غزة نموذجا سياسة التدمير الحضري المتعمدة للمدن الفلسطينية

«سياسة التدمير الحضري» أو (urbicide) هو مصطلح يصف التعمد في «القضاء» على مدينة ما (يترجم حرفيا على أنه «قتل المدينة» بالتحديد)، سواء بوسائل مباشرة أو غير مباشرة، تم تقديم هذا المفهوم لأول مرة في عام 1968 في سياق التحول الحضري في الولايات المتحدة، وقد تم توضيحه على نطاق غير مسبوق في «فلسطين» وتحديدا في «غزة» حيث تمت تسوية أحياء بأكملها مع الأرض.
إن تاريخ هذا المصطلح يرتبط بتساؤل البشرية: «عما إذا كان من الممكن للمدن – مثل البشر – أن تموت؟».. وفقا ل»مركز الأمم المتحدة للدراسات الفضائية»، حتى 29 فبراير 2024، لم يسلم ما يقرب من 88 ألفا و 886 مبنى في غزة من التدمير (كليا أو جزئيا)، كما تضررت أو دمرت 61% من مباني المستشفيات و 60% من أماكن العبادة
و61% من المدارس، ناهيك عن القضاء على أحياء بأكملها. في غزة، يتضح مفهوم «الإبادة» أو (urbicide) – من الكلمة اللاتينية «urbs» ل «مدينة»، و «cida» ل «الضرب، القتل» – بصورة غير مسبوقة ذات حجم غير متوقع.
ومع ذلك، فإن تعريفه (بشكل دقيق) يبقى غير مؤطر.. «يمكننا تحديد مصطلح «urbicide» من خلال الإرادة السياسية لتدمير المدينة»، كما كتبت «فيرونيك ناحوم – غراب» في مجلة «Tous urbains»
(Presses universitaires de France, 2015). يهدف من يتبنى تنفيذ مصطلح «Urbicide» إلى «إبادة كل ما يموت – في نفس الوقت – الذي تنهار فيه «المدينة التي يعيش فيها العدو ويتحرك ويتغذى ويخترع ويحب ويتشاجر فيها، وهذا ما يجب إبادته وجعله لاغيا وفارغا ومتآكلا ومهدما، وينبغي إعادة بنائه بناء على الفكر والإيديولوجية الجديدة للفاتح».
يشمل الوصف أعلاه، مفهوم «إبادة الموطن» أو (Domicide)، الذي يشير إلى التدمير المخطط والمتعمد للمسكن.. في أكتوبر 2023، دعا «بالاكريشنان راجاغوبال»، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في السكن اللائق، إلى الاعتراف ب»إبادة المسكن كجريمة ضد الإنسانية». بالنسبة للمنزل، كما كتب في صحيفة «نيويورك تايمز»: «هو أكثر بكثير من مجرد هيكل، إنه مستودع للتجارب الماضية والأحلام المستقبلية، وذكريات المواليد والوفيات والزيجات واللحظات الحميمية مع أحبائنا، وسط جيراننا والمناظر الطبيعية المألوفة والمحيطة بنا.. فكرة المنزل، تجلب الراحة وتعطي معنى لحياتنا، كما أن تدميرها هو إنكار لكرامة الشخص وإنسانيته». ومع ذلك – في الوقت الحالي – يأسف «بالاكريشنان راجاغوبال» على مساواة مصطلح (Domicide) ب(urbicide) من حيث الوقع والتشابه في النتيجة، والتي لم يرد ذكرها أيضا في القانون الدولي والإنساني – «هو إلى حد كبير حكم أخلاقي».

