في انتظار سلبية التحاليل … جحيم طوكيو يتواصل والسفارة المغربية ترفع معنوياتي

لم أكن أعتقد وأنا أطأ بلاد الساموراي، أن المطاف سينتهي بي محتجزا في حجرة صغيرة، لا تتعدى مساحتها 16 متر مربع، أنتظر مصيرا مجهولا، بعدما تأكد أنني خالطت الزميل يوسف بصور، صحافي جريدة الأحداث المغربية، حيث كنا نقيم في نفس الغرفة ونقتسم الأكل والشرب، وحتى التنقل، حيث كنا إلى جنب طيلة أيامنا الأولى بالعاصمة طوكيو، في أول مهمة رسمية لي خارج المغرب.
مرت على هذا الحال عدة أيام، أبحث فيها من معلومة ولو بسيطة، تشفي غليلي، وتريح أعصابي، التي توثرت إلى حد لم أعد فيه أطيق سماع كلمة «اصبر»، لأنني أصبحت أشفق على نفسي، رغم محاولات الزملاء الصحافيين، الذين ما فتئت اتصالاتهم تخفف عزلتي، وترفع معنوياتي.

استيقظت في السابعة صباحا بالتوقيت الياباني، الذي يوافق الحادية عشر ليلا بالتوقيت المغربي، فتحت ستائر النافذة، الموصودة بإحكام، حتى أسترق فجوة ضوء إلهي، قبل أن تشتد حرارة الشمس.
أخدت حماما دافئا وطلبت من الزميل صلاح الدين محسن أن يحمل إلي من المطعم فطوري، الذي هو بالمناسبة ضمن الخدمات التي يوفرها لنا الحجز الفندقي، الذي قامت به اللجنة الأولمبية المغربية مشكورة. كانت خدمة الفطور مفتوحة، ولكل واحد منا الحق في أن يأخذ ما يريد وبالكمية التي تكفيه. لكن في حالتي أنا، وبحكم أنني في حجر صحي إجباري، لم يكن مسموحا لي بالنزول إلى المطعم، كما أن إدارة الفندق تجاهلتني بشكل غير مقبول، ولم تكلف نفسها حتى عناء السؤال عني، فأحرى تمكيني من الفطور.
على أي، تكلف بهذه المهمة زملائي، الذين كانوا دائمي الاتصال بي، لكنهم كانوا يخافون من مراقبة إدارة الفندق، فقرروا أن يكون تعاملهم معي عن بعد، حتى لا يسقطوا بدورهم في المحظور، ويفرض عليهم حجر صحي، أقل ما يمكن أن يقال عنه، إنه تعسفي.
أغلقت ستائر النافذة، واستلقيت على سريري، وكأني خارج للتو من عملية جراحية، وأمسكت هاتفي، ورحت أهيم في العالم الأزرق، علي أنسى هذه الوحدة القاتلة، في انتظار نتيجة التحليل على اللعاب، التي قمنا بها مساء الاثنين.
كانت معنوياتي، اليوم الأربعاء، أحسن من يوم أمس، لأنني على الأقل شعرت بنوع من الأمان والاطمئنان، الذي بدأت استعيده بمجرد الاتصال الهاتفي، الذي أجراه معي مستشار السفارة المغربية بطوكيو، والذي وعدني بالتكفل بأموري إلى حين عودتي إلى المغرب.

