قصة قصيرة : غيثة بنشقرون


عندما يُقَدِّمُ لي سي محسن عُلبة الدواء التي عليها كتابةٌ حمراء ومستطيل بنفس اللون، يبتسم في وجهي! هل هو بدوره يعرف أنني كنتُ مُستكعا كما يقول لي عدد مِمّن ألتقيهم؟! لا أتذكر متى كنتُ متسكعا! أمّي بدورها تؤكد ذلك، وتقول لي، لقد نجوتَ بأعجوبة، ولا أحد كان يظن أنك ستعود لحالتك الأولى! كُنا فقط ننتظرُ خَـبرَ موْتك لننعيك ونُقيم مأتما، حتى ولو لم نتوصل بالجثة! تقصد جثتي طبعا..
يقول لي الصيدلي سي محسن عندما أكمل عُلبتي وأذهب عنده، إن غيثة بنشقرون توصي بي خيرا.. وكم مِن مرة ينحني ويهمس في سمعي كأنه يفشي سرا خطيرا، يقول، إن غيثة كانت قبْل لحظة على اتصال به! أتحسّر على حَظي العاثر، إذ إنني لم أبكّرُ عنده، على الأقل كنتُ سأسمع صوتها.. أظن في المرة القادمة سأقف بباب الصيدلية قبل فتحها..
كيف تكون غيثة؟ عليه على الأقل أن يُطلعني على صورة لها.. إنها السيدة الطيبة التي انتشلتني مِن الهاوية كما تَذْكُـرُ أمّي، وهي مَن تؤدي لي مقابل الدواء كما يقول الصيدلي!
لما تسلمتُ العلبة اليوم، وصّاني الدكتور محسن كَيْ لا أبتلعَ أكثر مِن قرص واحد في اليوم، ويؤكد محذرا أنه إذا تجاوزتُ قرصا، فسأقضي على نفسي.. أمي تتسلّم العلبة عندما أعود من عند الصيدلي. تقول إنها الأحرص على سلامتي. ولكن، لماذا تركتني أواجه مصيري؟ لولا غيثة بنشقرون..
هذا الصباح، تذكرتُ شيئا؛ عندما كنتُ مارّا بالشارع، رأيتُ وجها ليس غريبا عني، شابٌ في مثل سني، يعرض كومة برتقال على عربة يدوية، ينتظر الزبائن.. لما تلاقت نظراتنا، ابتسم، فابتسمتُ له بدوري.. ارتأيت أن أعود إليه بعد مروري على الصيدلية. بدا لي أنه كان معي متسكعا في الشوارع والمزابل كما قيل لي.. آه على الذكريات!!
وقفت بعيدا عن العربة أتأملُ. عدد مِن الزبناء يختارون حبّات البرتقال الجيدة، ويطلبون منه وزْنها.. قلتُ مع نفسي، لابدّ أن أمزح مع هذا الرفيق القديم.. بدأت أقترب من العربة، وفي غفلة مِن الجميع خطفتُ برتقالةً وهربتُ.. تبعني يجري هذا الذي ظننت رفيقا قديما.. شاركه في الجري خلفي عدد من الأشخاص وهم يصيحون، واشفار! شفار!!..
أنا لست لصا.. قبضوا عليّ، أول مَن شدني شابٌ قوي البِنيَةِ، نزل على رقبتي بضربة مِن قبضته! التحق به الآخرون، استرجعَ البائع برتقالتَهُ، في الحقيقة أنا مَن سلّمها له.. قلت له، هل نسيتني؟ أنكر أية معرفة له بي..! كاد الذين قبَضوا عليّ أن يشرعوا في ضرْبي، لكن، لمّا ضحكتُ، وفتحت في وجههم فمي، حتى ظهرت أسناني، تراجعوا.. أعجبتني هذه الحركة، لم أكن أعلمُ أنني أخيف إلى هذه الدرجة!
قال أحدهم، لا تضربوه، إنه صديق الصيدلي! عن أيّ صداقة يتحدث هؤلاء؟ هو يعرف غيثة التي أوصتُه، وأنا لا أعرف غيثة!
قال لي مرة، هل تعرف لماذا تهتم بك غيثة؟ لم أجبه.. كنتُ فقط قد ضحكتُ، ولكنني لم أفتح فمي كثيرا كما فعلت اليوم، وإلا لكان قد هرَب وتركني في الصيدلية!
