كتب لها وقع : «آيات شيطانية» لسلمان رشدي 4/2

عن «دار الفارابي»، صدرت النسخة العربية (ترجمة نهلة بيضون) من كتاب «غرق الحضارات» للكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف بعدما نشرت النسخة الفرنسية مطلع ربيع 2019 عن «دار غراسي» (باريس). يحاول أمين معلوف في مؤلّفه «غرق الحضارات» أن يفكّك الأوضاع الراهنة في العالم الغربي تحديداً، كما يعرّج على دراسة الأوضاع في الوطن العربي، كعرّاف أو ناظر إلى بلّورة سحرية ليستقرئ التاريخ العربي بوصفه درباً من الظلامية. يشير معلوف إلى الظلمات التي اكتسحت العالم العربي بدءاً من بلاده لبنان ومصر والعراق وسوريا، لاجئاً إلى الطريق السهل في التفسير ألا وهو أن العالم العربي اختار «الطريق الخطأ»، بسبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت منتصف القرن التاسع عشر. وهو يعتبر أنّ المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلّت مشدودة إلى الماضي، رافضة اللحاق بركب الحضارة الغربية!

 

 

وإذا كان البعض قد رأى أن يتعامل مع هذا التضخيم من رشدي بمعيار تاريخي، فحسن حنفي والعظم يبينان أن ما ذكره رشدي تذكره الروايات بالفعل والرجل لم يختلق شيئًا، وغيرهما يركز على كون هذه الروايات ضعيفة وفاقدة للموثوقية التاريخية مما يجعل استخدام رشدي لها محض انتهازية لا أكثر، إلا أننا نود التعامل مع المسألة من منظور آخر، ففي ظننا أن «حضور الهامش» و«تضخيم الحرج» في الرواية يفقد كل دلالته لو تمت قراءته كأمر تاريخي، هذا لأن طبيعة هذا التضخيم بكل ما فيه من سخرية وتدنيس لا يعمل على مقاومة الرواية الرسمية بأخرى مهمشة لها نصيب أكبر من التاريخ، بل المقصود منه التأكيد على «لا تاريخية كتابة السيرة» برمتها في هامشها ومتنها، فحضور الهامش والمنفي هدفه القول بأن الرواية الإسلامية الرسمية عن محمد هي محض اختلاق، رواية اختلقت وصنعت على مهل عبر نفي المشين «تلك الروايات المهمشة والحرجة التي يضخمها رشدي» عن المؤسس لتكريس الإيمان المتشكل وتبريره، مما يجعلنا نعتبر «تضخيم الحرج» عند رشدي هو مقاومة أدبية غرضها كشف أدبية التقليد، لذا فإن رواية رشدي ليست مجرد رواية ناتجة من تزعزع المدونات التقليدية بل إنها في حقيقة الأمر تحاول صنع هذه الزعزعة بمساءلة حقيقة الرواية المركزية عبر استحضار هامشها وهو ما تنبه له بذكاء فتحي بن سلامة حين اعتبر تخييل رشدي بمثابة نقد تاريخي للنص، مع التأكيد على أن الهامش عند رشدي لا يحضر كحقيقة بديلة عن «حقيقة الإيمان» بل كنفي لوجودها من الأساس.
وطالما أننا أوضحنا هذه النقطة التي نظنها مهمة حيث إنها تحدد كيفية استثمار رشدي للمدونة التقليدية في بناء ملحمته المحمدية الجديدة «تضخيم الحرج» ودلالة هذا الاستثمار الأولية «زعزعة الرواية التقليدية»، فإننا نستطيع العودة للسؤال المركزي هنا وهو كيف لنا في ضوء هذا أن نقيم رواية رشدي من حيث كونها «تخييل جديد للأصول» بتعبير فتحي بن سلامة؟ كيف نكتشف دلالتها للوقوف على قيمتها الأدبية، والقيمية «إضاءة الكائن»، والتنويرية «كشف التعقيد»؟