تعليمات من السفير

أخبرني السيد عبد اللطيف إيدمحما، رئيس البعثة المغربية الأولمبية بطوكيو، خلال اتصال هاتفي أجراه معي مساء الثلاثاء، أن سفير المغرب بطوكيو يتواجد في عطلة بالمغرب، لكنه أصدر تعليماته إلى مسؤولي السفارة بضرورة الاهتمام بأعضاء البعثة المغربية، وأخذ أحوالهم على محمل من الجد، خاصة وأنه يعلم جيدا كيف تسير الأمور بهذه البلاد.
حاول السيد إيدمحما أن يرفع معنوياتي، خاصة وأنه تناهى إلى علمه الحالة النفسية التي كنت عليها في الصباح، بفعل الضغط النفسي الرهيب الذي عانيت منه، بسبب وضعي داخل غرفة ضيقة، بلا هواء، مظلمة وساخنة جدا بفعل حرارة أشعة الشمس الحارقة، التي تتسلل من النافذة، والتي لا يمكن فتحها، فغدوت وكأنني داخل زنزانة. قال لي إن وضعيتي تتواجد على رأس أولويات البعثة المغربية، رغم التعقيدات غير المبررة لقرارات السلطات اليابانية، التي تعامل بكثر من الصرامة مع جائحة كورونا.
قبل اتصال السيد إيدمحما، جدد المسؤول المغربي بالسفارة، السيد عصام، اتصاله بي وسألني إن كنت أتوفر داخل الغرفة على أداة تسخين، فأجبته بالنفي، ثم سألني عن الثلاجة، فأخبرته بأنهم يضعون بالغرفة ثلاجة صغيرة الحجم. قال إنه يتواجد بأحد المحلات التجارية الكبرى، وأنه سيحمل لي بعض الأطعمة الحلال، وبعض المشروبات، التي يمكن أن أتدبر بها أموري، في هذا البد، الذي يبقى إيجاد الأطعمة الحلال به صعبا للغاية، وهذا خلق لنا متاعب كبيرة، نحن معشر الصحافيين، حيث كنا نشك في كل شيء، ولا نأكل إلا ما يكون لدينا يقين تام بأنه حلال.
بعد أقل من ساعة سمعت طرقات على الباب، وجدت كيسين كبيري الحجم مملوءين بالمواد الغذائية وقنينات الماء، وكان السيد عصام وأحد مرافقيه من أطر السفارة المغربية باليابان، يقفان بجانب الباب. قدما لي نفسيهما، وأخبراني بأنني محط رعاية واهتمام من السفارة المغربية، وطلبا مني عدم التردد في الاتصال كلما جد جديد.
ودعتهما وعدت إلى سجني، أنتظر فرجا قريبا، خاصة وأن حظوظي في العودة رفقة الوفد الإعلامي المغربي أصبحت قليلة، لأنهم قدموا الموعد، بعدما كان محددا في السابق يوم 9غشت الجاري. بفعل ارتباك أحوالهم جراء ما وقع لي أنا والزميل يوسف بصور.
علي انتظار سلبية تحليلة اللعاب، وأخرى لعينات مخاط الأنف، وأيضا انتظار تدخل وضغط البعثة المغربية، لأن العودة دون إكمال مدة الحجر الصحي، المحددة في 14 يوما، متوقفة على مدى اقتناع الجانب الياباني ومدى حجية الجانب المغربي في الإقناع.

