معلوماته، وبالتفصيل، من مقال للصحفي التشيكي «بيتر زيديك» كانت قد نشرته الأسبوعية الفرنسية «إكسبريس» في يوليوز سنة 2007، أي أن المقال الجديد المنشور من لدن الصحيفة البريطانية لم يأت بأي جديد، وهو لا يمثل إلا شكلا من أشكال النفاق الذي اعتدنا عليه.
وللتذكير، فليست هذه المرة الأولى، التي نتعرض فيها، نحن والراحل المهدي بن بركة، إلى اتهامات مماثلة، ذلك أن الأمر أصبح شبه عادة، فقد تعودنا أن نتلقى ونستفيق على كم من الاتهامات التي تتزامن مع ذكرى الراحل، إذ تتعرض فيها شخصيته دائما لهذا النوع من الهجمات المقصودة في حق أفكاره وحياته المهنية والنضالية، وهي الاتهامات التي دأب عليها جل أعدائه ومعارضيه ومنتقديه، وهذا ما لمسناه خلال المحاولة الأخيرة لتمرير مزاعم أن المهدي كان «جاسوسا» لدى جهة خارجية، في فكرة آمن بها البعض دون تفكير، ودون تحليل لخلفيات نسب «الجاسوسية» تارة لهذه الجهة وتارات أخرى لتلك من الإستخبارات الدولية. وها نحن اليوم نشهد نفس المنسوب للاستخبارات التشيكوسلوفاكية (StB) على غرار الموساد بالأمس.. لذلك لن نتعجب إن نسب اسمه غدا لوكالة «CIA» الأمريكية أو حتى «Cab1» المغربية؟!.

* «رواية» جان كورا للأحداث

يزعم الأكاديمي التشيكي جان كورا، بناء على الوثائق التي رفعها للعموم على موقع تويتر، والتي بدورها رفعت عنها السرية من لدن الاستخبارات التشيكوسلوفاكية، وذلك دون تحليل متعمق ومتأن لما بين يديه ومدى مصداقيته، أن المهدي بن بركة كانت له علاقات وثيقة مع تلك الجهة الاستخباراتية وأنها دفعت له مالا مقابل ما قدمه من خدمات. فما غفل عنه الأكاديمي هو أن الوثائق ليست إلا «مواد خام» استخباراتية منتجة أو مصنعة من لدن هذا الجهاز الاستخباراتي، كما يمكن أن تكون منقحة أو غير كاملة، وهي قابلة للتشكيك في مصداقيتها، كما الحال في جميع التحقيقات حول هذا الموضوع، حيث لم تول «الأوبسيرفر» أية أهمية أو اعتبار للملاحظات المدلى بها من لدننا عندما سئلنا حول مقال الأكاديمي التشيكي.
إذن، وفي غياب الأدلة المادية الملموسة لتأكيد هذه المزاعم، هل ينبغي لنا أن نصدق ونجزم بأن ما أدلى به كتاب هذه المقالات، وما أقدموا على توفيره من حجج واهنة و مثيرة للسخرية تخص زعيم الحركة الأفريقية – الآسيوية، صحيح و لا غبار عليه؟
إن صدقنا ما يقولونه بخصوص المهدي بن بركة، من مزاعم من كونه كان جاسوسا لدى جهز الاسخبارات التشيكوسلوفاكي، وأنه تعرض للتلاعب من لدن السكريتير الثاني للسفير في باريس، فلا يسعنا إلا أن نذكر على الأقل بما قاله الصحفي «بيتر زيديك» لأسبوعية «ليكسبريس» الفرنسية، من قبيل «تأكيده على غياب مواد إستخباراتية ملموسة تؤكد ما ينسب من تهم تخص علاقة المهدي بن بركة والجهاز التشيكوسلوفاكي».
ثانيا، فيما يخص الإجتماع المزعوم ما بين بن بركة والعميل التشيكي (ذي الإسم الرمزي «موتل» (MOTL والذي ربما كان مصادفة فقط في مدينة باريس سنة 1960، فهذا ربما لم يكن سوى معلومة أراد القادة التشيكوسلوفاكيين استغلالها لمصالحهم الشخصية، لعلمهم بالمكانة المهمة التي اكتسبها المهدي بن بركة دوليا وفي دول العالم الثالث. وكفرصة من ذهب لتحليل الحالة والمستجدات الدولية ذات الصلة بمصالحهم، طلبوا من جاسوسهم مراقبة المهدي. أما من ناحية أخرى، فيبدو أن الراحل لم يكن على علم تام بالمهمة الرئيسية للجاسوس «موتل»، معتقدا كما أعلن عنه أنه مستشار رسمي من لدن سفارة بلده.

