كيف تصبح كاتبًا؟ : جوليا كريستيفا: أحاول أن أكون عند أفق الحالة الطارئة للحياة(7)

« لا نتخيل إلى أي حد تتجلى صعوبة التماسك حينما تعيش امرأة مع زوج ليس كالآخرين، ولديها طفل يختلف عن الآخرين، ومهنة غير باقي المهن، وبأن مختلف محاور الارتباط تلك وبقدر كونها ارتقاء فهي تمثل عائقا أيضا(مع أخذ بعين الاعتبار أن كل واحد منا لايشبه“ الآخرين”)وتقوم على توازن ”مغاير تماما’ ‘يصعب تخيل ذلك !“(كاترين كليمون، جوليا كريستيفا، الأنثوي والمقدس، ألبان ميشيل، 2015 )

 

أنا مختص في التحليل النفسي الإكلينيكي داخل مستشفى حيث تكمن هذه الأسئلة في قلب تأمل عدد كبير من المعالِجين. التجأت دائما إلى أعمالكم  للتفكير في بعض الوضعيات الصعبة. هذه الوفاة مثلما أوضحتموها لاتهم  الفلاسفة المعاصرين.
لقد أنجز ذوو الاحتياجات الخاصة أطروحات جامعية مهمة، ثم حققوا مسارات مهنية لاتقل تألقا في مجال الإعلام، فيما يتعلق بارتقائهم الذاتي، وباستطاعتهم  أيضا مداعبة الموت. لكن التطرق إلى حيثيات موت الشخص المعاق… آه لا، فالموضوع ليس ملائما. الإفراط في التعاسة،  قلة نسبة معدلات المشاهدة،  ستثيرون فزع المتابعين،  و سيجبرهم ذلك على تغيير القناة،  يرفض الجميع التفكير مليا في عجز الضمان الاجتماعي. أيضا ترتكز  تأملاتنا الإنسانية حول المعاق، حتى أكثرها سخاء على المفهوم الأرسطي القديم(”العجز”،  ”النقص”، “العقم”)،  أو الخطأ (فيما يبدو تجوزت حاليا).  يستلهم ماتيو ذلك ويجمل مختلف أنواع “العجز” و”الانتهاك” ضمن شريحة ”الفقر”:المرضى،  المجذومين، الأجانب،  المتسكعين،  المعوزين،  العاجزين،  كل الفقراء ! أعمال إحسانية رائعة أبدعها سياق هذا الفكر، أساس الإنسية المسيحية وكذا الكنيسة “جماعة الخادِم المتألم”، التي تطلعت نحو  سدِّ ثغرات  النقص،  و”إعطاء” ” من يحتاجون العطاء”.  أيضا انبثقت مقاربات تقنية وعلمية من هذا القصور أو النقص: بدراستنا لتجليات الحُبسة(العجز عن الكلام)، نعمق معرفتنا  بالميكانيزمات المعقدة للغة.  لايتعلق الأمر هنا بتجاهل علم الأمراض ولا إلغائه. بل التحلي باليقظة،  لأننا نجازف باحتجاز الذات المعاقة في نطاق موضوع  يقتضي فقط” التكفل به «.

ماذا تقترحون؟
إتمام نموذج العجز من خلال الهوس بالتميز الفردي. عدت إلى ذلك، مع دانز سكوت.  فبالنسبة لهذا اللاهوتي المنتمي للقرن الوسيط، لا تكمن الحقيقة سواء مع الأفكار العامة، أو تلك المادة المعتمة،  بل انطلاقا من حقيقة هذا الرجل،  تلك المرأة،  وهذه الوضعية،  ذاك الموضوع. وكذا هذا التعبير(اللاتيني” ecce”تعني”هذا”، ”ذاك”) الصادر عن المفهوم السكولائي(eccéité) ”المميزات الفردية”،  وبالانجليزية(thisness)والتي نترجمها بالخصوصية. فحسب إيتيقا دانز سكوت، ستكون الخصوصية اليقين الوحيد، و”القيمة” الأساسية.  ستلاحظون بأني أقترب من القصد…إنها خصوصية دافيد التي تمثل يقيني الوحيد، قيمتي النهائية. جعلني تعاطفي العاشق أكتشف قدرته على ممارسة الموسيقي بفضل أذنه المثالية رغم صعوباته العصبية. أصاحبه إذن كي ينفصل عني، ويشخْصن بشكل أفضل لغاته، ووسائله التعبيرية ثم علاقاته مع الآخر.  بحيث يمارس ذلك على طريقته الخاصة، ليس كما أريد، بل مثلما يريد وضمن نطاق مقدوره.  سنفتح ”ورشا” جديدا، ذلك المتعلق ب”الحياة العاطفية والجنسية”، مع أصدقائه وصديقاته ومرافقيه. سيكون صعبا، إن كان ممكنا؟أشك، أقول له:”دافيد، إنك تحلم !”، ثم يجيبني” لكن أمي، أحلم إذن أنا موجود”.

