في الحاجة لِمسيراتٍ أخرى بعد المسيرة الخضراء

هي سبعٌ وأربعون عاما مضت على انطلاق المسيرة الخضراء، الحدث الوطني الأكبر والأخطر في تاريخ المغرب المستقل، بعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه (16 نوفمبر 1955) وإعلان الاستقلال(18 نوفمبر 1956). أحسَب تلاميذَ المدارس بعد طلاب الجامعات وعمومِ الشعب المغربي على بيّنة بخبر هذه المناسبة التاريخية العظيمة، حدثا وأفعالا ونتائج، ليس مكان هذه الورقة رواية تفاصيلها ولا هي تتسع لها. حسبنا القول، إنه بفضلها وقرار الإقدام عليها الذي اتخذه الملك الراحل الحسن الثاني لبّى دعوته ثلاثمائة وخمسون ألف مواطن وبقي عشراتُ الآلاف متلهّفين يناشدون السلطات أن يلتحقوا بركب إخوتهم وينالوا هذا الفخر، رأيت بأمّ العين صفوفَهم لا تنقطع يتوسّلون حدّ البكاء أن يُدرجوا في لوائح المَسيريّين؛ بهذا القرار الحاسم والإرادة الشعبية والمواقف السياسية الوطنية، ثم ما رافقها وتلاها ويتواصل مسلسلا دبلوماسياً بدون انقطاع منذ التاريخ المعلوم، استرجع المغربُ صحراءه التي كانت تحت الاحتلال الإسباني، وقطع الطريق على الانفصاليين والمتآمرين، مُحققاً بذلك وحدته الترابية ما عادت تقبل عندنا جدلا وتحظى بمساندة وتعاطف قسم كبير من الدول الشقيقة والصديقة، ويضع مبدأ ومسطرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية سقفَها الأعلى لأيّ حوار مع الخصوم.
لكني، وإذ أتجاوز تفاصيلَ حدث البدايات، لم تبرَد في دمي ولا انطفأت في عيني أقمارُ الحماس الوطني التي شهدتها وعشتها ساعة بساعة منذ الصدى العارم للخطاب الملكي، وبعده مباشرة الاستعدادات الأولى تعطيه مصداقية وتنفيذا أفاقَ المغاربةُ من حالة ذهول أولى وقعوا فيها بين مُصدّقٍ ومتسائل ومنتظر، فمرافقةٌ لانتقال الملك إلى مراكش قاعدة خلفية أولى لخطة المسيرة حيث الدولة كلها والوفود الصحفية المغربية والأجنبية من العالم أجمع، ونحن نتلقف الأخبار ونُخمّن ونتوقعّ ونتساءل كيف تنفيذ عملية جبّارة تقود 350 ألف مغربي من جميع أقاليم وعمالات البلاد بدون استثناء بنِسب إحصائية محددة ودقيقة، سينتقلون على شاحنات وينحدرون إلى أعماق الجنوب الساحلي بعد طرفاية، إلى أن يواجهوا الحدود المصطنعة التي فصل بها الاستعمار الإسباني صحراء المغرب عن جنوبه وكان يناور لانتقال سياسي مشبوه؛ لتحطّ بهم الرحالُ في خيام وجميعهُم يَطعمون ويشربون ويتطبّبون ومنهن نساءٌ مرضعات، تحميهم في الحِل والتّرحال قوةٌ أمنيةٌ ودركية لا يُشقّ لها غبار، ميثاقُهم : لله، الوطن، الملك.
حين انتقل الموكب الملكي إلى أغادير، أصبح الأمر جدّاً في جِد، وفي تلك الساحة التي شهدت استقبال الحسن الثاني مهندس المسيرة وقائدها الأول لخطري ولد سيدي سعيد الجماني لتقديم البيعة لعاهل البلاد باسم شيوخ الصحراء وبعد أن خلع عليه سلهامه تقديراً لموقفه حسب ما جرت به الأعراف، قطع الشك باليقين. إذا ضاعت من ذاكرتي التفاصيل، فإني أنا الموفَد باسم جريدة المحرر من مديرها الشهيد عمر بن جلون، برفقة صديقنا الصحفي العميد حسن العلوي شافاه لله، استيقظت كمن يمشي في المنام فأجد أنّي وصلت بالسيارة التي بحوزتي سقتها من الدار البيضاء، وبعد أن اجتزت طرفاية، ها هي ذي على مدّ البصر أمامي منطقةٌ شاسعةٌ زُرعت خياما والشاحناتُ الواقفةُ والقادمةُ ينزل منها المتطوّعون من مختلف الأعمار يتدبّرون شروط الإقامة، ووُجّهتُ نحو تخييم الصحفيين أرى أشكالا من السّحنات وأسمع لغاتِ العالم ومُعدّات التصوير والإرسال المُبهرة، وخيّمنا وقتا ننتظر. كنت وعشرات الآلاف نحسب الانتظار بنبض القلب وننام إن نمنا ونستيقظ على سؤال متى الزحف للعبور إلى الصحراء، نرى أعاليها في أفق قريب يظنها الناظرُ سَرابا وهي حقيقةٌ ساطعةٌ مثل شمس النهار، ولا تسَل عما حدث بعد ذلك حين أُعطيَت إشارةُ الانطلاق وخلقُ لله أرواحا وأجسادا أيديهم بيَدٍ تُلوِّحُ بقرآنه الكريم وبأخرى بالراية الحمرا خفاقة، على يقينٍ أنهم كانوا بالآلاف وأنا في المقدمة منهم سيهَبون أرواحهم من أجل استرجاع الصحراء؛ كانوا فعلا أرواحا خرقت المُحال. وإني لأعجب كيف منذ ذلك التاريخ لم ينُجز فيلم ملحمي عن هذا الحدث العظيم ونحن نتوفر على مركز سينمائي بما له وما عليه، وكتاب وسينمائيين وممثلات وممثلين قديرين، أليس بمثل هذا تتعلم الأجيال وتُنقَش في الذاكرة أيامُ الشعوب تزهو بها الأوطان، أم سنظل ضحايا النسيان؟!