*»براغ»، متابعة مهمة للسياسة الدولية للكتلة الاشتراكية

من جهة أخرى، نلاحظ إهمال «جان كورا» وعدم إلمامه العميق بعالم الجاسوسية، تحديدا في الفترة التي عاش فيها المهدي بن بركة، وهو أمر واضح في ما نقل عنه في «الأوبسيرفر»، حيث أن «براغ» كانت مقرا للمنظمات الدولية التقدمية (الاتحاد العالمي لنقابات العمال، الاتحاد الدولي للطلاب…)، وكانت أيضا ممرا إلزاميا للقادة السياسيين المنتسبين لهذه المنظمات، على غرار منظمة «تضامن الشعوب الإفريقية – الآسيوية» (OSPAA)، كي تكون قادرا على الوصول إلى بعض من العواصم الإفريقية والآسيوية وحتى لكوبا. و من وجهة نظر عملية بحثة، فإن تذاكر سفرهم ومصاريف إقامتهم، يتم دفع مصاريفها إما من الخزانة المالية لهذه المنظمات أو من خلال شراكاتها وتعاقداتها مع لجان التضامن المحلية (مثل اللجنة التشيكوسلوفاكية) التي كانت بمثابة جسر للمعونة المالية الدولية من المعسكر الاشتراكي.
وللتذكير، فقد تولى المهدي بن بركة، منصب عضو في أمانة OSPAA ونائبا لرئيس «لجنة صندوق التضامن»، وكان مسؤولا فيها عن «جمع المعونة المالية لحركات التحرر الوطني لبلدان العالم الثالث»، ورئيسا مقبلا للجنة التحضيرية لـ»مؤتمر تضامن شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية» (أو الثلاثي القاري). وعلى هذا النحو، فقد شهد من موقع مسؤولياته فترة من التنقل المنتظم إلى كل من «آسيا» و»إفريقيا» و»كوبا» و»أوروبا»، حيث كانت تقدم المعونة في جميع أنحاء تشيكوسلوفاكيا، بغية دعم العمل السياسي للقوى التقدمية (من معدات، تدريب الناشطين، منح دراسية و غيرها…).
ونظرا لأهمية «براغ»، ومرور المهدي بن بركة بها، باعتباره مناضلا سياسيا معروفا دوليا، فلن يكون مستغربا أن يغتنم المسؤولون التشيكيون فرصة تموقعه بها وعرض الالتقاء أو الاجتماع به، بيد أن المهدي بن بركة لم يتردد في مشاركة تحليله السياسي للوضع الدولي بكل رحابة صدر (هذا ما ينبثق منه نوع «التقارير» التي كان سيقدمها). وفيما سلطت عليه مقالة «جان كورا» من ضوء، فهي تؤكد عدم تقديم المهدي بن بركة لأية «معلومات حساسة» خارج النطاق التحليلي السياسي. كما تجدر الإشارة إلى أن المهدي بن بركة قد غادر باريس في ربيع عام 1961 متوجها إلى جنيف، وهو ما لم يتم التطرق إليه الجاسوس موتل لرؤسائه بأي شكل من الأشكال.