وأنا أصغي إليكم، أشعر بأنكم مثل فيليب سوليرز، لكن بكيفية ثانية، لاتطرقون سوى الأبواب المفتوحة. تتجه نظرتكم بداية نحو الممكن، وكذا الجمال.  وليس وجهة المستحيل، أو المعاناة.
*جوليا كريستيفا: أحيانا يعتبرني دافيد وفيليب مفرطة النشاط. صحيح أني مستعدة لجميع الاحتمالات كي يسير الأمر على أحسن مايرام،  وبشكل أفضل. أشعر بالزهو وأنا أنشد  لهما لحنا روسيا حفظته خلال فترة شبابي في بلغاريا: “هيَّا تبلَّلْ كالفولاذ، واستعدْ للحظة الشدة، تهيأ ثم تقدم إلى الأمام”. ثم يجيبان بنبرة مغالية: “جوليا،  استعدي وتقدمي !”. طيب، يلزم أن أحتفظ لنفسي بجزئية صغيرة من هذه الحماسة الساذجة…. إذن هدنة النكتة،  ممارسة التحليل النفسي السريري،  اشتغالي صحبة  مرضاي،  ألفة فيليب مع ابننا دافيد- ليست للأسف براغماتية جدا، لكنها ذات فعالية”موسيقية”- قادني مختلف ذلك كي أجعل من الحياة معركة مع حضور الموت، وفي نهاية المطاف، استثمارا لكل لحظاتها.  وحده جمال معين يستحق.  فقد جعلتني لقاءات كثيرة حول دافيد أعيش هذا الجمال. نعم ليس عزاء إيستيتيقيا، لكنه بالأحرى شعورا بالعدالة والإنصاف الذي يحققه التناغم الواهن المتوِّج للاستهلاك الطاقي.  أفكر في العمل المطلق لجان فانيي،  وقد تبادلت معه طيلة سنتين، مراسلات، صدرت سنة 2011(منشورات فايار)، تحت عنوان:نظرتهم تخترق ظلالنا. هل تعلمون من أين أتت هذه الجملة؟حينما حصلت على جائزة هولبيرغ في مدينة بيرجين، توخيت لقاء شخصيات منخرطة في مصاحبة معاقين في النرويج. قدموا لي ألفور أنيش، أستاذ شاب محاضر في الجامعة(متى يصبح لنا في فرنسا أساتذة محاضرين وإن كانوا يعانون إعاقة متقدمة؟)شرح لي طبيعة عمله، لاسيما حول يوهان إبسن. في إحدى مسرحياته، يعالج هذا المسرحي الكبير حكاية امرأة مكلفة بإبادة الفئران (ساحرات الفئران شخصيات وضيعة ومشهورة بالنسبة للرومانسية في البلدان الاسكندينافية)، أحبت طفلا معاقا، الصغير أيولف، والذي تقارنه بعاشقها الأول الذي مات غرقا. وكما لو بهدف إعادة ملاقاة هذه الأعماق النفسية حيث تتعايش الدناءة،  الخوف، الخجل والرغبات، قرر الطفل بدوره إغراق نفسه في ذات البحيرة. تركزت عيناي الطفل أيولف كليا نحو هذه المرأة:”تمعنان التحديق في جوهر الظل وتخترق نظراته ظلالنا”. لم نصل بعد إلى هذا المستوى. تساعدنا التطورات العلمية والمعارك الحديثة على اجتياز كآبة مذهب المازوشية الرومانسي. لكن لازالت تنتظرنا أعمال كثيرة. بعد ذلك اللقاء، والكتاب المشترك مع فانيي، واصلت تبادل الآراء مع الزملاء النرويجيين حول صعوبات الإنسانية المعاصرة بخصوص اختراق تعقد وضعية المعاق، بين طيات ظل الأنوار.

كلمة أخيرة من أجل إنهاء هذا الفصل؟
أفكر بإقرار الفضل للفرق الطبية، النفسية،  الاجتماعية،  الموسيقية، وأخرى تلك المحيطة بدافيد والتي تعرفت على أفرادها بصحبته وبمعية أصدقائه. حقا،  أصبو نحو نسيان التخوفات،  الدموع،  الأخطاء، الضجر.  تستمر فقط ابتسامة دافيد المختزلة لجل مايعشقه،  جميع الذين يتقاسم معهم حيويته المعدية،  حيثما أراد،  واستطاع ذلك،  سواء في جزيرة ري Ré أو باريس،  بناء على شعاره”أحلم إذن أنا موجود”: إنها الحياة. لذلك أحاول أن أكون عند أفق الحالة الطارئة للحياة.


الكاتب : ترجمة: سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 13/08/2020