في ذكرى رحيله (17): محمد شكري لم يمت!

اجتمعت عوامل ذاتية وموضوعية لتجعل من محمد شكري اسما فارقا في سماء الكتابة الأدبية.. كتابة اتصفت بتعرية الجرح وتسمية الجارح والمجروح مع انتصاره لعالم الهامش والمهمشين.كتابة حملت كما هائلا من الجرأة الصادمة بكشفها للمستور والمسكوت عنه.أتحدث عن فضحه لعالم السكر والدعارة والمجون والفقر والحاجة، والشطط في استعمال السلطة والجنس المحرم مع الأجانب…وكتابة بهذه الخلفية لا يمكنها سوى أن تجعله صديقا للكبار من عيار الكاتب الأمريكي «بول بولز» الذي لعب دورا كبيرا في شهرته من خلال ترجمة «الخبز الحافي» للإنجليزية بداية السبعينيات من القرن العشرين.لكن بعيدا عن الترجمة،سيرته الذاتية نفسها تحمل عالميتها في ذاتها.سيرة مزلزلة ومخلخلة لاطمئنان المجتمع المغربي لنفسه.سيرة تتمرد على سقف الكتابة البوحية الواطئة السقف وتفضح ما يوجع الجماعة: تفضح تجاوزات سلطة الأب والرجل واضطهاد المرأة. الكتابة بهذه الخلفية لم تكن أداة إدانة وتعرية الجرح فقط، ولكنها كانت عنده آلية لخلق توازن نفسي وخلاصا منقذا له من الجنون والانتحار..كتابة في غاية الجرأة، إذ من النادر أن يعلن المرء على الملأ ضعفه ورذيلته بل وأخطاء فاضحة.كتابة بدون خطوط حمراء تشبه صعلكته في الحياة. إن قوة كتابات شكري ترجع لجمعها بين بساطة الأسلوب وعمق الأطروحة، ولهذا بالذات توفق في إغراء القراء العاديين كما النقاد والمتخصصين، وحملهم على تناول أعماله بالدرس والتحليل.
إن انتصار محمد شكري للكتابة المعرية لبشاعة وجه المجتمع راجع لإيمانه بأن الكتابة الناعمة تسلي ولا تغير.. وهو في ذلك يتفق مع عبد الكبير الخطيبي الذي قال ذات حوار:»نحن نسمح للدعارة أن تكون في الشارع ولا نسمح لشخصية روائية أن تعهر.» من هنا انحاز للقاع واختار الهامش.كتب بجرأة صادمة حد الجرح ..ليس فقط لأنه عاش أعطاب الواقع المغربي في بعده العام ولكن لكونه عاش التشرد وأكل من القمامة وكان طبيعيا أن لا يكتب عن الفراشات والورود. جرح جعل من القلم في يده مشرطا يشرح به جسد المجتمع المغربي بكثير من الدقة والعمق والجرأة ..وجرأته راجعة لأنه لم يكن لديه ما يخسره وهذا حرره كثيرا من قول المسكوت عنه .كان محمد شكري مدركا أن مجده في المستقبل لا في الماضي. لكن وإن كانت الكتابة قد أحيت شكري ومنحته حياة مختلفة يمكن القول –دون مبالغة- أن الخبز الحافي سيرة قتلت شكري تماما كما قتلت «مدام بوفاري» جوستاف فلوبير ودون كيخوط سرفنتيس وأمثالهم كثير.. فقلما انتبه عموم القراء لأعماله الأخرى من قبيل:»زمن الأخطاء»و»وجوه»و»مجنون الورد»وباقي أعماله الأخرى…
صحيح أن سيرة»الخبز الحافي» اتصفت بالبساطة الأسلوبية لكنها اهتمت أطروحيا برصدها للمعاناة مخاطبة المشترك الإنساني، وهنا تجسدت عالمية هذا النص، بصرف النظر عن الذين يقولون عن شكري أن الصدفة وحدها خلقت منه حكاء وكاتبا في ما بعد.. وذلك على هامش لقائه ب»بيتر بين»الذي كان يشتري قصص الجنس والحكايات الغريبة من حكواتي الحلقة المغربية. إن فرادة شكري تكمن في وعيه المختلف بوظيفة الكتابة باكرا حيث اعتبرها فعلا تنويريا يضيء عتمة العالم وبها ينتصر على قبح الواقع..فإيمانه بها وصل حد القول»قد يصدق الأدب ويكذب الواقع»…
وكتابة مماثلة حققت له تصالحا مع الذات وحملته على تصفية حسابه مع مجتمع لا يعرف سوى تنميط الأفراد والتجارب المختلفة.مجتمع يدعي الورع وهو ليس كذلك..رهانات لم تألفها السير المغربية و لا العربية أمر جعلها سيرة ستعيش بعده طويلا ومن ثم تمديدها لحياته ضدا على موته البيولوجي. بالنتيجة خصوصية شكري لا تكمن في أنه انتصر للحرية وشجب الخوف والصمت والكبت، بل في إعلانه عن ضعفه ورذيلته بكثير من الجرأة خارقا الطابوهات المعروفة..فهو القائل:»الكتابة التي تلتزم بما هو أخلاقي لا تعيش طويلا.»
