كيمياء الحرب والعشب

في ديوان «معراج السفر أو الرحيل إلى إرم «للشاعر محمد رشوقي

في مديح القوة، في مديح الحرب الدفاعية، في لعنة الصمت، نتجول بين سطور النار والطبيعة، في قصائد الحرب والعشب من ديوان «معراج السفر أو الرحيل إلى إرم»، للكاتب المغربي الشاعر المبدع الأستاذ محمد رشوقي.
في الآونة الأخيرة بتنا نسمع أصواتا تتهم اختيارات الشاعر المعاصر بالقلق الاجتماعي، والجنوح إلى الماليخوليا السوداء بشكل واضح وملموس، هل نحن أمام أزمة أننا بتنا نشهد جنازات بعض الأنواع/والتيمات الشعرية، شعر الملحمة على وجه التحديد؟.
جميل أن نرى العالم مختزلا من نافذة شاعر عبر تمازج جاذبية اللغة وعمق المحتوى. ولو أننا لن نرى الأشياء كما هي بعين الآخر، أو من نافذة الآخر، لكننا سنتقبل أيا ما تراه عين الشاعر ذاك الآخر مادام يغرق في معان أكثر عمقا للأشياء. وبنفس الوقت لا نريد أن نتقمص نظرة شخص آخر للأشياء.
اللغة، الفكرة، الصورة، باختصار شديد هي ثلاث كلمات اختزلها لوصف ردة فعلي القرائية على هذا الديوان. أصالة اللغة ووضوح الفكرة وتواجد الصور الفنية كلها مقومات مجتمعة في ديوان محمد رشوقي.
إنه ديوان مُلهِم. فكما تلهمنا نصوص الأنبياء وشهداء الحرب والدم، والمحاربون المقدسون، ورموز التاريخ والثورة، والرحالون وغزاة البحر، وشهداء الحِبر، يمكن للشعر أن يكون مصدر إلهام لنا، ولكتاباتنا.
إنه ديوان بين الدمعة، والحبر، والحرب. هكذا يحلو لي أن أصف قصائده.
لكن هل يكفي أن يكون الشاعر متباكيا وأن يكون الشعر عبارة عن بكاء ليكون ممتعا وهادفا؟ أعتقد أن الشعر ما عاد منديلا يكفكف الدموع.

منذ النص الأول»خنجر الدجى»، يضعنا الشاعر أمام خيار الحرب، الخنجر باعتباره آلة دفاعية، أو آلة حربية، بحسب موقع حامل الآلة، كأنه يدعونا لضيافة من نوع خاص، لنكون شركاء في الحرب. نقرأ، «عائد من أتون الحرب أعصر مزنا يابسا».
القصيدة الأولى كإعلان حرب، ومن خلال الحمولات الدلالية لمجموعة من المفردات التي استدعاها الشاعر يتضح أن الديوان نابض بالحرب، «الرهج» الذي يعبر عن غبار المعارك. «الصهيل»،
«الخنجر»، «الدم الراجف»، «الندوب»، «الدم»، «غثاء الملاحم»، «المزامير» تلك الأداة التي نستعملها للطرب وسماع الموسيقى لكنها تُقدَّم في الديوان ضمن مساحة فنية تنبعث فيها أصوات الدفاع عن الانتماء لا أصوات الموسيقى والطرب. نجد كذلك .»الصحراء»، «رصيف الخراب»، «الطرقات مفخخة»، «المسورة بانفجار الابنوس»، «كسهم رحيم».. كذلك نص «طبول الدم الأخير» ص 82.
من هنا ينهض الشاعر إلى الحرب، إلى شعر الحرب، الحرب على الحرب، كأنه ينتقل بنا من طاقة الشعر المتحدث بالحكمة إلى قوة الشاعر المحارب، إلى قوة السيف والنار، لطرد الذباب، يقول:
«من أغوار الجرح/ ومدائن الشتات/تتدلى أصابع خنثى/تهشٌ ذباب الصديد/ونَحل النفايات/عن حلوى الوطن المذبوح/ بسيف كهام».
ثمة عناصر، بحسب الشاعر، تحدد مصيرنا؛ الأرض والجراح والبكاء، كما لو كان يدفعنا إلى أن نقتنع بأن :
«الأرض دون صهيل/مثخنةٌ بالجراح / وشظايا بكاء» بحجة أننا ندافع عن النور من أن تغتاله أيادي الظلام:
«فيما خيول الضوء/تطل من غمق/ تغتاله السكاكين»
وفي قصيدة كراس الوصايا يقول: «اكتبْ وصاياك/بمداد الطعنة»، بينما المقاطع التالية تخبئ مأساة عشب تحرقه النار؛
«أمشاجُ البراكين/يحاصر برقُها العابرُ/ إكليلَ الجبل».
من هنا نلاحظ أن الديوان يتراوح بين حالة الحرب وحالة الطبيعة، سأعبر عنها في هذه الورقة بمفردتي الحرب والعشب كنوع من التقابل الذي لا أعرف كيف أسميه لكنه تقابل متناقض مؤسس على خلفية الصراع، و»بطش المناجل». وميلاد «الفارس الغضنفر»، ال»موشح بالطعنات». إنه قانون حماية البقاء.
ثنائية الحرب والعشب تتبدى بشكل أوضح في نص نوارس صباح أعشى.
«أنا المارد القديس/مسكون بالنزيف/في موسم الرصاص/والياسمين». ص27.
«انشريني/يا سرايا الغيم/سرابا.. أو صاعقة».ص28. هكذا، إما سربا من أسراب الحمام وإما صاعقة من نار ورصاص.