ما بين التدمير والتجديد الحضري

في سياق مختلف تماما، تم ذكر مصطلح (urbicide) لأول مرة في عام 1968، في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» حول «تدمير أو إبادة التراث الصناعي للمدن الأمريكية»، والذي استخدمته المهندسة المعمارية «آدا لويز هاكستابل» لوصف «التشويه الأعمى باسم التجديد الحضري».
خلال تسعينيات القرن العشرين، استخدم الفيلسوف الماركسي «مارشال بيرمان» هذا المصطلح ل»وصف التحضر العنيف ل»روبرت موسى» – الملقب ب «هوسمان نيويورك» – المعروف بهدم الأحياء القذرة والأزقة الضيقة – بما في ذلك حي طفولته في «برونكس» – من أجل بناء الطرق الواسعة للمدينة الحديثة التي نعرفها». من العصور القديمة إلى يومنا هذا، تعد تجربة رؤية مدينة المرء في حالة خراب واحدة من أفظع المشاهد الإنسانية، كمن يستخدم المبيد الحشري» كما يصفها الفيلسوف.
في وقت لاحق، استخدم «بوغدان بوغدانوفيتش» المهندس المعماري وعمدة «بلغراد» السابق، هذا المصطلح بدوره لاستحضار «طقوس القتل» الممارسة على المدن – «سراييفو» أو «موستار» أو «فوكوفار» – خلال الحرب في «يوغوسلافيا» السابقة، كما كتب في عام 1993: «نحن الصرب سنتذكر أنفسنا كلصوص للمدن في فترة ما بعد الحرب.. إن الرعب الذي يشعر به الغرب مفهوم، كونه ربط لعدة قرون بين مفهومي «المدينة» و «الحضارة» ، حتى أنه ربطهما على المستوى الاشتقاقي. لذلك ليس لديه خيار سوى اعتبار تدمير المدن معارضة صارخة وغير مبررة لأسمى قيم الحضارة».
يلاحظ برنت باترسون ، مؤرخ الهندسة المعمارية والأشكال الحضرية أن: «لهذا المصطلح معنى مختلفا». خلال الحرب في «يوغوسلافيا» السابقة، تم استهداف المدينة باعتبارها وجهة عالمية، وتحديدا التراث هو المستهدف الأكبر».. سواء كان الفرد نمساويا – هنغاريا أو عثمانيا، كما هو الحال مع التدمير المأساوي للجسر القديم في «موستار»، المدينة التي يلتقي فيها «الشرق والغرب»، وكما يقول مارتن كوارد ، مؤلف كتاب (Urbicide): «تتميز المناطق الحضرية بعدم التجانس» في «سياسة التدمير الحضري» (روتليدج، 2008). وبالتالي فإن مصطلح (Urbicide) يمكن تلخيصه في كونه «عملية هجوم لتدمير المباني التي ليس بمقدورها أن تتجانس مع المنظور الجديد»، وضدا لما تفعله عبقرية المدينة، وأبعد بكثير من الأهداف العسكرية».

الحرمان من تراخيص البناء

ونظرا لأن الحروب الحديثة تخاض إلى حد كبير في المدن، فقد تضاعف الدمار (في «حلب»، «غروزني»، «ماريوبول» وغيرها..). «إن الصراع في غزة، هو جزء من نمط من الحروب التي لم تعد فيها المدينة «ساحة المعركة» بل باتت هدفا للمعركة»، وفقا للخبير في شؤون الشرق الأوسط «بيتر هارلينغ»، الذي يلاحظ مع ذلك «شيئا فريدا من حيث النسبة المئوية للنسيج الحضري المدمر».
على حد تعبير الباحثة البولندية «دوروتا جولانسكا»: «تقترن الإبادة المستمرة في الضفة الغربية، بقوة، مع شكل من أشكال «القتل البطيء، نظرا لإقامة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية والحرمان المنهجي من تصاريح البناء للفلسطينيين». بالعودة إلى أرشيف التاريخ البشري، يقال إنه: «بعد تدمير «قرطاج»، أراد الرومان تنقية أو (تعقيم) التربة عن طريق نثر الملح وتمرير المحارث حتى لا ينمو عليها شيء مرة أخرى»، لهذا نتساءل: «هل يمكن مع ذلك أن تولد مدينة ميتة من جديد؟»، في هذا الصدد يقول هارلينغ: «تتمتع المباني القديمة، بقدرة غير عادية على تجديد نفسها»، ولكن من هذه المنطقة حيث تعيش الحضارة هنا أيامها الأخيرة، الممزوجة بكثير من الفوضوية الصلبة كما لو كانت مصنوعة من الخرسانة، لن يكون هناك الكثير لاستعادته، باستثناء الكثير – فقط – من الأنقاض التي سيتم تطهيرها وإعادة تطهيرها لإتمام وصف مصطلح (Urbicide)».

عن «فالنتين فور» لموقع «لوموند


الكاتب : ت: المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 20/04/2024