قراءة موطئة لرواية «2050» لمحمد مادون رواية تغوص في سراديب المحنة البشرية المتواصلة مع المتغيرات المناخية

 

تسلك رواية (2050) للكاتب والمبدع محمد مادون سبيلَ الخيال العلمي، انطلاقاً من عنوانها الرقميّ الذي يستشرف مستقبلا يفصلنا عنه عقود من الزمان. ترتكز الرواية على معطيات علمية دقيقة بحكم تكوين صاحبها الرّصين في مادة الاجتماعيات التي يجنح فيها مكون الجغرافيا إلى الأصول العلمية الواضحة والمحدّدة.
ولأنّ المعطيات على هذا النحو، فقد غاصت الرواية في سراديب المحنة البشرية المتواصلة مع المتغيرات المناخية، حيث تواصلت قمم المناخ التي حظيت مراكش بشرف استضافت إحداها cop 22 . كلّ هذه القمم تنبّه إلى خطورة الاحتباس الحراري في كوكب الأرض. من ثمّة تدعو كلّ الأطراف إلى اتخاذ كافة التدابير اللازمة والضرورية من أجل العمل على تقليص حجم الانبعاثات الحرارية وحماية الأرض من كوارث وأعطاب التقلّبات المناخية كالحرائق والفيضانات والبراكين…
إنّ الانتقال من الجغرافيا والحقائق العلمية التقريرية وربّما السّطحية إلى عالم الرواية والأدب، انتقال إلى سماء الإبداع ورُواء الإمتاع والحياة الفنية اللذيذة والفاتنة.
وإنّما يُغري بدخول مسارب الإغواء ومنعرجات القراءة الماتعة كون المؤلّف فنّاناً ورسّاماً مقتدراً ينجح لا محالة في توضيب الأضواء والألوان وآثار الظلال الوارفة المُمتدّة التي تسعف في بناء صور شعريةٍ خلابة، تمتح من عمق الاستعارة والمجاز وتتدثّر بعباءة التشبيه والكناية في آفاق غير محدودة.
ولا بدع في ذلك وقد تشرّبت نفس الكاتب مغازلة العمل الروائي ومداعبته من خلال تجربة رائدة أثمرت: «وهج التراب» و «رجع الصّدى» و «سراب الليل» على فترات ليست بالمتباعدة.. إنّها رحمٌ أدبية معطاء.
(2050) فصول ستّة: وجع الحنين، الاحترار والاجتثاث، حَكيُ ما جرى، صدى البوغاز، على صهوة الموج، وعودة الأمل؛ على مدى 290 صفحة من القطع المتوسط. ويتجلى مغزى الرواية وتكثيف أحداثها في الصفحة 164.
يقول السّارد: «إنّ مشكلَتنا، أعني مشكلة الأرض الآن، أصبحت عويصة. إنّها تشبه إلى حدّ كبير، مشكلة بحّارة تُعساء، محاصرين داخل غواصة غارقة في أعماق البحر، ميؤوس من إنقاذها نهائيّاً. لكن، لا يوجد بها إلا بعض عُلب النجاة فقط، لا تكفي للجميع. بل سيستعملها البعض منهم فقط، ليطفو بها في أمان على سطح الماء لينجو من الهلاك، وبالتالي سيغرقِ الباقون بكلّ تأكيد، لانعدام أي فرصة أو إمكانية للنجاة». يؤكّد السّارد هذا الكلام ومغبّته على لسان محمود: «إنّ التغيرات السلبية للمناخ، تتقدّم دون هوادة، وليس هناك أي تراجع في ذلك. نحن ننزلق على منحدر وعر، يزداد انحداراً كلّ يوم» ص 14. وعلى لسان أحمد معقّباً: «على هذا الأساس، فإنّ البشرية ستتعرّض للدمار، بسبب الجفاف والمجاعات، لأنّ الحرارة قد يتكيّف معها عدد معين من البشر لكن المجاعات وما سيصاحبها من اوبئة ستبيد مُعظم سكان الأرض» ص 15.
