قراءة في رواية «نانَّا» لعبد الله خليل .. من ضيق المدينة إلى رحابة القرية

 

صدرت رواية «نانَّا» لعبد الله خليل عن ورّاقة بلال بالمغرب سنة 2022، وهي رواية تمتد على 174 صفحة من القطع المتوسط، يحاول من خلالها الكاتب أن يقوِّض أقنعة المدينة، مبرزا أنَّ أنوارها لا تعدو ظلمات، وأنَّ طُرقها المزفَّتة أحيانا لا تعدو متاهات تخفي حفراً لا قاع لها، وأنَّ ما تجُود به المدينة من لحظات متعة ليست سوى طُعم نحو التهلكة والقلق الأبدي، وهو ما يدعونا للتساؤل عن الخلاص وأين المفرّ؟
لا يتحقق الخلاص في رواية «نانّا» بالانتظام في المدينة، أو إصلاح ما أفسدته الحداثة والتمدُّن، إنما لن يكُون إلا خلاصا جذريا؛ أي بالهجرة من ضجيج المدينة نحو «نانّا»، كناية عن القرية التي تغمرها السكينة، وحيث الحضن الدافئ، والحنين الرومانسي لنسيم الصباح، وخرير المياه، وزقزقة العصافير، وأهازيج أحواش.
يبدو أن موضوع الهجرة أو الرحيل في رواية «نانّا» أشبه ما يكون بقطيعة وجودية، من حيث هي انتقال من نمط من الوجود إلى نمط آخر مختلف عنه تماما من جهة الشكل والمضمون على السواء، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن طبيعة هذا الانتقال، وما إذا كان بمكنته أن يحقِّق خلاصا جذريا أم أنه لا يعدو بدءا على عود، وأنَّ القلق الوجودي هو من صميم الكينونة البشرية ولا دواء له إلا الفناء.
تبدأ الرواية بخروج حميد، وهو الشخصية الرئيسة من السجن، ولقاء الأحباب والأصحاب الذين يهنِّؤونه بمعانقة الحرية، ولو أنه يعتقد في قرارة نفسه أنه خرج من سجن أصغر إلى آخر أكبر، أي هذا السجن الذي يشدُّه شدّا إلى الماضي، سواء ماضي الحياة الجامعية حين كان ماركسيا، ويحلم بالتغيير، وتحقيق المهام الديمقراطية والاشتراكية، أو ماضي ما بعد الحياة الجامعية حين تخرَّج عاطلا عن العمل، ولا هو من أهل اليمين أو اليسار، ولم يجِد مخرجا لبطالته إلا الاتجار في الممنوعات حتى وجَد نفسه في السجن يتقاسم جدرانه مع المجرمين، سواء أولئك الذين ينتمون إلى «البرجوازيا» شأن مافيات المخدِّرات، أو «البروليتاريا» شأن ناشلي الهواتف، وجُنَح الضرب والجرح من أجل حسابات تافهة قد تكون من أجل سيجارة أو سوء فهم أو غير ذلك مما لم يذكره السارد؛ وبين هؤلاء وأولئك يقضي حميد عقوبته السجنية منزويا على نفسه، ولا عزاء له إلا وسائط التواصل الافتراضي، حيث يكتب شعرا، ويستمتع بإغواء بنات حواء، ولا غرابة في ذلك ما دام حميد كان ينتمي لمافيا حصَّل منها أموالا سمحت له أن يعيش حياة رغيدة حتى وهو داخل السجن، مادام كل شيء قابلا للشراء في المدينة، بما في ذلك حُراس سجونها.
يعُود إذاً حميد للحياة ما قبل السِّجن، إلا أننا ننبِّه أن وحدة السِّجن لازالت متمكِّنة منه؛ إذ لمْ يمدّ جسور التواصل مع زبيدة، الشخصية الثانية، ولمْ ترجع علاقته بصديقه حسن، الشخصية الثالثة، إلى سابق عهدها؛ ذلك أن الحياة خارج السِّجن لمْ تكن مفروشة بالورود كما منْ يتُوق لمعانقة الحرية؛ إذ إن رتابة السِّجن لازالت تخيّم على من كان مسجونا قهرا، لكنه مسجون هذه المرَّة اختيارا، مادامت مشاعر العزلة والوحدة والانطواء تأسره، حتى أنه يخيَّل إليه أنَّ كل الآخرين جحيم على حد تعبير جون بول ساتر، بدءا من المشرِف على الفندق الذي نزل فيه بعد إنهاء العقوبة السجنية، ومرورا بأصدقائه القدامى وعائلته، ووصولا إلى كل العابرين من حوله؛ الأمر الذي جعله يقضي لياليه في الحيرة، ولا يحرِّكه شوق ولا موعد على حدِّ قول الشاعر.
