في حوار مع الدكتور يوسف بن عدي.. فلسفة تدريس الفلسفة أو الفلسفة داخل الحجرة

بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، الذي يصادف 18 من نونبر، وإسهاما في النقاش حول الموضوع وللتحسيس بأهمية الفلسفة التي «تعتبر اختصاصا مشوقا، وممارسة يومية تحدث تحولا في المجتمعات وتساعد على بناء مجتمعات قائمة على مزيد من التسامح والاحترام من خلال الحث على إعمال الفكر ومناقشة الآراء بعقلانية» (منظمة اليونسكو)، تنشر الاتحاد الاشتراكي حوارا مع الدكتور الباحث في الفكر الفلسفي يوسف بن عدي ومقالا للكاتب والباحث في التربية والفلسفة، علي بلجراف .

 

– من هو مدرس الفلسفة ؟ وأين تتجلى مهمته؟
– أعتقد أنّ سؤال من هو مدرس الفلسفة لا يعني أننا سنحفر عن فلسفة هذا المدرس وخلفياته أو مقروءاته وإنما سؤال من هو المدرس في سياق العملية التعليمية التعلمية والذي لن يكون سوى ذاك الذي يتحمل مسؤولية تدريس مادة الفلسفة في التعليم الثانوي مسؤولية بيداغوجية ومسؤولية تنويرية. وهما وجهان لا يفترقان في المشغل الفلسفي فلا فلسفة من دون نقد وإعمال العقل ثمَ لا بيداغوجية من دون إفساح المجال للمتعلم للإدلاء برأيه أو التعبير عن مواقفه كيفما كانت سلبية أو إيجابية. فمدرس الفلسفة يكون المشرف على النقاش الفلسفي الذي يكون في الفصل. وبهذا الاعتبار، يكون درسُ الفلسفة هو درس ترسيخِ الفكر النقدي والمحاورة، ونبذ كلّ قراءة أحادية الجانب لا تتيحُ فرصة الإصغاء للآراء والتصورات المغايرة. ولعل هذا لن يتم وفق رأيي من دون مظلة بيداغوجية تكون من جنس هذا الدرس الفلسفي التي هي بيداغوجية مفتوحة تدفعُ المتعلم والمدرس إلى آفاق هائلة من الإبداع والابتكار. وفي هذا الأمر شواهد كثيرة وحسبنا أن نسوقَ بالقول إنّ درس الفلسفة في ثمانينيات القرن الماضي كان درساً في الأيديولوجيا والتأدلج، وأنا لستُ من الذين يزعمون أن ذلك الدرس لم يكن فلسفياً وإنما أقول إن تلك الفترات التاريخية من تاريخ المغرب قد مكنتنا من معرفة الفلسفة والأيديولوجيا وطرق اشتغالهما وآلياتهما، فضلا عن ذلك أنّ تطور المجتمع المغربي ومنطق العالم الحديث قد “فرضا” هذا النوع من التعلّم والتدريس بل أكثر من ذلك كان السؤال الأهم هو: ما هي الأيديولوجيا التي يجب أن يتبناها المتعلم المغربي؟ ولم يكن السؤال ماهي الطريقة البيداغوجية الملائمة لتدريس تاريخ الفلسفة؟ إننا كنّا أمام تاريخ الأيديولوجيات وليس أمام تاريخ الفلسفات. أليس تاريخ الفلسفة هو تاريخ الأنساق الأيديولوجية؟ هذا سؤال قد يخرجُ عن موضوع هذا اللقاء والحوار.

– موضوعات الفلسفة مألوفة لدى المتعلم، كيف إذن يمكن إثارة انتباه هذا الأخير إذا ما أخذنا في الحسبان النظرية السلوكية في التعلم القائلة إن التعلم سلوك حاصل للمتعلم بسبب مثير أومحفز (مبدأ المنعكس الشرطي)؟
– لا شك أنّ تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي هو تدريس يخضعُ لاعتبارات وجدانية وذهنية وجسمية فالنمو العقلي لدى المتعلم شرط لازم وعتبة ضرورية كيْ يستطيع المتعلم أن يفكر مع مدرسه(ته) في إشكالات وتساؤلات تكاد تكون عويصة بالنسبة له. لذلك كان مسألة هامة في التوجيهات التربوية لمادة الفلسفة وهي مسألة التدرج . التدرج في الأفكار والتدرج في تناول قضايا الفلسفة العامة والتدرج في قراءة النصوص الفلسفية والثقافية أو الشذرات أو الرسالة… شيئاً فشيئاً يكون في وسع هذا المتعلم أن يكتسب صوراً مختلفة عن قضايا الفلسفة: الحرية والشك والنقد والمنهج…إلخ. وأعتقد أن تحفيز المتعلم وإحداث زوبعات ذهنية تحدث في وجدانه وعقله حقلا كبيراً من التساؤلات…فهو ينخرط معك – سواء اتفق معك أو اختلف- بيقظة وانتباه لأنّ لم يكن كلاسيكياُ إن جاز القول في حديثك عن مفاهيم الفلسفة ومشكلاتها. التحفيز هنا قد لا يثمر في كثير من الأحيان من خلال النظرية السلوكية أو الجشطالتية، ولكنه قد يكون خلاقاً وذا أثر واضحٍ عن طريق نظريات تعليمية وبيداغوجية التي تكون مفتوحة على الحدث واللامتوقع.