ما قاله الديوان
عن الحب والحرب:

فعن سحر أنثى مخضب بالدم، وعن جمال امرأة قامت لأجله الحروب وأُطلقت النار وتحطمت سفن الغزاة في لَجج الخضم (البحر)، يقول الشاعر:
«من شتول ألق/ لبرق خلب/مضمخ بأختام النار/ والدم الشهي/أقطف سحر أنوثة». ص58.
«ناوليني يا امرأة/تلوذ بجوسق الجراح/مسافة من عينيك اللوزيتين/كي أعبر هذا الخضم الطامي».ص 73
الجمال، مرتبط بالغزو في مخيال الشاعر، الذي يعبر عن مخيالنا الجماعي، أمبراطوريات سقطت، سفن الغزاة تحطمت فوق براعة الجسد.
شخصيا، أقرأ الديوان الآن وأحدق في حطام السفينة الغارقة هنا في بحر الجديدة، أتوهم أنها تحطمت على جسد امرأة. أو ربما لحماية امرأة.
حماية هذا الجمال قد تجرعنا السم في العسل؛
«اِكبح جماح قهرك/ يا ليل العرب/ وكن لحدائق الميموزا/ كالعاشق المغوار/ يقايض الدم بالحب». 95.
هل يتحدث الشاعر هنا عن قانونية الحرب والحب، القانونية الأخلاقية، قانونية وشرعية القتل دفاعا عن الشرف في زمن اللاأمن؟ عندما لا تكتفي الحرب بتدمير الجمال فحسب، بل تحوله من رسول حب إلى جندي، إلى آلة حرب، آلة للقتل. نقرأ.
«في حدائق الخوف والهجران/تستحيل الورود سيوفا/وأزهارُ الأقحوان سهاما»ص78.
«في حفريات الصمت الأكيد/جدد إيقاع السيوف/وازرع وردة متاريس». الديوان ص59.
الورود التي لا ترتدي سترة الحرب، سترة الدفاع عن الربوة، يجب أن تطعن هي الأخرى، يقول الشاعر في آخر قصيدة من الديوان،(اخسأ أيها الليل ):
في رُباك البعيدة/رفرات أليفة/ لزفير البرد/وسطوة الفراق/هكذا إذن في هدير فجرك الموؤود/ينقر جبهتي طائر الحرمل/ ولا أبالي/ أستل من قلب الفراغ/سيفيييييي/وأطعن وردة/ لا تحب/ الأعالي.ص95.
يمكن أن نرصد ثنائية الحرب والعشب في قصيدة «قلق الأشجار»، حيث النص وصف للطبيعة، و»رياح الخريف»، و»همهمات الأحراش»، و»صخب الغابات»، و»شجر الشربين والنارجيل على الضفاف»، و»أعشاب الأرض»، ينضاف عنصر المرأة،
يقول الشاعر: امرأة ساهمة /معقوصة الغدائر/تنوء بأوهاق المنافي.ص19.
إنها إحدى مآسي الحرب. المرأة والنزوح ومنافي الوطن، لكن عن أي وطن يتحدث الشاعر، يبدو أنه وطن صامت بلا تاريخ عظيم، بلا أعمال عظيمة. نقرأ:
«وطن مخذول/يبدده شحيج الصمت». الصمت يخذل الوطن، يخذل العالم. الصامتون خطيرون، بحسب الشاعر. يدفعنا للاعتقاد بأن العالم مكان خطير ليس بسبب من يفعلون الأعمال الشريرة، ولكن بسبب الذين ينظرون ويصمتون ولا يفعلون شيئا كالأصنام.