والجدير بالذكر هنا أن سيرته كتبت بلغة عارية من المجازات والاستعارات ليتماهى مع الصعلوك الذي كانه..سيرة مترعة بالجراح والوجع وكأن بلاوعي الكتابة عنده ينتقم من الزمن المذل.قد نتفق مع من اعتبرها أسلوبيا في غاية البساطة وتتماس مع التقارير الصحفية..لكنها حملت مضمونا صادمة ومستفزا..سيرة بدت أشبه ما يكون بشلال جارف من الرذائل قالبة موازين الاتزان المجتمعي الزائف.ودوام اشتباك شكري بالحرام والعيب والجنس، جعله دائم الاصطدام بالقارئ التقليدي فضلا عن المؤسسات المنصبة نفسها حارسة للأخلاق.. لهذه الاعتبارات بالضبط رفض شكري أن يكون محايدا كما هي طنجة الدولية أيام الاستعمار.مدينة رغم كل ما قيل عنها من تغريب، بحيث جل أسماء مقاهيها وواجهات المحالات تحمل أسماء غربية، لكنها مع ذلك مدينة تنتصر للحرية والحياة ..نواديها الليلية المصطفة على ساحل البحر الأبيض المتوسط تعد الوافد بمغامرات لا قرار لها. دون أن ننسى أنها مدينة التسامح حيث تتعايش فيها الديانات الثلاث بحيث يتجاور المعبد بالكنيسة بالمسجد.
على مستوى ثان يمكن اعتبار محمد شكري رمزا للتحدي:تحدي الأمية والفقر والحرمان والمجاعة وقسوة الأب والمجتمع الظالم إن لم نقل أنه رمز للمفارقة. يكفي استحضار أنه الشاب الأمي الذي صار معلما في زمن قياسي وبدأ حياته بسيرة ذاتية خلافا لما اعتاد عليه القراء، حيث تأتي السيرة تتويجا لتجربة طويلة في الحياة والكتابة.دون أن ننسى أنه الطفل الريفي سليل مغرب العمق الذي سرعان ما أتقن اللغة الاسبانية والفرنسية قبل أن يتعلم اللغة العربية لأن أطفال أحياء طنجة الشعبية كانوا ينادونه «البدوي»، لذلك صاحب أبناء الغجر الأندلسيين والمهمشين..ولهذا بالضبط تعلم الاسبانية قبل الدارجة المغربية وظل متشبثا باللهجة الريفية لإحالتها على الجذور. بالنتيجة يمكننا القول إنه بالكتابة، تحديدا، انتقل محمد شكري من الأمية للوعي ومن التيه للاستقرار، ومن اللهجة «الريفية» للعالمية.
تبقى قوة شكري ليست في الكتابة عن ذاته فقط، ولكن عن المختلف عنه حيث أنه كان دقيقا في انتقاء شخوصه بل وأصدقائه إذ ليس صدفة أنه اختار الناقد محمد برادة في الرسائل المتبادلة بينهما كي يعطي القارئ فرصة للتأمل والمقارنة. مقارنة طفل نكرة بدوي لم يتمدرس إلا لاحقا وصديق وافد للأدب من العاصمة العلمية وعائلة فاسية..وكأني بلا وعي شكري يقول لنا أن الوصول لنفس الهدف يلزمه شيء من الإرادة والتصميم حتى وإن غاب الشرط الموضوعي للتحصيل المعرفي. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن شكري كان دائما محط خلاف في حياته كما في كتاباته. فالقراءة الأخلاقية تقدمه على أنه كاتب بورنوغرافي، والقراءة الاجتماعية تصوره صوت الطبقات المسحوقة والمهمشة، والقراءة النفسية تقدم أثره الكتابي كنزيف لجرح التشرد والضياع…وفي جميع الحالات اختزل هذا الكاتب صفة التمرد في وجه الجهل والأمية وانتصر على الفقر، وأبى الاستسلام لموته المفجع حيث كان يسخر حتى من السرطان قائلا له:»سيندم على إصابتي أيعتقدني دجاجة.»