سألته، وأنت ما رأيك؟ لماذا تهتم بي غيثة؟ فاجأني بجوابٍ عجيبٍ، قال، إنها أعجبتْ برسمِكَ لها على جدار بناية! وبقيت هذه المعلومة تطن في رأسي!
رجعتُ عند الصيدلي مسرعا، ارتاب من رؤيتي، خاطبني فزعا إنْ كنتُ قد ضيعتُ عُلبة الدواء.. ابتسمتُ في وجهه، ولم أفتح فمي مطلقا.. قلتُ له، لديّ طلبٌ واحد، أرجو أن تساعدني لأرى الرسم الذي تحدثتَ لي عنه..
شدّ سي محسن جبهته بيده اليمنى.. أراهُ يمسدها بأصابعه، تتسارع ضربات قلبي.. وأخيرا نطق على مهل:
ـ «كما ترى، أنا الآن في الشّغل وحدي. لم تأت اليوم مُساعِدَتي.. ارجعْ على الساعة الواحدة زوالا.. نذهب معا للبحث عن الرسم».
فرحت كثيرا، شكرته، ربما بهذه الطريقة سأعرف ما وقع لي، وأطلع على شيء ملموس أنجزتُهُ.. بقيتُ مسمّرا بجانب الصيدلية، خشيت أن أنسى ولن أعود على الساعة الواحدة كما اتفقنا.. لما رأيتُهُ يُغلق الباب أسرعت نحوه.. لحسن الحظ لم يخلف سي محسن وعده.
ركبنا معا سيارته، وتوجهنا إلى مكان هو فقط مَن يعرفه، وصلنا إلى نهاية المدينة، تقدمنا قليلا عبر مُنعرج ضيق، توقفتِ السيارة، ترجّل سي محسن، تبعتهُ.. أمامنا رُكام مِن الحجارة.. قال لي والأسى واضح على مُحيّاه، هنا كان رسمك حسب ما حكت لي غيثة، يبدو أن عمال البلدية قد هدّموا هذه البناية القديمة، وقد كانت خربة ومتهالكة، وحسنا فعلوا.. هنا، كنتَ مع عدد من المشردين تقضون لياليكم! إلى أن قدمت غيثة بنشقرون مِن أمريكا وتعهدت بكم.. هل تتذكر؟
أشرت برأسي نافيا، شفتاي متدليتان، اغرَوْرَقتْ عيناي بالدّموع.. أضاف سي محسن، غيثة رسامة عالمية، نظمَتْ لكم هنا أنت وعدد مِن المشردين ورشات في الرسم، وهيأت لكم كُـلَّ ما تحتاجونه.. وكانت السلطات قد سمحت لها ببناية خيمة كبيرة، كنتم فيها تقيمون، وقد أخذتكم جميعا إلى الحمّام، واقتنت لكم ملابس جديدة.. وبعد عدة أيام مِن التداريب كما ذكرتْ لي بِنفسها، طلبتْ مِن كلّ واحد أن يرسم ما يشاء، وكيفما يشاء.. أنت اخترت أن ترسم وجهها على الجدار.
لقد أرتني ذلك الرسم على هاتفها، رسمْتَها كما هي، بشعرها الغزيز والملولب، وشفتيها البارزتين، وعينيها الواسعتين برموش غزيرة.. وحتى الخالة على خدّها الأيسر.. أعجبتْ بالرسم، خاصة وأنك جعلتَها تبتسم! مما راقها جدا.
بعد لحظة صمت، أضاف بحماس:
ـ «قبلتُ أن أساندَ مسعاها كي تُحصّل على علبة دوائك باستمرار..».
أسرعتُ إلى عناق سي محسن، وأنا جِدّ مُنتش.. قلت له، لقد تذكرتُ.. كانت غيثة بنشقرون تريد أن تتزوج بي.. ولكن، لماذا سافرت بدوني؟
تخلص مِن ذراعيّ.. نظر إليّ فاحصا، حتى خفتُ أن يصيح في وجهي غاضبا.. لكنه تكلم بهدوء، قائلا:
ـ «يبدو أن حالتك تحسّنت. عليك أن تستأنف كتابة القصص، وتُطلعني عليها، سأتكفل بإجراءات نشرها حسب رغبة غيثة بنشقرون، هي مَن ستؤدي جميع المصاريف..».
لما عدتُ إلى المنزل، حكيتُ ما جرى لأمي، سُرّتْ كثيرا، وقالت، الآن سنبدأ مع الطبيب إجراءات إرجاعك إلى عَملك..


الكاتب : مصطفى لمودن

  

بتاريخ : 10/03/2023