اللغة و(عَتمةُ) المفردات:

لغة الديوان فصحى، عربية بحاجة لترجمة بالعربية. أعتقد أن لغة الديوان تغذّي ذاك الشغف والارتباط الوجداني بالتراث اللغوي الثري.
استقراء مفردات الديوان يطول، لكنني سأكتفي ببعض الأمثلة، لا من حيث المفردات، أو التراكيب، أو تصاريف الأفعال. بالنسبة للقارئ الجديد أو المتلقي الخجول ستبدو له غريبة حين يتحدث الديوان عن «وشل الغيوم». و»جؤار المين»، وكيف «ترغو كالنواجل»، وعن «شعاع شاذخ»، «ينهرق كالفيض»، وثمة ما «ينضو عنه دبيب الفصول»، وعن «شمس لا تريم»، و»إيقاع الصنج المفجوع»، و «دعاميص النهر الراكد»، و «فتنة اليحمور»، و «ارتماضة في المنحدر»،أو حين يتحدث عن «ذؤابات وشآبيب»، ربما ستقف مبهورا، عزيزي القارئ، عند مشهد «عذوقا من نعمى الودق»، وعند «عساليج النار» وأنت تقرأ : «تدفنين في حدائق بابل/مناقيرك الخضر/بين نقا الرمل وعساليج النار». ستقف عند «نجمة من رخام/ تتغضن في رماد المواعيد» و»المزن الهتون». و»صافنات الأثباج». و «زمهرير أو رغاء». و «يا خَدَني اللوذعي».و «كَوْثل الصحراء». وحتما سوف لن تتوقف حتى السطر الأخير من الديوان.
قراءة الديوان ستحتم عليك الاستعانة بمجموعة من القواميس، الشاعر يمتلك ثقافة ممتدة في عروق اللغة ومفرداتها وتراكيبها.
الجديد في النص الشعري لمحمد رشوقي أنه يعيدنا إلى معترك اللغة القوية، الفخمة، فخامة العربية ذاتها. الجديد أصيل والأصيل جديد.
هذه اللغة الثرية والغريبة نوعا ما، ربما سيعتبرها قارئ جديد لغة مهجورة، ميتة، متجاوزة في القرن الحادي والعشرين وفي وقت التحالفات اللغوية والتمازجات المُبعثرة للحدود بين اللهجات العالمية، كما لو كانت نقطة الارتكاز في عملية الإبداع والإنتاج لدى الشاعر هي هذا الأسلوب النخبوي المنتخب على طريقة دهاقنة اللغة، ولو أنني أقترح تقنيا على الشاعر، أي شاعر يكتب بهذه الأصالة، أن يشكل مفردات النص (ضبطا)، تسهيلا على القارئ، وأن يذيل النص بهوامش تفسيرية لمساعدة المتلقي على التذوق. شخصيا لا أعتبرها هوامش بقدر ما هي شعائر روحانية مساعدة على التذوق، لأنك وأنت تقرأ النص يتحتم عليك أن ترحل إلى تلك القواميس، قواميس اللغة وقواميس الأساطير، إذا كنت لا تمتلك آليات هضم النص، وأثناء رحلة البحث والمراجعة سيحدث انقطاع في استرسال الصور إلى الذهن، وربما سيفقد المتلقي الخيط الناظم ويخفت بريق الصورة بسبب عملية التحول والتنقل كما لو كان سيرحل خارج النص بحثا عن ترجمته. نفس الشيء يقال عن أسماء الأساطير الثاوية في ثنايا الديوان، وكمثال نذكر: «جبل افرست»، «مرقى التوباد»، «أقدام آشيل»، «عيون جورنيكا»، «شهوة الإيروس»، «حدائق الميموزا»، ربما سيتساءل المتلقي عن ماهية الهَافر هنا: «وهافرُ دوسك المفقود/ ترتاده جحافل/ من ضجر القتلى». الديوان ص89.

