في ندوة لمؤسسة دار الحديث الحسنية : تدريس العلوم الانسانية في مؤسسات التعليم العالي الديني

وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية: لا ينبغي النظر إلى الجانبين العلمي والشرعي والعلمي الإنساني على أنهما متنافران بل ينبغي التوفيق بينهما

منسق وحدة العلوم الإنسانية بدار الحديث: تكريم أستاذ الفلسفة أحمد الصادقي دليل لإظهار مدى التفاعل والتكامل العفوي والتلقائي بين وحدة العلوم الإنسانية وباقي الوحدات الشرعية والعلمية

الكاتب العام لمؤسسة دار الحديث وباسم اللجنة العلمية للندوة: الاقتناع بالعلوم الإنسانية والحاجة إليها أصبح أمرا ملموسا في برامج العديد من مؤسسات التعليم الديني

 

 

 

احتضنت مؤسسة دار الحديث الحسنية، يومي 16و17 ماي 2023، حدثا دوليا علميا في موضوع: «تدريس العلوم الإنسانية في مؤسسات التعليم العالي الديني: الراهن والمستقبل»، وذلك بحضور أساتذة وأكاديميين وباحثين مختصين في العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، من داخل المملكة المغربية ومن خارجها، من أجل إبراز أهمية تلك العلوم، ووضعها تحت مجهر التحديات الراهنة والمستقبلية في تناغم وتكامل مع روح ومنطوق الإصلاح الذي شهدته المؤسسة منذ سنة 2005 .
ففي كلمة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمناسبة، والتي أكد فيها على الأهمية الكبيرة لموضوع الندوة اعتبر أنه لا ينبغي النظر إلى كل من الجانب العلمي والشرعي، والعلمي والإنساني على أنهما متنافران، بل ينبغي التوفيق بينهما، وموضحا في ذات الكلمة أن العلوم الإنسانية التي استبق عنها الاستنباط في القرون الخمسة الأولى، تمثل في نظره ثروة مشتركة بين البشرية، وتناول للمعارف من الإنسان في نفسه وبيئته، ذلك أن تلك العلوم الإنسانية يشير الوزير إلى أنها تتميز بغزارتها، وأن إدراجها ضمن برامج معاهد تدريس الدين يعتبر في نظره أمرا عظيم الفائدة.
أما منسق وحدة العلوم الإنسانية بالمؤسسة فقد أشار بدوره إلى أن تنظيم هاته الندوة الدولية يأتي في إطار تكريم المرحوم أحمد الصادقي أستاذ الفلسفة، والذي يتوخى من ورائه إظهار مدى التفاعل والتكامل العفوي والتلقائي بين مدرسي وحدة العلوم الإنسانية وباقي الوحدات الشرعية والعلمية، معتبرا أن الإصلاح في مجال التعليم الديني يهدف إلى تملك العلماء لأدوات منهجية نابعة من رؤية متبصرة وتمكنهم منها، أدوات تعتمد على الحجج الشرعية القائمة على الأدلة العقلية، المبنية على معارف تتماشى مع تكوينهم الشرعي، باعتبار أن العلوم الإنسانية هي من إحدى اللبنات الأساسية لكسب تكوين رصين من خلال الهندسة البيداغوجية التي تعتمد في التكوين على وحدات متكاملة في ما بينها من وحدات العلوم الشرعية ووحدة العلوم الإنسانية ووحدة اللغات الأجنبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية وإسبانية…
وفي كلمة الكاتب العام لمؤسسة دار الحديث الحسنية، وباسم اللجنة العلمية للندوة، وقف المتحدث عند نجاحات العلوم الإنسانية وقال إنها أصبحت تجذب الانتباه أكثر فأكثر إلى درجة أنه أصبح من المسلم به المناداة بتخصيص مساحات إضافية لمواد العلوم الإنسانية، في مقررات علوم الدين، مبينا وموضحا أن هذا المطلب أصبح له مبرر آخر يستند على ما تتيحه هذه العلوم من روافد معرفية، تساهم في توسيع الآفاق لطالب العلوم الدينية، وتساعد على تجنب الوقوع في شراك التخصص الضيق والزوايا المغلقة للمعرفة بدل الانفتاح على كل ما هو علمي بل كل ما هو كوني.
وحسب اعتبارات الكاتب العام، فإن الواقع يؤكد الاقتناع بالعلوم الإنسانية، والحاجة إليها أصبحت أمرا ملموسا في برامج العديد من مؤسسات التعليم الديني، ولاسيما العالي منه، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، ومشيرا في كلمته إلى أنه من بين التجارب الهامة في العالم الإسلامي، توجد، على وجه الخصوص، تجربة مؤسسة دار الحديث الحسنية، حيث شهدت تجديدا في برامج التكوين أعطى ومنح للعلوم الإنسانية دورا معرفيا وعلميا، أهلها لتتبوأ مكانة متميزة.
وكخلاصة، يقول رئيس اللجنة العلمية للندوة، إن الغاية المنشودة من الوقوف وعرض هذه التجارب، تكمن في السعي إلى الخروج بتوصيات واقتراحات، تسهم في تطوير المناهج الدراسية لمؤسسات التعليم الديني العالي عامة، ومؤسسة دار الحديث الحسنية خاصة، وتمكين خريجيها من الاستفادة من المكاسب العلمية والمنهجية للعلوم الإنسانية التي ستنعكس إيجابا على التكوين والبحث العلمي، في أفق متجدد متطور لكسب رهانات الإصلاح والتكوين الرصين خدمة لرسالة مؤسسة دار الحديث الحسنية وما حققته وتحققه من ريادة وإشعاع وطني ودولي.