*ما الذي ينبغي استنباطه من كل هذا؟

ينبغي أن نشير إلى ملاحظة مهمة جدا. هناك مشكلة تتعلق بفهم المصطلحات المتعلقة بالقضية منذ البداية. فمن وجهة نظر جهاز StB فإن الأمر الوحيد الذي تم تقديمه في مقال جان كورا وتناوله مقال الأوبسيرفر، كان يصف المهدي بن بركة فيه بكونه «مصدرا للمعلومة»، وليس «عميلا إستخباراتيا» كما يظن الجميع، وهذا فارق بالرغم من بساطته إلا أنه ذو قيمة مهمة للغاية، حيث يمكن للمرء أن يكون مصدرا «عفويا» للمعلومة دون أن يكون أو يتحول إلى «عميل» ناقل ومقصود لها، وهذا الفرق سيكون له تأثير على وجهة النظر النهائية للقارئ، وبحسب فهمه للمصطلحات الواردة أمامه. ففي الوثيقة الوحيدة المتعلقة بـ»تجنيده» المزعوم، المؤرخة لسنة 1963 تحول الإسم الأول للمهدي بن بركة إلى «محمد» (Mohamed).. لا جدية فيما يكتب ويقال.
في نفس السياق، كان الاتصال الأول الذي أقامه «موتل» على شكل اتصال سياسي، ما بين مستشار السفارة في باريس ومسؤول سياسي مهم، جاء في مضمون نقاشاتهما الطابع السياسي والاستراتيجي، و لم يكن له في أي لحظة كانت طبيعة أشبه بعلاقة الجواسيس المعروفة، أو بعلاقة الرئيس مع ممثله في الميدان، كما أن التقارير التي قدمها «جان كورا» لم تشر إلى أي تغيير طرأ على طبيعة العلاقة بين المهدي بن بركة و الشخصيات التشيكية التي يلتقي بها، و أن جان كورا من خلال وجهة نظره لا يفترض إلا أن المهدي بن بركة كان على يقين بهوية مخاطبيه التابعين لـStB !!! ..
لا يمكننا أن ننكر أهمية تحليلات المهدي بن بركة للوضع في كل من المغرب وإفريقيا والعالم الثالث عموما، وأن لا سبب يمنعه من مشاركة تحليلاته سواء مع دبلوماسي أو مسؤول سياسي من «دولة صديقة»، بيد أن دوره كقيادي سياسي لا يمنعه من مشاركة ما يبدو له، سواء في اجتماعات العمل المنتظمة التي دأب على حضورها، مع شخصيات سياسية قارية معروفة من قبيل جمال عبد الناصر، بن بلة، نيكروما وغيرهم…
علاوة على ذلك، لم يكن المهدي بن بركة (خلافا للمزاعم) بحاجة إلى سكرتير ثان للسفارة التشيكوسلوفاكية في باريس كوسيط، أو للمرور عبر «براغ» لتبادل الآراء مع المسؤوليين السوفييت، بيد أن هذه الاتصالات كانت قائمة بالفعل خلال عمله كرئيس «للجمعية الوطنية الاستشارية المغربية»، في أعقاب استقلال المغرب. إضافة إلى ذلك، كان ممثلا لـ»اللجنة السوفياتية للتضامن الآسيوي – الإفريقي»، وعضوا هاما في الأمانة الدائمة للرابطة في القاهرة، ومشاركا في رئاسة صندوق التضامن المسؤول عن جمع وتوزيع المعونة على حركات تحرير العالم الثالث، واشتغل أيضا مسؤولا عن تلقي المعونة وتوزيعها، على أن براغ كانت في معظم الأحيان وسيطة لهذه المعاملات.
ملاحظة أخرى ينبغي ذكرها، لا تتناسب مع القيود التي كانت ستفرض على عميل ما، كون المهدي بن بركة لم يحد أبدا عن عن خطه السياسي والإيديولوجي، أي تطوير النضال المناهض للاستعمار والإمبريالية من خلال تعزيزالتضامن الدولي مع الحفاظ على حركة العالم الثالث من التأثيرات السوفيتية والصينية لتلك الفترة على حد سواء. هذا السلوك، لم يتغير أبدا حتى بعد زيارته إلى براغ. فيما يخص رحلته إلى بكين صيف عام 1965، فقد كانت ترمي لإقناع القادرة الصينيين بأهمية وجود الاتحاد السوفيييتي في «مؤتمر القارات الثلاث» الذي اعترضت عليه الصين، بحجة ان الاتحاد السوفييتي «أوروبي»؛ إلا ان المهدي بن بركة أصر على أهمية حضور الجمهوريات الآسيوية، لتتكلل مهمته بالنجاح بعدها. كان لـ»النواة الصلبة» المستقلة من العالم الثالث في الصين والاتحاد السوفياتي داخل القارات الثلاث وزن قوي بما يكفي لفرض رئاسة المهدي بن بركة للجنة التحضيرية التي تم البث فيها بالإجماع.

*ذاكرة نضالية مغربية – قارية – عالمية يستهزأ بها
و يداس عليها

لا يسع عائلة بن بركة في الختام، إلا أن تعبر عن صدمتها و استيائها البالغين من ما يروج له من «معلومات زائفة» يتم تلفيقها بكل استسهال وطيش متعمد لشخص الراحل المهدي بن بركة، ودون أي إدراك، ولو بسيط، أو تحليل ممنهج وموضوعي للسياقات والأوضاع التاريخية والسياسية، في تعد سافر يرمي بوضوح إلى تقويض ذكرى الشهيد المهدي بن بركة، وتشويه معنى عمله السياسي الدؤوب وفكره المكافح والمدافع عن مصالح الشعوب ضد الاستعمار و الإمبريالية والصهيونية، جاعلا حلمه تحقيق تحررها السياسي والإجتماعي بحثا عن الديمقراطية.
بالتأكيد، لم يستطع الراحل المهدي بن بركة، ضحية عملية الإختطاف والجريمة السياسية في 29 من أكتوبر 1965، إكمال مشواره بسلام من أجل تحديث المجتمع المغربي وتوحيد الحركات التقدمية في العالم الثالث، إلا أن افكاره وعمله، قد غدت ولا تزال نضالات أجيال من المغاربة والأجانب.
إن محاولات التشهير السابقة، وما تلاها في الآونة الأخيرة من هجوم على ذاكرته لا يمكن أن تغير ذلك الفيض الغزير من المساهمات المهمة وذات القيمة العالية الداعمة لظهور مجتمعات حديدة اكثر تطورا من ذي قبل.
و أخيرا، نستغرب ونندهش من السهولة المفرطة وغير المفهومة للوصول إلى المعلومات الحساسة والوثائق السرية، و ما يتبعها من نشر بهذا المنهج غير المسؤول والطفولي في بعض الاحيان. في حين أننا نواجه عقبات جمة منذ ما يربو عن 56 سنة رفقة محامينا، في القدرة أو إمكانية الوصول إلى أجهزة الاستخبارات الأخرى والتواصل معها، والتي يمكن أي يكون لديها خيط ولو قصير يؤدي بنا إلى معرفة الحقيقة حول مصير الراحل المهدي بن بركة.


الكاتب : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 31/12/2021