معمار رواية رشدي، ثلاثة مستويات متداخلة
ربما كل قارئ للرواية يتبين له قدر من التفكك بين أجزائها، وغريب أننا لا نجد في كل من تناول الرواية من التفت لهذا ونبه إليه إلا عبد الرزاق العيد، ربما لأنه الوحيد تقريبًا إلي جوار العظم الذي اهتم لقرائتها أدبيًا، لكن بالطبع التفكك الظاهري يظهر في كثير من الأعمال والروايات الجيدة والممتازة، طالما إنه لا يصل حد التفكك الحقيقي، وهذا ما يراه العظم والعيد كلاهما، وبالنسبة لرواية رشدي فالعظم يعتبر أن فوضاها وحلميتها هي مثل فوضى وحلمية «عولس جويس»، من حيث هي فوضى غير تلقائية ولا معبرة عن عجز الكاتب بل مصنوعة ومتكلفة عبر موهبة الكاتب في الكشف عن غموض الواقع وفوضاه بتقنية سردية مناسبة وليس بالحديث عن الفوضى عبر ذات السرد التقليدي، بذا يصبح حضور «الملحمة المحمدية» في رواية رشدي شبيهًا بحضور ملحمة هومير في عمل الأيرلندي العظيم، وتنسج الرواية عبر هذا التداخل في الأزمنة والأمكنة لتكون رحلة ومغامرة أدبية متكاملة.
وفي الحقيقة نحن نتفق مع العيد تمامًا في كون هذا النسج الذي يتحدث عنه العظم غير موجود في رواية رشدي، وأننا أمام وحدتين بل ربما ثلاثة لا رابط عميق ولا ناسج كاشف بينهما، رغم العلاقة المباشرة والتقاطعات بين جبريل وصلاح الدين التي تظل سطحية وعرضية.
فضلًا عن كون التفكك لا علاقة له أبدًا بالرغبة في سرد تعقد الواقع وفوضاه كما يكرر العظم، لأن هذا لا ينفي وجود وحدات تنسج النص الروائي غير وحدة الشخصية ووحدة الحدث وتناظر الفعل، والعلية البنائية التكوينية والتشارط السببي والضرورة الداخلية التي يرفضها العظم، وأيضًا لأن العلاقة والتقطاعات بين صلاح الدين وجبريل هي قائمة بالفعل في الرواية لكنها تظهر كعلاقة عرضية وتقاطعات مفككة وهذا غير مقبول مع كل ما يردده العظم عن أهمية حضور هذيانات جبريل فاريشتا في الرواية ودورها في كشف الموقف الوجودي لصلاح الدين شامشا باعتبارهما ظلين لبعضهما كما يؤكد العظم من داخل الرواية وهو ما نتفق معه.
لذا فالسؤال المفترض إجابته هنا لتحديد طبيعة بناء رواية رشدي هو أين هي الوحدة التي تضم هذا النص وتجعل علاقة صلاح الدين وجبريل علاقة حقيقية في نسيج واحد بالفعل، وليس تقاطعات عرضية، بتعبير آخر، أين هي الوحدة التي تجعل التفكك الذي يتحدث عنه العيد والذي يراه كل قارئ للرواية تفككًا ظاهريًا فحسب لا أكثر؟
ظننا أن هذه الوحدة هي وحدة الثيمة؛ «التساؤل الوجودي كفحص دائم للكلمات الخاصة (المفتاحية)» وفق تعريف كونديرا لها، وهي ثيمة أعلنها صاحب الرواية نفسه فيما ينقل العظم حين يقول «إن الرواية تتساءل عما إذا كان البشر قادرين على الحياة من دون إله»، من هذا المنطلق فموت جبريل الذي ظل يهذي طوال الرواية متماشيًا تمامًا مع خاتمة صلاح الدين الذي أطل من شرفته في آخر مشهد لينظر لبحر العرب متمنيًا بلدوزر يهد هذا المكان كله ويقتلعه من جذوره، فصلاح الدين الذي يعيش الرواية بطولها بين جدل المنفى والعودة «ككلمات مفتاحية لفهم موقفه الوجودي»، بين بلد حديث يضطهده لأنه ملون وبين بلد أصلي يشيع فيه الجهل والهذيان، يستعد لمعانقة بلده وللإجابة بـ «ها أنا ذا» على رفيقته الهندية زينات وكيل «فقط» بعد موت جبريل، فجبريل ليس شخصية يخفي وراءها المؤلف هذياناته في حيلة قديمة، شخصية لا علاقة لها بصلاح الدين حتى أنها قد تستقل كرواية جويسية أو فوكنرية كما يرى العيد، بل هي شخصية ترتبط بالموقف الوجودي لصلاح الدين عبر مفاهيم العودة والمنفى والهذيان والإله والشيطان والولادة الجديدة ككلمات كاشفة عن الموقف الوجودي للبطل.


الكاتب : مصطفى شلش

  

بتاريخ : 11/08/2020