التشابهات والتقابُلات

ثمة تشبيهات مزعجة لما ترمز إليه من معاناة وحزن الخ، حضورها ينسجم مع روح الديوان، فهي تتفاعل مع مضمون النص، أظن أن التشبيه ضرورة شعرية، والقصيدة التي لا ترتدي أزياء التشبيهات واستعارة الكنايات يجب أن ترتدي الكمامة.
لدينا هنا «ارتجاف المعابر/كصرخة القريص»21.
لدينا؛ «تحتمي كخُلد الثلج»24. ربما يريدنا أن نفهم أن ما تمة خلود انطولوجي إلا كما يخلد ثلج مهدد بالذوبان.
لدينا، «نرتجف عرايا/../ كسنابل كليلة/أذبلها الحر/تهوى مذعورة تحت بطش المناجل». ص34.
يستعمل الشاعر محمد رشوقي التشبيه كطريقة فنية لربط المتلقي، أو لتسوية التفارقات البينية ثقافيا وفنيا بين الناص والنص ومركز التلقي.على أننا نسجل أن كل فاصلة من فواصل قصائد الديوان هي صورة شعرية مستقلة، بل هي قصيدة أو مشروع قصيدة بحسب أمبرتو إيكو: «كل مفردة هي نص متوقع أو محتمل وأي نص هو تمطيط لمفردة واحدة أو أكثر».

ما لم يقله الديوان!!

«معراج السفر، أو الرحيل إلى إرم» كعنوان ومتن يسائل أولئك المسافرين إلى الأرض الآمنة على متن الدبابات، والمدافع والراجمات، وحاملات الطائرات، بلا جوازات دخول محملين بالقنابل واللهب.. تسائلهم عما ستقترفه أرواحٌ مُدمَّرة لا يمكن السيطرة عليها «حين تستشيط الروح/بأجراس الدم/وشطحات العائدين/من حرب الجياع». الديوان ص 32.

كخاتمة

لا أنكر أن الديوان قد توافق مع ميولاتي الوجدانية والثقافية. ميولات للمعارك، كما الجَمال .
الإبداع، أن نكتشف الجمال في الأشياء البسيطة واللغة البسيطة كذلك، بيد أننا في ديوان الشاعر المبدع محمد رشوقي سنكتشف الجمال في فخامة اللغة وأصالتها، فخامة تعبر عن شيء يشغل باله بدت تجليات هذا الشيء في تيمة الحرب والعشب إن سُمح لي بالتوصيف، إنه يعود بنا إلى نوعية من الكتابة الشعرية تكاد تندثر بعد نهاية زمن المقاومة وانتقالنا إلى زمن اللاحرب واللاسلم، زمن التطبيع مع المُعتدي، حين يرثي حالة النكوص ويستنهض القوة الكامنة لتترك صمتها والعودة إلى موقع الحراسة في قصيدة (أهزوجة انكسار):
«وداعا يا صمت القلاع» ص63.


الكاتب : محمد غزلي

  

بتاريخ : 07/01/2022