ساهم اطلاعه على الآداب العالمية في شهرته، إذ من المؤكد أن شكري لم يكتب سيرته من فراغ ويتضح ذلك من خلال وفرة الاستشهادات والاقتباسات المطعمة لقوله السردي(اعترافات روسو،كلمات سارتر وغيرهما كثير) وتتضح هذه الخاصيات أكثر في كتابة «غواية الشحرور الأبيض».وإن كان هناك من الباحثين من اعتبر خاصية إكثاره من الاستشهادات تروم التغطية على أسلوبه الصحفي، ومحو صورة الكاتب الصعلوك الذي استقرت في أذهان الناس عنه. دون أن ننسى دور صحبته للكتاب الكبار، فقد كانت صدفة لقائه بداية السبعينيات من القرن الماضي بالناشر الانجليزي»بيتر بين» والروائي الأمريكي»بول بولز»نقطة فارقة في حياته.كما تعرف على «جان جنيه» و»تنيس وليامز» وعاشرهم مددا متفاوتة. وهذه الأسماء ما هي إلا رمز للغرب الشغوف بكل ما هو غرائبي في عالم الشرق الشبقي الغارق في شهواته الجنسية المفرطة.عرف شكري هذه الخاصية وحملهم باكرا للعب دور المتلصص ولم تكن الوسيلة في يده سوى الكتابة العارية والمعرية للجرح المغربي الغائر..مع التشديد هنا على أن محكياته لم تكن للفرجة ولكنها واقع يحاسبنا جميعا كمغاربة.. واقع تعلمه المتأخر والكبت الجنسي والنفاق الأخلاقي والاستبداد السياسي والفقر الجارح الذي عاشه شكري قبل شهرته وبعدها ..
إن قسوة حياة شكري الجارحة والكم الهائل من الخيبات والأحلام المؤجلة، جعلت محكياته شهادة صادقة على هشاشة الكينونة في واقع معطوب.يكفي أن نعلم أن شكري أصيب بالجنون في حياته وأدخل مستشفى الأمراض العقلية مدة معلومة، وإن كنا نقول مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو»الأحمق هو الذي فقد كل شيء إلا العقل»…عاش شكري الجوع والفقر والتشرد والحاجة لكنه بالكتابة حولها إلى طاقة إيجابية.فقسوة العيش عند محمد شكري وصلت به إلى حدود أنه لما كان يهرب من المنزل لينام في المقابر كي لا يغتصبه عالم الكبار وهي مفارقة جارحة أن تأتمن على حياتك مع الموتى لا مع الأحياء.وهذا الذي لن يغفره شكري لعالم الكبار، حيث سيحاسبهم لاحقا مبتدئا بسلطة الأب الذي قتله رمزيا بالتبول على قبره، مرورا بمحاسبة قيم المجتمع الذكوري المزدوج الشخصية، وقوفا عند تسكعه في جغرافيات الممنوع والملعون. يكفي استحضار أن جمعية أباء التلاميذ هي التي حركت مسطرة منع سيرته «الخبز الحافي» ووصلت لمنعها مدة من الزمن..جمعية تترجم في أحد أبعادها سلطة الأب الجائرة. وإن كان هذا المنع ذو حدين.أقصد أنه ساهم في شهرته ولكن من جهة أخرى اختزل كل منتوجاته الإبداعية في خبزه الملعون حيث كان أطفال حواري طنجة ينادونه بالخبز الحافي بدل محمد شكري. ولعلها مفارقة أن الطفل البدوي الذي جاء لطنجة لم ينبهر بوجهها الزائف وعمل على فضح وجهها البشع، بسبب افتقادها لمقومات المدينة بالمعنى الفلسفي(la cité). فإذا كانت مدينة أثينا وإسبارطا مثلا احتكمتا لقوة الأفكار في ساحة الحوار الفلسفي والسياسي والاجتماعي(l’ agora)، فإن طنجة كانت تحتكم لسلطة المال والجاه وهو أمر أثر في محمد شكري كثيرا. ومع ذلك بقيت طنجة من المدن الأكثر انفتاحا وابتعادا عن التطرف بالقياس للمدن المطلة على المتوسط كالإسكندرية مثلا التي تعرض فيها نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال.كان شكري يؤنسن مدينته ولا يغالي في تصويرها، فهي تماما كالإنسان ليست شيطانا ولا ملاكا..مدينة تجمع بين هذا وذاك،فردوس وجحيم تجمع بين وداعة النهار وشراسة الليل.