– لكانط قولة مشهورة: “لا نتعلم الفلسفة، بل نتعلم كيف نتفلسف”، من منظوركم هل يمكن تعليم الفلسفة أم التفلسف؟ وما السبيل إلى تعليم التفكير الفلسفي؟

– طبعاً لا ينبغي أن يكون تصورنا مقيداً بعبارة الفيلسوفين الألمانيين ايمانويل كانط وفريدريش هيغل بين التفلسف والفلسفة إذ إنّ هما معاً يخدمان التعليم الفلسفي أكثر من افتراقهما وإنْ كان الأمر يتعلقُ بالاختلاف المذهبي بين رؤية كانط للعقل وأدواته وحقوله ورؤية هيغل للعقل وعلاقته بالتاريخ والسياسة وتطور الوعي. ومن ثمة، فإنجاز الدرس الفلسفي أو درس الفلسفة هو منوط بالمنجز وشروط الانجاز بطبيعة الحال.، وقد لا نكون في منأى عن هذا القول إن قلنا إنّ المزاج كما يقول جالينوس شرط مهم في اعتدال درس الفلسفة ونجاحه. والنجاح هو لا يقابله عندي الفشل بل يقابل الخلل في نقطة لم يتم تطويرها في سياق التدريس أو غموض أحاط بمفهوم أو مصطلح لذلك وقع التباس في ذهن المتعلم…وهكذا. ثم إنّ الرتابة والتكرار هما العدوان اللدودان لدرس الفلسفة في التعليم الثانوي. الحل في رأيي أن تنويع النصوص أو الشذرات أو القضايا التي ينتقيها المدرس أو يثيرها المتعلم فيكون باباً مشرعاً للحوار الفلسفي ومناسبة كبيرة لترسيخ قدرات وكفايات. وكما أنّ انعكاس هذه الرتابة إذا ما كانت هي السائدة في درس الفلسفة، سنعثر عليها بوضوح شديد في منجزات المتعلمين والمتعلمات بحيثُ يغيب لديهم الحس النقدي أو على الأقل التعبير عن مواقفهم. كلّ ما نجده هو سرد للأطروحات التي تخفي هشاشة المتعلم وضَعفه الفكري!

– هل يمكن الحديث عن خصوصية الدرس الفلسفي في المغرب وما واقعه في المدارس عامة والجامعات خصوصا؟هل تنتج لنا الجامعة كفاءات قادرة على خلق تنمية مستدامة للدرس الفلسفي والإبداع في تقديمه؟
– أنا لا أرى أنّ درس الفلسفة في المغرب تراجع وتقهقر إلى الوراء مقايسًة بلحظات زمنية من تاريخ المغرب المعاصر، كما أني لا أرى أن درس الفلسفة في السبعينيات والثمانينيات كان درساً أيديولوجيا لا فلسفة فيه، ودرس الفلسفة في الألفية الثالثة درس في الفلسفة لا ايديولوجية فيه. أعتقد أنهما معاً متعالقان ومتلازمان مع الفروق التي تبدو في منطقهما، منطق الفلسفة ومنطق الأيديولوجيا. أقول هذا الكلام لأن بعض الباحثين يُمعنون في إحداث القطع التام بين الفلسفي والأيديولوجي في درس الفلسفة بل صار مناسبة لتأريخ مراحل الدرس الفلسفي في المغرب، مرحلة الأيديولوجيا ومرحلة الفلسفة بين ظُفرين. والحال أن الأمر لا يستقيمُ بهذا الشكل ولا يقبل بهذه الصيغة. خصوصية الدروس الفلسفية أو درس الفلسفة في المغرب يرجع في نظري إلى قدرته على ترسيخ النزعة النقدية في التعليم المغربي ضد الجمود والتقليد والتبعية. قد تكون هذه النزعة النقدية ذات طابع أكاديمي صرف لكنني أرى أثرها كبير وهائل في درس الفلسفة بالتعليم الثانوي من حيث طبيعة النصوص الفلسفية والثقافية التي يتم تقديمها من عصور مختلفة وفلسفات متنوعة تستند إلى مرجعيات حداثية وما بعد الحداثة. فالمثقف المغربي حامل المشروع الفكري قد أسهم برؤيته النظرية والتاريخية والتأويلية في إضفاء المنحى النقدي على درس الفلسفة في التعليم الثانوي والجامعي. وأكيد أن الكتابات والمؤلفات التي تصدر في الفلسفة وعلوم الإنسان والنقد والآداب لدليل على تلك النزعة النقدية المنتشرة هنا وهناك. مهما اختلفنا في مضامين هذا النقد ومصادره ومآلاته، هو اختلاف يؤسس لمدى حيوية درس الفلسفة في المغرب المعاصر.