بيان، توصيات، مقترحات

إن هاته الندوة لعلها ـ حسب البيان ـ استطاعت أن تضع مكانة درس العلوم الإنسانية في مؤسسات التعليم العالي الديني، أمام مجهر الافتحاص والتقويم، وكما أنها استطاعت أن تقف عند نتائج الإصلاح الذي شمل تلك المؤسسات بصفة عامة، وبخاصة حيث كان التركيز على تجربة مؤسسة دار الحديث الحسنية باعتبار ما حققته من ريادة على كافة المستويات، ويزكي ذلك من خلال ما تم عرضه من بعض التجارب الدولية ذات الصلة بالموضوع من قبيل: (التجربة الماليزية، والتجربة التركية، والتجربة الألمانية، والتجربة الفرنسية) وذلك من باب الاحتكاك وكذا من باب تبادل الخبرات والتجارب بغية صقلها وتملكها.
هذا وقد تأطَّرت محاور الندوة في مداخلَ ثلاثة يشير اليها بيان الندوة:
أولا: مدخل توصيفي، ينظر في السياق الإصلاحي لمنظومة التعليم والتكوين الديني بشكل عام، وإصلاح 2005 المتعلق بإعادة تنظيم معهد دار الحديث الحسنية بشكل خاص.
ثانيا: مدخل بيداغوجي، يتغيا فحص الشروط والظروف التعليمية التي تسهم في نطاقها العلوم الإنسانية في تنمية المدركات العقلية، والعلمية لدى طلاب التعليم العالي الديني، وما يستصحبه من تحديات معرفية وواقعية على المستويين، النظري والتطبيقي.
ثالثا: مدخل ديداكتيكي، يستهدف فحص طرق ومناهج التدريس المنتحاة في العلوم الإنسانية، قصد استجلاء نقاط القوة أو الضعف، وعرض أوجه التكامل أو التعارض بين مناهج ووحدات العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، بغية تجاوز العوائق الحالية واستشراف الآفاق المستقبلية الرامية إلى تطوير العملية التعليمية في المجالين المدروسين.
إن تلك المداخل الثلاثة (يقول البيان) فقد تم توزيعها بدءا من الجلسة الافتتاحية، وخلال سبع جلسات علمية، شارك فيها نخبة من الأساتذة والخبراء والباحثين المتخصصين في العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، من داخل المغرب ومن خارجه، تطرقوا وعالجوا ووقفوا في مداخلاتهم عند مختلف الإشكالات والتحديات والأسئلة المنهجية والعلمية المرتبطة بموضوع الندوة.
ومن جملة ما تميزت به الندوة، واستحضرته في التدبير والتنزيل فلسفة إشراك مختلف وجهات النظر (أساتذة من مختلف التخصصات،وطنيا ودوليا، وكذ طلبة المؤسسة) وذلك من أجل إتاحة الفرصة من خلال المشاركة وإبداء الرأي في الموضوع من طرف جميع الفاعلين والمتعلمين أساتذة وطلبة من جميع التخصصات.
وقد أسفرت الندوة، وفق البيان، عن مجموعة من التوصيات والمقترحات:
1 ـ تعميم تجربة وحدة العلوم الإنسانية في تقييم برنامج إصلاح سنة 2005 ليشمل باقي التخصصات.
2 ـ تكليف لجنة من الأساتذة بالإشراف على عملية تقويم شامل للمواد والمناهج المعتمدة بمؤسسة دار الحديث الحسنية، بما يسهم في تجويد عمليتي التكوين والبحث في انسجام مع التوجه الجديد للمؤسسة في اعتماد نظام الجودة في التعليم، وذلك عبر مراجعة مضامينها والحرص على ربطها بمقتضيات التنمية الشاملة والانفتاح على المحيط الخارجي وطنيا ودوليا.
3 ـ تقديم دروس في مناهج البحث في كل المواد المقررة في البرنامج الدراسي للمؤسسة.
4 ـ تقديم مداخل في الابستمولوجيا وفلسفة العلوم.
5 ـ الانفتاح على مهارات التواصل والإعلام والتقنيات الحديثة عبر ورشات تطبيقية ودورات تكوينية موازية.
6 ـ التأكيد على أهمية مقدمات ومداخل وأصول العلوم الإنسانية ومعاقدها الكبرى، مع تركيز جهد الأساتذة على تكوين المهارات.
7 ـ إدراج درس الترجمة ضمن البرنامج الدراسي وتشجيع الأعمال المتعلقة بها، وعلى الأخص ترجمة النصوص المؤسسة الكبرى، سواء في العلوم الإسلامية أو الدراسات الغربية المختصة في الدراسات الإسلامية.
8 ـ تثمين جهود المؤسسة في إشراك طلبة المؤسسة وخريجيها في تقديم دروس ودورات بالمؤسسة مع تطوير هذه التجربة.
9 ـ تنظيم موائد مستديرة تجمع بين أساتذة المؤسسة وطلبتها، ثم بينهم وبين الأساتذة والطلبة من خارج المؤسسة.
10 ـ تشجيع الطلاب على التأليف البحثي والكتابة والنشر سواء في مجلة الواضحة أو في مؤلفات جماعية قصد استثمار المدارك المعرفية التي اكتسبها طلبة المؤسسة.
11 ـ تثمين الجانب النظري وإغناؤه بالجانب التطبيقي العملي، والتشجيع على القيام بأبحاث ميدانية وتفعيل اتفاقيات الشراكة مع الجامعات الدولية لتبادل الخبرات وإغناء المعارف.
12 ـ الدعوة إلى تفعيل استفادة طلبة الدكتوراه من فصل دراسي بجامعات خارج المغرب.
13 ـ العمل على الإفادة من تجربة التعليم عن بعد، من خلال التنسيق مع جامعات من خارج الوطن قصد التشجيع على تبادل الزيارات العلمية.
14 ـ عقد حلقات للنقاش بين الأساتذة في التخصصات المتقاربة والمختلفة.
15 ـ تجاوز إكراهات الغلاف الزمني المخصص لمواد العلوم الإنسانية من خلال ما يلي:
ـ استكمال تكوين الطالب عن طريق تسجيل الأساتذة لدروس ووضعها رهن إشارة الطالب الراغب في استكمال تكوينه.
ـ الدورات التكوينية المتخصصة في بعض الفروع التي يحتاجها طالب العلوم الإسلامية مثل العلوم السياسية والفلسفة الإسلامية والقانون الدستوري وحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وعلم اجتماع العلوم وعلم النفس.
ـ عقد اتفاقيات مع كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل استفادة طلبة المؤسسة من تداريب ميدانية تتعلق بقضاء الأسرة.
ـ تقديم مقترحات لوزارة العدل من أجل استثمار التكوين المتميز لطلبة المؤسسة عبر السماح لهم بولوج سلك القضاء خاصة في مجال الأسرة والتوثيق، مع ما يتطلبه الأمر من إمكانية فتح مسلك خاص يفي بهذا الغرض.