قرابة نصف قرن تقريبا مضت على المسيرة الخضراء المظفّرة، كثيرٌ ممن شاركوا فيها باتوا في عداد الراحلين، وقليلٌ أحياءُ وما بدّلوا تبديلا. وثالثٌ يحق أن نسميه جيل المسيرة، الذين ولدوا سنة 1975 وعقبها أيضا بسنوات قريبة، لهم أجداد وفيهم الآن آباء، وإني لأسأل مخلصاً بحسن نية ماذا يعرفون حقا عما جرى، وبمَ نفوسُهم وعقولُهم ممتلئة مما جرى، أقول دائما وأعي أن المواطنة ليست موروثة بالتسجيل في كنّاش الحالة المدنية وكل ما ينتقل بالفطرة أبا عن جد، ولكن بالتربية والتعليم، وهي مسؤولية وطنية كبرى من العائلة إلى الدولة إلى الأحزاب والهيئات المدنيّة وتحتاج إلى أن تنخرط في ميثاق جماعي يُبنى على وطنية مسؤولة وملتزمة. وسواءٌ كان السلف قد أدّى الرسالة كاملة أو ناقصة، فاز بعضُه وضّحّى جلُّه وخسِر منه أنفار، ولا تنسوا أن وطنيتنا امتُحنت في حمأة سنوات الرصاص، يبقى على الأجيال اللاّحقة أن تُبدع مسيرتها الخاصة، وتعطي لمواطنتها هويةً جديدةً من معدن زمانها وحاجاتِ ومطامحِ بلدها، أن ترتاد آفاقا لم تُطرق ولا تكتفي بانتظار وتنفيذ التعليمات ولا التبجّح بالشهادات والمناصب والتفاخر بالولاءات واللّهاث خلف الجاه والأبّهات، ليس في هذا رصيد ولا عزٌّ إلا حُطام وفُتات.
إذ تمضي خمسةُ عقود تقريبا بعد أن استرجعنا صحراءنا وأرسَيْنا عُمُدَ وحدتنا الترابية ونواصل تعزيزَها وحمايتها ولن نحيد عن هذا المذهب والعمل ما دام في هذا المغرب عرق ينبض؛ لكن حرصنا الأعمق والأخلص على حماية الوحدة الترابية والاحتفال سنويا بذكرى المسيرة الخضراء رهينٌ أيضا بمسيراتٍ أخرى هي أكبرُ من برامجَ ظرفية وأعزُّ منالا من خطط ترميمية، ألم يحن الوقت لنعيد طرح سؤال من نحن؟ وماذا نريد حقا؟ وما هي مؤهلاتنا وطموحاتنا بعد عشرات الخطط والبرامج التي طبقنا ومررنا بها وكنا لها حطبا وبلا شك لم تخلُ من نماء وثمار؟
كلُّ مسيرة خضراء ونحن صامدون وأنتم بخير من طنجة إلى لكويرة أيها الأشقاء، لكن ونحن محاصرون من خارج وفينا أيضا دغل» وفي أنفسكم أفلا تبصرون»، ينبغي لهذه الذكرى أن تفتح أبصارنا أكثر على ما فات، إذا ابتهجنا بما جنيَنا لا بأس أن نأخذ العبرة، ونُعِدّ ما يكفي من العُدّة ويزيد لما هو آت، ملءَ الإخلاص والصبر والثبات؛ صحيح أتمتع برفاه من لا يملك القرار، وبالتالي حِلٌّ من التبعات، إنما هذا لا يعفي من امتلاك شجاعة الرأي، «هو أوّلٌ وهي المحل الثاني». وأخيرا، مثل سَميّي أحمد الطيب المتنبي، فإني مهما غلَوت في الشكوى وصرّحت بالعتاب، لا مناص أنتهي فأخاطب بالنّجوى من أهوى:» أنسابُ فخرِهم إليك وإنما/أنسابُ أصلهم إلى عدنان/ (…)/فإذا رأيتُك حارَ دونك ناظِري/ وإذا مدحتُك حارَ فيك لساني».


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 02/11/2022