– أيمكن القول إن البيداغوجيا تقيد إبداع مدرس الفلسفة وأيضا روح التفلسف؟ وهل لنا بالاستغناء عنها في تدريسية الفلسفة؟
– ربما أنّ هذا السؤال هو من افتتاحية الدروس في ديداكتيك الفلسفة، هل الفلسفة تحتاج لخطاب بيداغوجي أم في الفلسفة بيداغوجية خاصة بها؟
وهكذا ينتجُ عن هذا القول وجود تيارات في هذا الباب منها النزعة البيداغوجية والنزعة الفلسفية “اللابيداغوجية”. وأعتقدُ أنّ المشكل الحقيقي هو منطق الهيمنة الذي هو مضاد لماهية الفلسفة ومضاد أيضاً لماهية البيداغوجية. فجعلُ كلّ تيار أو مدرسة تنافحُ عن أسبقيتها أو قدرتها على إخضاع المجال لصالحها هو منطق غير مقبول. وربما يساهمُ في عرقلة تطور التفكير النقدي أكثر مما يرسم معالمه وملامحهُ. أرى أن الحل لهذه المعضلة قد يكون في الطرف الثالث المغيّب وهو النقد. فالقول إن الفلسفة لا تحتاج إلى بيداغوجيا أو خطاب بيداغوجي هو قول غير صحيح لأنّ تاريخ الفلسفة منذ الإغريق أنها تسعى إلى بيان أفكارها والدفاع عنها والبرهنة والتدليل من خلال تمثيلات أو استعارات أو أقيسة…وأما القول بأن البيداغوجية تقيد الإبداع والابتكار هو أمر يحتاج إلى شواهد على هذا الأمر، إذ لا يكفي أن نسوق عمليات التنميط أو طرق التعلم وصيغ تعليمية وتعلمية كي نحكم على الوضع بالتقييد. فالبيداغوجيا منها من ساهمت في حرية التفكير ومنها أيضا من ساهمت في تحويل المتعلم إلى ذات سلبية. الحل يكمن في وظيفة الفلسفة ووظيفة البيداغوجيا، ألا وهو النقد والارتقاء بالفرد إلى مراقي الحرية والاستقلال الفكري.
– ما العمل لأرضنة بيداغوجيات توائم خصوصيات المجال بعيدا عن ”متابعة موضاتية”، إن صح التعبير، للمناهج الغربية ونأيا عن كل أشكال الإسقاط واللصق العقيم أحادي الرؤية؟
– طبعاً لا يمكننا إنكار أو القفز عما ينتجهُ الغرب الحديث والمعاصر من مناهج وأدوات ووسائل للتفكير النقدي ذلك أن أي إنكار لها يعني حتماً أننا سنكون خارج التاريخ ولن يكون للعالم العربي أي إضافة في العلوم. فملاحقة الإنتاج الغربي في البيداغوجيات والعلوم التدريسية والتفنن في إسقاطها قد يكون هنا موضع الخطأ، لأن الصيحة والموضة هي الموجهة للتفكير وليس التفكير هو الذي يقرر ما يلائمهُ من عدمه. إذن، مجالات عربية ومغربية كثيرة في هذا الباب تعمل بصدق على تجاوز القراءة الإسقاطية نحو القراءة التفاعلية التي تأخذ من الغرب خبراتهم البيداغوجية والعلمية وتحاول التفكير بها في مشكلات التعليم في المغرب.
في الأخير أود يا دكتور يوسف أن تقدم بعض النصائح التوجيهية إلى مدرسي مادة الفلسفة؟
تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي فرصة مهمة وكبيرة للمدرس لاختيار كفاياته وقدراته على الإصغاء للمتعلمين والمتعلمات وفتح المجال للحوار الفلسفي، إذ الكثير منّا يكون هاجسه إنهاء المقررات الدراسية وهذا أتفهمهُ وضغط الزمن المدرسي …إلخ. هذا كله لا يمنعُ من استثمار المدرس لطاقاتهم واستفساراتهم عن طريق استغلال مواقف فلسفية أو نصوص أو وضعيات…كلّ ذلك يعطي لدرس الفلسفة حيويته ونشاطه النقدي.

(*) مجاز في الفلسفة من جامعة القاضي عياض بمراكش. نشر مقالات وأبحاث في مختلف الجرائد والمجلات والمراكز البحثية الوطنية والعربية. له على سبيل الذكر: “الفقيه والصناعة المنطقية: بين مناهضة ومناصرة”، و”القياس واستعمالاته: بين المنطق والأصول”،و”خرائطيات المشروع الحداثي لدى هابرماس”،و”طه عبد الرحمن.. الممارسة الحوارية والرؤية الاستشرافية.


الكاتب : حاوره: محمد بن الظاهر (*)

  

بتاريخ : 18/11/2021