خاتمة

هاته الندوة التي يعود شرف تنظيمها وتأطيرها الى مؤسسة جامعية فريدة من نوعها، في العالمين العربي والاسلامي لما لها من جرأة البحث العلمي، والسبق في استشراف التغيير والتجديد في الحقل الديني والانساني، يجعل دار الحديث الحسنية منارة علمية، ومنصة لتبادل الآراء بين حقلين، يبدوان متعارضين أو متصادمين: الحقل الديني بمعارفه الأزلية الثابتة، والحقل المعرفي الإنساني بفكره المتغير والمتبدل، قلما يمكنه أن يتواصل مع سلطة المعرفة الدينية، لكن في رحاب جامعة أسست لبناء مشروع حضاري، ثقافي إنساني، تلتئم فيه الأفكار والحقائق، والقناعات، والمعارف في جدلية تاريخية تؤمن بالثابت قصد إقامة حوار هادئ وناجع بين الحقيقة الدينية والمعرفة الإنسانية، هذان الحقلان المتصارعان المتعاركان، عرفا في السنوات الأخيرة كيف يتعايشان في كوكب واحد، فهنيئا لمؤسسة دار الحديث الحسنية التي استطاعت أن تجمع بين الفقيه والمفكر، بين الأصولي والفيلسوف، بين الداعية والباحث في العلوم الإنسانية، بين المؤمن والعلماني، كل هذا في رحاب مؤسسة تسعى إلى التنوير والنهضة على مستوى المعرفة، ومناهج البحث وطرق التدريس، فهل تستطيع الجامعات المغربية الاهتداء بسلك هذا الطريق والسير على هديه، حتى تكون جامعاتنا في مستوى هاته اللحظة التي تتطلب منا الجرأة في النبش والحفر في جيولوجيا وجغرافية فكرنا وثقافتنا ومعتقداتنا، إنها خطوة أولى تنتظر خطوات أخرى حتى نفتح الطريق لهذا الجيل ليستكمل كل المعارف التي تحيط بنا وتسائلنا وتستفزنا بل وتعتقلنا في حياتنا وعاداتنا، وكل ما يرتبط بنا وبمحيطنا، فالإنسان عقل ورح، فكر وإيمان، دين وعمل، الحياة لا تبنى على أساس منهج ثابت، وفكر قار، وإنما تتشابك أو تتكامل بين الإدراك العقلي والإدراك الروحي، بين الدين والعلم.


الكاتب : مكتب الرباط: محمد طمطم

  

بتاريخ : 23/05/2023