قَلِقَ حسن لحال صديقه حميد، فنصحه بزيارة طبيب من معارفه، وهو ما قبِله بطل الرواية بعد تبرُّم. وصفَ له الطبيب أقراصا منوِّمة ومهدِّئة كي يتحقَّق توازن ساعته البيولوجية، ويطرد الأرق الذي يستحوذ على لياليه، ويهجر الانطواء الذي استبد به، مثلما دعاه كي ينخرط في الحياة الطبيعية، ماشيا في الأسواق بين الناس، ويشرب فنجانه في أي مكان اتفق، لكي يتحرَّر من عادة الأمكنة التي ترسم له حدودا لا يبرحها، وتجعله منطويا على ذاته.
كان لنصائح الطبيب، وكذا ما وصف له من دواء، مفعول إيجابي على بطل الرواية؛ إذ سرعان ما استعاد حياته الطبيعية، وتصالح مع النوم، وجدَّد الوصال بحسابه الافتراضي، لكي يتفاجأ بكمِّ الأسئلة التي وردت على حسابه، وكلها أسئلة مرَّ عليها مرَّ الكرام، لكي يتفاعل مع سؤال واحد لإحدى معجباته الافتراضيات، فيتفقا على ضرب موعد في مقهى الغروب الواقع على شاطئ عين الذئاب بالدار البيضاء، علَّه يكون فأل خير لغروب ظلمات السجن، وشروق أنوار الحياة، إلا أننا نسارع للقول، تفاديا لحرق تفاصيل الرواية، أنه كان لقاء خيبة أمل؛ إذ شتان بين تواصل في عالَم الافتراض وآخر في عالَم الواقع، مثلما شتان بين صور افتراضية لا تخلو من محسِّنات تقنية وأخرى واقعية لا تخلو من نوائب الدهر وعوادي الزمان، مثلما شتان بين مشاعر افتراضية تهيمن عليها الاستهامات بأخرى حقيقية تلجمها حدود الواقع.
لكن الواقع لا يحمِل الخيبات فحسب، فقد يحمِل ما يجعلنا نستعيد معنى الحياة، يحمل المفاجآت والمسرات، بل يحمل الأهم من ذلك وهو بهجة الحب على حد تأكيد روني ديكارت، وهو ما شعر به بطل الرواية في لقاء حصل بمحض المصادفة بسيّدة يفُوح منها عطر استبدَّ بالبطل، وجعل حياته تنقَلب من رتابة قاتلة إلى دهشة الأطفال؛ إذ صار يتشوَّق إلى اللقاء بمن أحدثت انفجارا عظيما في حياته على حد تعبير السارد.
لكن هذا اللقاء بدوره لم يكنْ كذلك سارا، فقد كان لقاء مأساويا بعد طول انتظار، بل احتضار، لأن حميد لم يطقه كما يخبرنا السارد؛ وهو احتضار انتهى بموت الحُلم والأمل، فقرر أن يغادر مدينة الدار البيضاء، بعد أن أخبر الشرطة بأنه سيسافر إلى جنوب المغرب، لعله يجد في الجنوب ما لمْ يجده في الشمال.
ذهب حميد عند «نانّا»، هذه المرأة العجوز التي تخيّل لحميد أنها فيلسوفة أو ولية من أولياء الله، كيف لا وهي التي تعتبر أن التدبُّر في الحيوانات طريق إلى الله، وتحسِن لها، وتوقِّر أليفها وسامَّها على حد سواء؛ والملاحظ أن شخصية نانّا التي اختار عبد الله خليل أن تتربع عرش غلاف روايته بوصفها عنوانا رُسم بلون الأرض لم نتعرَّف عليها إلا عندما نقرأ ثلث صفحاتها، وكأنها بالفعل الخلاص الأخير من الخيبات المتتالية التي تكبدتها الشخصية الرئيسة _ حميد.
سافر حميد إلى مسقط رأسه، حيث لايزال الناس يحيون وفق سنَّة الطبيعة، بعيدا عن ازدحام المدينة ولغطها وتعقيداتها؛ فلا شك أن الحياة في القرية شاقة، وتحتاج لجهد جهيد في الحرث والزرع وانتظار الغيث وحصد ما تيسَّر من الغلة إن جادت السماء ببعض المطر، إلا أنها تظل أرحم من رُهاب المدينة، خصوصا مدينة الدار البيضاء المليونية التي يختلط فيها الليل بالنهار، ويحيا قاطنوها على أعصاب متوترة قابلة للانفجار لأتفه الأسباب.
وداعا لتوتر الأعصاب، وضجيج السيارات، وتشابه الأيام، وتسارع الزمان، ومرحبا بهواء القرية النقي والمنسَّم برائحة الزعتر والحبق والغنباز، ومرحبا بكأس الشاي المنعنع، والحساء الساخن، وحليب الماعز؛ هنا، يستعيد البطل نوستالجيا الحياة في القرية بين سهولها وجبالها ووديانها؛ هنا، مجدُ العائلة وشرَفها؛ هنا، منبت الأحرار حقا وصدقا، من قاوموا الاستعمار؛ هنا، يستأنف البطل معاني الطفولة والحياة والبراءة بعد أن قضى عقودا من الشيخوخة المبكِّرة والموت والتيه والخوفبالدار البيضاء في مبناها والسوداء في معناها.
لكن، مرة أخرى، على الرغم من التحول الإيجابي الذي صار يشعر به حميد في مُقامه الجديد، إلا أنه كان يتذمَّر من نانّا التي تحاول أن تحمِّله مجدَ جدِّه الذي لم يعش معه، لكن مرغم لكي يحافظ على هيبته، وهو الأمر الذي كان يقضُّ مضجعه، لولا أنه يكن لنانّاه الاحترام والتقدير، ويلتمس لها العذر وهي التي بلغت من العمر عتيا، ولم تعد قادرة على الأخذ والرد، اللهم إن كان لها أمر تأتمر به، وهكذا صار حميد يقبل، ولو عن مضض، أن يذهب بالناس إلى المستشفيات، وأن يستقبل الضيوف في المصرية، ويسهر على راحتهم، بل يذهب مع العروس إذا زفَّت، ويتحمَّل عناء التكلُّف والابتسامة في وجه المهنِّئين ويبادلهم التبريكات.
لا شك أن البطل رحل من المدينة هربا من رتابتها، ومن خيبات الماضي الجاثمة على صدره الذي لم يعدْ يتحمل المزيد، إلا أن هذه الخيبات سرعان ما لحقته حتى وهو بين الجبال، بعيدا عن أضواء المدينة؛ إذ ماضي الاتجار في الممنوعات، والعقوبة السجنية التي قضاياها، بعدما زاره أحد عناصر مافيا المخدّرات الذين كان يعمل معهم، قضَّ مضجعه، فترك نانّا، وعقد العزم على الانعزال في إحدى الزوايا الصوفية، طلبا للعِلم الشرعي، ولحفظ القرآن، تاركا نانّا في حسرة من أمرها، وهي التي كانت تأمل أن حميد سيكون إلى جانبها وهي في حضرة سكرات الموت حتى يواري جثمانها الثرى.
رابط حميد في الزاوية منقطعا للصلاة، وطلب علوم الدين، وقراءة الحزب، وبقي على هذه الحال إلى أن بلغه نبأ مفاده أن نانّاه تحتضر فسارع للقياها لكي يلقي عليها السلام الأخير قبل أن تسلم الروح لبارئها، وآنذاك، آنذاك فحسب شعر باليتم، وشبح الغربان يخيِّم على منزل طالما كان قِبلة للضيوف والجيران وعابري السبيل.
يبدو أن رواية «نانّا» يتقاسم فيها دور البطولة حميد، الشخصية الرئيسة من جهة، والسارد من جهة أخرى؛ حميد، من خلال حواراته مع الآخرين ومع ذاته، وهي حوارات متوتِّرة وسَلبية من حيث هي تظل مفتوحة على ممكنات الحياة دون أن يقطع فيها الشك باليقين، والسارد الذي ما فتئ يتدخَّل في متن الرواية، واصفا تارة لأمكنة وشخوص ومواقف، ومعقِّبا تارة أخرى على تحوُّلات وتوتُّرات ووقائع.
ولعل تقاسم دور البطولة بين الشخصية الرئيسة وشخصية السارد سمح بمساحة للبوح، وهامش من الحرية فسح المجال على مصراعيه للتنقُّل من ضيق المدينة إلى رحابة القرية، بل سمح بالسفر عبر الزمن من خلال تخليد الحنين، واستعادة قيم ماتت، وأخرى لازالت تحتضر، وهو ما يجعل الرواية ذي أبعاد أخلاقية جلية، من حيث هي مرافعة ضد مجتمع التفاهة التي ساهم في انتشارها، بل سيادتها، الثورة التقنية الحديثة التي جعلت من العالَم قرية صغيرة، بل جعلت من نهاية المعنى قدرا أنطولوجيا، وهو القدَر الذي ما فتئ السارد يحاكمه من خلال استدراكات وتعقيبات تحنُّ لعصر المعنى، وللقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تحفظ العمران البشري من التصدع والتيه.
لا ريب أن من حسنات الأدب عموما، والرواية على وجه الخصوص بوصفها أرجوزة تاريخية أنها تقرِّب المعاني القصوى للزمن المعاصر، من قبيل الانقلاب القيمي، وموت المعنى، ونهاية التاريخ، وسيادة البلاهة، وانتشار العدمية والشعبوية، باحثة بذلك عن الزمن الضائع، حيث سكينة الروح، ودهشة الأطفال، والاحتفاء بالخير والجمال، وهي المعاني التي حاول أن يستعيدها عبد الله خليل بأسلوب يزاوج بين تقرير العبارة، وإيحاء الإشارة، وومضات شعرية وصوفية تنهل من المدوَّنة الأكبرية، وهو ما يجعلنا أمام تراث لم يمت، بل لازال حيا، من حيث هو قادر على محاكمة ما آلت إليه الحداثة، واقفا على حدودها، ومنبِّها لتيهها وظلماتها وآفاتها.


الكاتب : عبد الرحيم رجراحي

  

بتاريخ : 09/03/2023