وإنّما يشهد لذلك مسألة تدمير البيئة والتعاطي السّلبي مع المتغيرات المناخية وما يترتب عليها من هجرات جماعية على إثر موجات الجفاف والتصحر، وندرة المياه التي تشكو منها معظم دول المعمور ومنها بلادُنا، ممّا ينبئ بأن الحرب القادمة ستكون حرب الماء، والتي انطلقت شراراتها الأولى في المحيط الإقليمي لنهر النيل.
(2050) الرواية الجغرافية التي أعلنت قرانها الشرعي بين علم الجغرافيا ودنيا الأدب والإبداع… لم يعتمد فيها الكاتب سرداً تاريخياً أو علمياً رتيباً يجعلها مرتهنة بالجفاف والنضوب، يقرّبها من الاحتباس الحراري واللغوي؛ بل جعلها صاحبها تندمغ بأسلوب أدبيّ رشيق، أضفى على حقائقها العلمية مشاعره الرقيقة، كما لوّنها بأحاسيسه الشّفيفةِ ورأيهِ المخصّب.. فكفل لعمله الأدبيّ المضمر بعلم المناخ وخباياه أسلوباً رفيعاً حقّق من خلاله شهوةَ الإمتاع ودروتَه. الشيء الذي يجعل سمع المتلقي يتحلّب، وذوقَه يتلمّظ الألفاظ المنتقاة والتراكيب العلمية الممزوجة بدم الأدب الفُرات ذات الألوان والأصباغ والإيحاءات الحلوة العذبة والمقاطع المتساوية، وحسن التأليف والترصيف وجميل التدبيج والتزيين ممّا منحها جرساً موسيقياً خاصّاً يكشف عن وضوح المعاني وإتقان التصوير، وتناسب الألوان وتناسقها في غير تكلّف أو ابتسار أو اصطناع المبالغات الزائفة.
ولعلّ الأمتع في هذا القِران، تلوين النّسق السّردي بنفَسٍ شعريّ طافح، قصائدُ شعرية زيّنت جنبات الصفحات 16، 17، 79، 95 وأُخَرَ كثيرات. وليس ذاك بمُستغرَب، فقد جعل الكاتبُ محموداً من أبرز شخصيات الرواية، وهو شاعر فحلٌ مُجرَّبٌ محنّك خنذيذ، يشنّف أسماع حاضريه بصوته الجهوري الرّخيم بمعسول القول الشعريّ خاصة عندما يكونون في أزمات وضيق ولفحاتُ الشمس تلفح وجوههم الكالحة، وضغط الحرارة والصهد يأتي على أنفاسهم. فيُسرّي عليهم ويؤنسُهم ويُذهب وَحشتهم.
إنّ تطويع حقائق العلوم وترويضها داخل قوالب أدبية جذّابة.. أفاض عليها المُبدع من غزير فنّه وبديع صنعته ما أكسبها روعة وتدفّقاً وبهاءً تؤهّله لأن يُخرِج للقرّاء والمتلقين كلّ ما في جرابه غضّاً طريّاً.
واللافت للنظر في أعمال المؤلّف عامّة وفي هذا المُنجز السّردي خاصة، ملامح وظلال شخصيته وتكوينه. نجد لكلّ ذلك أثراً خاصّاً ووقعاً مُميّزاً؛ فهو الرسّام والتشكيلي ومدرّس التاريخ والجغرافيا والنقابي الذي يُرافع على كلّ القضايا العادلة والمشروعة. يلبسُ في الإبداع لكلّ حالة لبوسها. وللمطّلع على جهوده وتجاربه الإبداعية أن يتضوع بأريج عشقه للجنوب الشّرقي، كيف لا وقد احتسى كؤوساً مترعةً من ولهِ وصبابةِ (جنوب الروح).
إنّ أفق انتظار قرّاء الكاتب والمبدع محمد مادون يتّسع أكثر فأكثر؛ فهو ـ لا شكّ ـ يعِدُ بالكثيرِ الكثيرِ ممّا نتشوّف إليه جميعاً.


الكاتب : د.حسن بنيعيش

  

بتاريخ : 17/02/2022