صرامة كبيرة عندما تحضر كورونا

احتياطات هذه البلد كبيرة للغاية، ولاسيما أثناء فترة الألعاب الأولمبية، التي كان تنظيمها مغامرة كبيرة من هذا البلد الآسيوي، وفي ظل المعارضة الشديدة لفئة كبيرة من ساكنته، التي تظاهرت غير ما مرة، ولاسيما أثناء حفل الافتتاح، حيث طالب المعارضون للألعاب بتسخير الإمكانيات المالية المرصودة لهذه الدورة الأولمبية للخدمات الصحية، ومساعدة السكان على تجاوز تداعيات هذه الجائحة، التي أربكت دول العمور بأسرها.
في اليابان يعد ارتداء الكمامة من العادات اليومية الضرورية للمواطنين، فلا يكاد يمر مواطن ياباني أو أجنبي إلا الكمامة تغطي معظم وجهه، فضلا عن انتشار كبير لمواد التعقيم في كل مكان، فأنى وطئت قدماك إلا وتجد قنينات المعقمات عند المداخل وفي أعماق المحلات التجارية، ضع ما شئت، وبالكيفية التي تريد، يكفي أن تعقم يديك، وتحمي نفسك والآخرين.
داخل المتاجر، صغيرة الحجم والكبيرة أيضا، لا يتسلم البائع منك النقود، وإنما يطلب منك أن تضعها داخل آلة معدة لهذا الغرض، تضع فيها المبلغ المحدد، وإذا تجاوزته ترد لك الفارق. طبعا هذا في إطار التدابير الاحترازية.
وفي أحد المرات حصل أن حاولت تسليم أحد البائعين النقود في يده، عن سهو مني، لكنه صرخ في وجهي «كوغوني… كوغوني» وأشار إلي بيده إلى مكان وضع النقود بالآلة. اعتذرت منه وتسلمت حاجياتي وانصرفنا.
وذات مرة، حصل أن قصدنا جماعة أحد المتجار الكبرى من أجل التسوق، فطلب مني الزميل محمد الروحلي أن يضم بضاعة اشتراها، وكانت علبة من حب الملوك، إلى بضاعتي، حتى يتفادى الوقوف في طابور طويل، سيما وأنه اشترى سلعة واحدة فقط، وسلمني مقابل هذه العلبة من الكرز، وكان بين النقود المعدنية، التي سلمني إياها قطعة 20 سنتيم مغربية، لم تنتبه إليها لأنها كانت مشابهة تماما لقطعة عشرة ين اليابانية. بدأت أدس النقود في الآلة، وفجأة توقفت وأطلقت إنذارا لم أفهم سببه. التفت إلى المكلفة بعملية جرد السلع وطلبت منها أن تخبرني عن سبب توقف هذه الآلة، طبعا كان تفاهمنا بالإشارة، لأننا اكتشفنا طيلة مقامنا بهذا البلد أن الغالبية العظمى من سكانه لا يتكلمون سوى اللغة اليابانية، وحتى إن تكلم بعضهم الإنجليزية، فإنه ينطقها بصعوبة بالغة، أما الفرنسية والاسبانية والعربية، فحدث ولا حرج.
أخبرتني هذه البائعة أنه يوجد بين النقود قطعة غير يابانية، وأشارت إلى مكان تواجدها، ووجدت بالفعل أن القطعة مغربية، ضحكت مع نفسي، وأكملت وضع النقود إلى أن أتممت المبلغ، ثم توجهت إلى زميلي، وأخبرته بالواقعة، ثم ضحكنا وغادرنا متعجبين من كل هذه الدقة والحرس التي تطبع عادات وسلوكيات المواطن الياباني.

لا مكان للغش والاحتيال

في البلد الآسيوي، هناك احترام كبير للقوانين والضوابط، كما أن الخصوصية لها حظ كبير في سلوكات الإنسان الياباني. يأخذون الإذن قبل القيام بأي تصرف يخص الغير. فعند دخولنا الفندق أول مرة، وأثناء القيام بملء استمارات الوصول، والتي كان الزميل أحمد نعيم، المسؤول الإعلامي باللجنة الوطنية الأولمبية، قد قام بأشواط كبرى منها، استأذننا موظف الفندق في استنساخ صورة من جواز سفرنا، رغم أن العملية ضرورية في إجراءات الحجز.
وعند التسوق، يطلب منك البائع الإذن ليضع لك كيسا بلاستيكيا، فقط لأن ثمنه ثلاث أو خمس ينات، وستزيد عن الثمن الحقيقي لمبلغ السلع، وإذا رفضت يحترم قرارك دون تعجب أو اشمئزاز، بل ينهي العملية بالشكر، بعد أن كان قد بدأها بالترحيب، وهذا ليس حكرا على الأجانب، بل يشمل المواطنين اليابانيين أيضا. لأن من شروط العمل في هذه المحلات الأدب والاحترام. تذكرت حالتنا في المغرب، وكيف يعمد بعض التجار إلى مضافة الأثمنة في وجه السياح، مستغلين عدم معرفتهم، فيقومون بكل أنواع التدليس والاحتيال لسلبهم مبالغ أعلى من الأثمنة الحقيقية. تذكرت أيضا كيف أن سائحة أجنبية التقيتها قبل ثلاث سنوات، وأخبرتني كيف أن تاجرا بمدينة فاس باع لها إبريق شاي بثمانية آلاف درهم!!
تحرص المحلات التجارية في اليابان على منحك وصلا بالمنتوجات التي اقتنيتها، ويحرص البائع على إعادة الباقي، ولو كان ينا واحدا، والذي لا يساوي شيئا باليابان، لأن مائة ين تساوي بالعملة المغربية ثمانية دراهم. وإذا ما هممت بالمغادرة دون «صرف» يناديك البائع أو البائعة ويسلمك الينات الباقية وهو يضحك في وجهك، ويطلق كلماته اليابانية، التي لا نفهم منها شيئنا، لكننا نكون مجبرين على إظهار الابتسامة.


الكاتب : طوكيو: إبراهيم العماري

  

بتاريخ : 05/08/2021