يبقى أن نشير إلى أن الترجمة مثلت جواز سفر لعبور الخبز الحافي للضفة الأخرى من المتوسط، بل إلى العالم بأسره.ترجمت إلى 39 لغة آخرها اللغة العبرية.ترجمت أولا إلى اللغة الانجليزية على يد «بول بولز» بداية السبعينيات وإلى الفرنسية على يد الطاهر بنجلون سنة 1981.وإلى الاسبانية على يد محمد جبيلو وإن كان محمد شكري غير راض تماما عنها، فإنها ترجمة أدخلته للجامعة الاسبانية وجعلت خبزه الحافي موضوع أطاريح جامعية متعددة.
جماليا، انتسب شكري-في بداياته- لسلالة نادرة.سلالة رواة طنجة الذين جذبوا الكتاب الأجانب وباعوهم حكايات أكثرها مختلق لكنها آسرة من قبيل «حياة مليئة بالثقوب» للعربي العياشي:و»الحب بحفنة من الشعر»لمحمد المرابط..غير أن تفوق شكري على شلته تمثل في تحويل محكياته اللاحقة لأثر كتابي بنفسه وبنفسه أساسا.صحيح جدا أنه جاء للسرد من خلفية شفاهية، لكن بدخوله للمدرسة وإصراره على تعلم قول الذات، انتقل من حكواتي لكاتب.. أمر اعتبرناه قتلا رمزيا للأب الثاني «بول بولز» الذي حول مغامرته الشخصية «الخبز الحافي»من محكيات لسيرة ذاتية .وفي ذات الاتجاه يمكن فهم فضح شكري لأسرار» بول بولز» الشخصية وحياة زوجته «جين». بكلمة واحدة كان شكري مغرما بقتل آبائه الرمزيين دون الحديث عن القتل الرمزي للأب البيولوجي.
نخلص إلى أن فكرة الأمي الذي صار كاتبا بها الكثير من الجاذبية وإن كانت فكرة تخفي خلفها الكثير من الوجع والفجيعة..فشكري كاتب صادق حد الجرح وواضح حد التعمية ومطمئن حد الإزعاج.توفق في خلخلة علاقة الكتابة بالواقع والسيرة بالفضح..خاصيات جعلت البنية الذهنية للثقافة التقليدية رافضة له..تقابلات مفارقة، فبذات القدر الذي أضرت به ساعدته.فهو المسرف في تمجيد الذات والبوح كان طبيعيا أن يصطدم بمجتمع يقدس الجماعة والكتمان.كاتب أثبت بالملموس أن الفقر والمعاناة ليسا مبررين لعيش الفشل بقدر ما هي عوامل مستفزة لبذل مجهود أكبر ليستحق الفرد حياة أفضل..
بعد كل هذا الزخم من الحراك، يمكننا طرح السؤال التالي:هل يمكن القول أن محمد شكري مات في ذكرى رحيله 17؟وهل يموت الكتاب الحقيقيون أم أن كتاباتهم تجعلهم خالدين في ذاكرة التاريخ؟في الواقع بالكتابة يتم تلطيف عبثية الحياة وضجر الواقع.بل بالكتابة نلطف من الطابع التذمري للموت.صحيح جدا أن الإنسان مخلوق متناه وعابر لكن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني المحدود في الزمان والمكان. وبكلمة واحدة يمكننا القول : بالكتابة يشبع الكتاب الموت حياة…إن سواد حبر كتابات الميت يعيد الحياة لأوراقه كلما قرأنا أثره بدفء وتفاعل…وكتابة مماثلة تعد في العمق لعب مع الموت،سخرية من الزمن، هزء من الرحيل الأخير..إقامة في اللغة وسباق مع الوقت الآتي.بل إن الكتابة على طريقة شكري تتوفق في إسماعنا ذاك الآخر الموجود في دواخلنا وقلما ننتبه له.. كتابة لها ثمنها الخاص، تقتات من دم وسمعة الكاتب لأنها فعل فردي لا يقبل النيابة أو الوكالة.. كتابة بقدر ما تصالح الكاتب مع ذاته، تسائل جرح الموت وترفع عنه صفة السر الغامض بل وتتحدى قدريته..
(*) ناقد أدبي مغربي.
-ملحوظة: مات شكري منتصف شهر نونبر 2003


الكاتب : محمد رمصيص

  

بتاريخ : 20/11/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *