متابعات بيبليوغرافية حول قضايا حروب الريف التحريرية

نماذج من المغرب ومن إسبانيا

 

لايزال موضوع حرب الريف يثير اهتمام قطاعات عريضة من الرأي العام الإسباني، بسبب الهزة العميقة التي أحدثتها بطولاتها داخل بنية الدولة والمجتمع الإسبانيين خلال مطلع عشرينيات القرن 20. فهزيمة مدوية مثل ما وقع في أنوال سنة 1921، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين قوة استعمارية غاشمة وبين فرق من المجاهدين الساعين إلى دعم حريتهم وسيادتهم، بقدر ما أنها اعتبرت ثاني أخطر ضربة قاسية لوجود إسبانيا «الإمبراطوري» بعد الهزيمة الكبرى التي ألحقت بها بمستعمرة كوبا سنة 1898. لذلك، فقد اهتم المؤرخون الإسبان بالبحث المسترسل في خبايا حروب الريف التحريرية، بهدف فهم أسرارها وإيجاد المبررات الكفيلة بالاستجابة لنهم «الوعي الشقي» الإسباني الذي لم يستطع قبول كل التفسيرات التقنية التي قدمت لحدث تفوق هؤلاء المقاتلين الريفيين القرويين على القوات العسكرية الإسبانية النظامية المجهزة بأحدث التقنيات والمؤطرة بأكثر العناصر كفاءة وخبرة ميدانية مباشرة. وتزداد مثل هذه النزوعات إلحاحا لدى القوى الحية الإسبانية المعاصرة، بسبب ما أصبح الرأي العام المحلي قادرا على الوقوف عليه من أسرار جرائم ارتكبها الجيش الإسباني ضد الآلاف من المدنيين الأبرياء، وعلى رأسها جريمة قصف التجمعات القروية بالأسلحة الكيماوية السامة والتي تعتبر جريمة حرب بكل المقاييس، لا يمكن أن تسقط مطالب جبرها بالتقادم تحت أي ظرف من الظروف. وقبل ذلك، فالأمر لايزال مرتبطا ـ في الكثير من جوانبه ـ بمجمل العقد التاريخية التي أصبحت تطبق بقوة على علاقات الإسبان بجيرانهم المغاربة، عقد مزمنة ساهمت في تكريس رؤى نمطية جاهزة لدى إسبان اليوم تجاه مغاربة اليوم والأمس. فالكثير من القراءات ظلت تستنسخ أحكاما متسرعة وسهلة حول واقع الدولة والمجتمع المغربيين، قراءات مركزية ترفض الإنصات «للأصوات الأخرى» وتأبى إلا أن تنغلق على مركزيتها القاتلة وعلى ذاتها الشوفينية. وخلف هذه الرؤى، توارت الحقائق، وحجبت روايات الزيف صدقية الوقائع. ورغم أن الأمر قد هيمن لفترة زمنية طويلة على مجال النشر والاتصال بإسبانيا، فإن الوضع قد بدأ في التململ بشكل جلي خلال العقدين الأخيرين، تحت وقع تواتر صدور سلسلة من الأعمال الجامعية الرصينة التي استطاعت أن تبتعد عن روح المنجز «الجاهز»، وأن تركب مغامرة البحث والسؤال وفق منطلقات لا ولاء لها إلا للضوابط العلمية المجددة ولأدواتها الإجرائية المعروفة.
وبالنسبة لرصيد المنجز الوطني بهذا الخصوص، فالمؤكد أن الموضوع قد ظل يمارس «سلطته» العاطفية على قطاعات عريضة من مؤرخي المغرب المعاصرين، وشهد عودة جماعية لتجميع الوثائق ولتقييم السياقات ولإعادة مساءلة الكثير من «اليوطوبيات» التي وسمت تعاطي مغاربة الاستقلال مع قضايا حروب الريف التحريرية ومع سيرة زعيمها محمد بن عبد الكريم الخطابي. باختصار، أضحت قضايا حروب الريف موضوعا متجددا بامتياز، ليس – فقط – بالنظر لحجم التراكم الكمي المنجز إلى الآن، ولكن – كذلك – بالنظر لجرأته في مقاربة طابوهاته التي ظلت ترخي بظلالها على الكثير من التطورات الراهنة التي يحبل بها المشهد السياسي الوطني المعاصر.
ولمواكبة هذا الزخم النوعي المرتبط بقيمة الإصدارات ذات الصلة بحرب الريف، نقترح تقديم نماذج منتقاة من أعمال رأت النور خلال السنوات القليلة الماضية أو أعيد طبعها وتعميم تداولها أو ترجمتها من لغتها الأصلية، سواء بالمغرب أو بإسبانيا.

1 ـ « التاريخ السري لحرب الريف «، لخوان باندو

صدر كتاب «التاريخ السري لحرب الريف ـ المغرب.. الحلم المزعج» لمؤلفه خوان باندو، في ترجمته العربية سنة 2008، في ما مجموعه 475 صفحة من الحجم الكبير، بتوقيع المترجمة سناء الشعيري. وقد سعى الكتاب إلى إعادة مقاربة موضوع حرب الريف من وجهة نظر إسبانية متحررة من ضغط الحمولات التاريخية للمشاكل المزمنة للعلاقات المغربية الإسبانية، بالاستناد إلى رصيد وثائقي غزير ومتنوع، لم يكن الإطلاع عليه متاحا بالنسبة للباحثين خلال الفترات السابقة. لذلك، فهذا الزاد الوثائقي كان منطلقا وجه المؤلف في عمله وأكسبه المواد الأساسية لإعادة اختراق طابوهات ما كان يعرف ب «كابوس إفريقيا» الذي رسخته هزيمة أنوال الشهيرة في المخيال الإسباني الجماعي خلال الفترة المعاصرة. وقد لخص المؤلف هذا المنحى المنهجي في البحث وفي التنقيب، في كلمة تقديمية تركيبية مركزة، جاء فيها: «…في مجال البحث، أصبحت المشاكل أكثر تعقيدا حينما بدأت سنة 1990، عملية تنقيب مكثفة عن الوثائق، بيد أن الاختفاء أو الإتلاف… مهد الطريق لكارثة أخرى موازية، تتلخص في حرمان هذا المجهود العلمي من ربط اتصال رصين ومعقلن بين الذاكرة الشخصية وبين البيانات الرسمية. وفي هذا الصدد كان للكاتب حظ كبير، إذ عثر في أرشيفات ماورا، على نسخ كاملة من المحادثات التليغرافية التي كانت تجري بين برنكر والفيكونت إيزا، الذي كان وزيرا للحرب في وزارة إينديسلاثار . وكان ماورا عند توليه الحكم في غشت 1921، شديد الحرص على أن تسلم إليه المحادثات شخصيا. وإلى جانب هذه الأخيرة، تمت صيانة محادثات أخرى ربطت برنكر بثيرفا. وهكذا صارت كل هذه المستندات التي لم تنشر بعد، بمثابة رأسمال قوي وفعال بمقدوره أن يكشف عن مجموعة من الحقائق. وانضاف إلى هذا الرصيد، أرشيف آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو بدوره لم ينشر بعد إلى يومنا هذا، يتعلق الأمر بالأرشيف الشخصي للجنرال بيكاسو، الذي ساعد على إعادة بناء طبيعة الأحداث وتسهيل فهمها. ونضيف إلى كل هذا، مخزون الوثائق لعائلة مانيا، والأرشيف الشخصي الجدير بالذكر لدومينكيز يوسا. مع كل هذه الاكتشافات، توضحت الرؤيا جيدا، وظهر قصور الدراسات التي أجريت حول معركة أنوال ونتائجها…» ( ص ص. 9 ـ 10 ).
وبهدف سد ثغرات هذا القصور، سعى خوان باندو إلى توظيف رصيده الوثائقي الغزير، مستنطقا أسراره وكاشفا عن طلاسيمه، بشكل سمح له بإنجاز دراسة قطاعية رائدة لا شك وأنها تعيد تقييم حقيقة قضية حضور حروب الريف التحريرية في الذاكرة المغربية الإسبانية المشتركة. ولتغطية جوانب الدراسة، قسم المؤلف عمله بين سبعة فصول مركزية، وتقديم منهجي، وتصنيف كرونولوجي للوقائع المفسرة لأسرار حرب الريف، ثم سلسلة فهارس خاصة بالوثائق المعتمدة وبالأعلام. وفي كل ذلك، انطلق من ضبط دقيق لموطن الأحداث بمنطقة الريف، ثم بسياقات المواجهات العسكرية الكبرى مثل دهار أبران وأنوال، وأخيرا بمصير «رجال إسبانيا» فوق الأرض المغربية، ممن ركبوا مغامرة الغزو والاحتلال.
إنها كتابة بصيغة مزدوجة، تستقرئ تفاصيل حرب الريف من جهة، وتبحث في واقع إسبانيا الذي صنع هذه الحرب، وتتتبع وقعها على صورة إسبانيا ولدى رجالها وعلى تأثيراتها على الحلم الإمبريالي الإيبيري من جهة ثانية. فهي بذلك، كتابة جريئة، لا تتردد في طرح الأسئلة المغيبة عن التداول الإعلامي الإسباني المعاصر للموضوع، اعتمادا على عدة منهجية محترمة وأدوات تنقيبية تأسيسية، لا شك وأنها تساهم في إعادة فتح صفحات حروب الريف التحريرية بشكل يسمح بتحقيق المصالحة الضرورية بين سياقاتها من جهة، وبين مواقف إسبان اليوم من وقائعها من جهة ثانية. وعلى الرغم من بعض المنزلقات التي تنفلت من بين متون الكتاب لأسباب متعددة، فالمؤكد أن العمل يعتبر إضافة هامة لمجال تراكم بيبليوغرافيا حروب الريف التحريرية، ومساهمة متميزة، لابد وأن تؤدي إلى تجديد رؤى الباحثين الإسبان نحو خبايا الموضوع، بعيدا عن الأحقاد الموروثة، وعن الاستنتاجات النمطية، وعن الخلاصات الجاهزة التي طبعت مواقف الإسبان ـ عموما ـ تجاه الكثير من قضايا العلاقات المغربية الإسبانية، قديما وحديثا.

2 ـ «أسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي»، لمحمد محمد عمر القاضي

صدرت الطبعة الثانية لكتاب «أسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي ـ مذكرات عن حرب الريف»، لمؤلفه محمد محمد عمر بلقاضي سنة 2006، في ما مجموعه 228 صفحة من الحجم المتوسط، بعد أن أصبحت نسخ الطبعة الأولى التي كانت قد صدرت سنة 1979 مفقودة في المكتبات ومحصورة التداول والانتشار بين الباحثين والمهتمين. ومعلوم أن هذا الكتاب قد ظل يكتسي قيمة كبرى في مجال الكتابات التذكرية الخاصة بملاحم حرب الريف التحريرية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي خلال عشرينيات القرن الماضي. وهي تندرج في سياق جهود رعيل الوطنيين الأبرار الذين عايشوا أو شاركوا في أحداث الريف البطولية، وعانوا من وقع ضريبة الانتماء «للمدرسة الخطابية» في السلوك وفي الموقف وفي الممارسة، وظلوا مخلصين للوفاء للقيم الإنسانية الراقية التي حملتها هذه المدرسة، باعتبارها إحدى أنبل حركات التحرر الوطني ضد جبروت الاستعمار. ورغم أن هذه الفئة من الكتاب لا تنتمي ـ بالضرورة ـ إلى مجال الاشتغال بالبحث التاريخي التخصصي، فإن وقع جحود مغاربة ما بعد الاستقلال السياسي، قد وضعهم أمام مسؤوليات وطنية كبرى مرتبطة بضرورة الإسراع بتدوين خبايا الذاكرة النضالية للريف العظيم، حتى لا تضيع داخل زحام تدافع الأهواء والمصالح والتطلعات.
كتاب «أسد الريف» يندرج في سياق هذا الجهد الوطني الأصيل، خاصة وأن صاحبه قد عايش الكثير من وقائع الحرب الريفية التحريرية وكانت له فرص الاحتكاك بأعلامها والتعرف على العديد من المنتسبين إليها. فهو من مواليد سنة 1901 ببني ورياغل بإقليم الحسيمة، تلقى تعليمه بمدن زرهون ومكناس وفاس، قبل أن يشارك في عدة معارك إلى جانب الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وخاصة معركتي ادهار أبران وأنوال. وقد كان موضع ثقة عند المجاهد الخطابي، فعينه في عدة مناصب، أهمها رئاسة المستودع العام لجمع الذخيرة والأسلحة، وإحصاء الأسرى وتنظيمهم، ومساعدة أمين المالية عبد السلام الخطابي. وبعد استسلام الأمير الخطابي سنة 1926، اختار الاستقرار بمدينة زرهون إلى جانب العديد من الأسر الريفية المهاجرة، حيث مكث هناك إلى حدود سنة 1950، تاريخ رجوعه إلى مسقط رأسه. وبعد الاستقلال، تعرض للاختطاف وللاعتقال بالمعتقل الرهيب المعروف بدار بريشة طيلة ستة أشهر من سنة 1956. وفارق الحياة سنة 1994 عن عمر يناهز 93 عاما، قضاها في العمل الوطني الصادق، وفي الإخلاص للانتماء لذكرى إحدى أبرز المحطات المشعة في تاريخنا النضالي المجيد.
وبخصوص السياق التاريخي الذي صدرت فيه الطبعة الأولى من الكتاب، فقد لخصه الدكتور علي الإدريسي بشكل دقيق في مقدمة الطبعة الثانية، عندما قال: «…إن تقديري للسيد محمد محمد عمر بلقاضي عظم بعد إطلاعي على مؤلفه، الذي أنجزه في زمن كانت اللغة الوحيدة المسموح بتداولها هي لغة تزييف التاريخ من جهة، ولغة التزلف للذين ورثوا سلطة الاستعمار وامتيازاته من جهة ثانية. وكان كل من حاول الكلام بلسان آخر تعرض هو وأسرته وأقاربه، بل وجهته الجغرافية لكل أنواع القمع والتهميش والإقصاء. وقد لا تعرف الأجيال اللاحقة واقع المغرب المستقل، لكن مصطلح «سنوات الرصاص» الذي أطلق على تلك المرحلة، قد يكون تلخيصا للأحوال التي عاشها المغاربة في دولتهم الوطنية. وهذا الكتاب الذي نقدمه تجرأ صاحبه، والجرأة في الحق من شيمه، فكتب بذكاء الذي يؤدي صلاة الخوف، وأشار إلى وقائع وأحداث كادت لغة تزييف التاريخ وسنوات الرصاص أن تخرجها من التراث النضالي للمغرب والمغاربة بالقذف بها إلى عالم النسيان والتلف، وتلك سياسة من لا تاريخ مشرف له…» ( ص. 7 ).
تتوزع مضامين كتاب «أسد الريف» بين ستة أبواب متراتبة، إلى جانب الكلمة التقديمية الأصلية للمؤلف وتقديم الطبعة الثانية الذي وضعه علي الإدريسي وكلمة ورثة المؤلف وشهادات لبعض معارفه حول القيمة التاريخية للكتاب. وقد افتتح المؤلف عمله بتقديم نبذة عن سيرته الشخصية وعن مساهماته في الحركة الريفية التحريرية، ثم انتقل في الباب الأول للحديث عن ظروف تمرد الفتان الدعي بوحمارة بمنطقة الريف الشرقي عند مطلع القرن 20 ورد فعل ساكنة المنطقة على ذلك. وفي الباب الثاني، حاول المؤلف التوثيق لردود فعل منطقة الريف تجاه هجوم الإسبان انطلاقا من مدينة مليلية لاكتساح القبائل المجاورة، مركزا بشكل خاص على العمل الجهادي الكبير الذي قام به كل من المجاهد محمد أمزيان والفقيه عبد الكريم الخطابي. أما في الباب الثالث، فقد انتقل للتعريف بنضال الأمير ***محمد بن عبد الكريم الخطابي، مبرزا تفاصيل كثيرة وغير متداولة حول المعارك الكبرى التي صنعت عطاء هذا النضال، من خلال الوقوف عند محطات غير معروفة في حروب الريف، وعند أسماء لفها النسيان رغم أن عطاءها كان كبيرا في ميدان الوطنية الحقة. وفي الباب الرابع، استفاض المؤلف في الحديث عن ظروف تولية امحمد الخطابي، شقيق الأمير، قيادة أركان الحرب الريفية. وهي الظروف المرتبطة ـ أساسا ـ باستفحال أمر القائد أحمد الريسوني بالجبهة الغربية وباضطراب رؤاه ومواقفه تجاه الاحتلال الإسباني لشمال المغرب، في ارتباط بالأطماع الشخصية للريسوني والتي سعى المؤلف إلى إبراز خباياها من خلال الارتكاز إلى وقائع محددة في زمانها وفي مكانها. أما في الباب الخامس، فقد تناول المؤلف بالبحث وبالتتبع ظروف دخول فرنسا في حربها ضد مجاهدي الريف، ثم ملابسات استسلام الأمير الخطابي بعد تطور شراسة الهجمة الاستعمارية ضد ساكنة منطقة الريف، وهي الهجمة التي بلغت أوجها بقصف المدنيين بالأسلحة الكيماوية الفتاكة. وفي الباب السادس والأخير، قام المؤلف بتجميع نتف من كتابات متعددة تناولت سيرة الأمير الخطابي، سواء خلال مرحلة النضال الميداني المباشر ضد الاستعمار، أو خلال مرحلة النفي بجزيرة لارينيون، أو خلال مرحلة الاستقرار بمصر منذ التجائه إليها سنة 1947، في الظروف التاريخية المعروفة.
وبذلك، استطاع الكتاب تقديم شهادة تكتسب قيمة تاريخية وأخلاقية أكيدة، بالنظر لأنها صادرة عن مجاهد وطني رافق جل مراحل الحرب الريفية التحريرية ولازم الأمير محمد بن عد الكريم الخطابي لفترة طويلة، الشيء الذي كان يسمح له بتتبع الأحداث عن قرب وفهم أسرارها، وبالنظر ـ كذلك ـ لأنه لم يكتف بالتجميع الكمي للمعلومات وللمعطيات الموزعة هنا وهناك بل كان يخضعها للتمحيص الدقيق الذي بلورته معايشته المباشرة للأحداث. لذلك، فإن هذه الشهادة أصبحت أحد أهم المصادر التأسيسية لتجميع جزئيات حروب الريف التحريرية، بوجوهها المميزة، وبملابساتها المتداخلة، وبامتداداتها الإنسانية الواسعة.

3 ـ «عبد الكريم والحماية» لخوسي ماريا كامبوس

ظلت قضايا حروب الريف التحريرية التي واجهت الغطرسة الإسبانية بشمال المغرب خلال النصف الثاني من القرن 19 والنصف الأول من القرن 20، تثير شهية قطاعات عريضة من الباحثين الإسبان ومن عموم المتتبعين بشبه الجزيرة الإيبيرية. وظلت الإصدارات ذات الصلة بهذه الحروب تعرف تواترا مستمرا ومنقطع النظير، بشكل لا نجد مثيلا له بالنسبة لأي مجال تاريخي مغربي آخر. لذلك، أمكن القول إن موضوع حروب الريف، سواء خلال حرب مليلية عند نهاية القرن 19 أو مع المواجهة الجهادية التي قادها الشريف محمد أمزيان عند بداية القرن 20 أو مع ملاحم النضال التحرري للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال المرحلة الموالية، قد استطاع التحول إلى مجال متجدد بامتياز في سياق جهود التوثيق لمنعرجات التاريخ الاستعماري الإسباني خلال العهود المعاصرة. ويقينا إن الكثير من التحولات السياسية الإسبانية الداخلية قد تأثرت، بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة، بمجمل التطورات الميدانية التي كانت تجري فوق أرض شمال المغرب، وتحديدا بمنطقة الريف. ونتيجة لذلك، كان لهذه الأحداث صداها لدى النخب ولدى صانعي القرار داخل الدهاليز السياسية والعسكرية لإسبانيا الاستعمارية، ولم يكن بالإمكان فهم خباياها إلا بالعودة للجذور « المغربية « التي أعادت تشكيل الوعي الإسباني تجاه واقعه الكولونيالي، في امتداداته المجتمعية والمؤسساتية الواسعة والمتداخلة. وارتباطا بذلك، أصبحت صورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي تمارس أقصى درجات الانبهار والجاذبية على إسبان الأمس واليوم، وظلت سيرة الرجل تحمل كل عبارات الإباء والشموخ في المخيال الجماعي لأعداء الأمس من جيراننا الإيبيريين. وعلى الرغم من كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول سقف الحدود العلمية للكتابات الإسبانية المعاصرة ذات الصلة بحروب الريف التحريرية، فالمؤكد أن الأمر يحمل عدة خصائص لا شك وأنها تساهم في إغناء مجال الدراسة في مجالاته المختلفة، وعلى رأسها توضيح الرؤى حول إبدالات التمثلات الإسبانية المعاصرة المرتبطة بحروب الريف وبالسير الملهمة لزعمائها ولقاداتها ولعموم مجاهديها.
في سياق هذا الاهتمام الإسباني المتجدد بقضايا حرب الريف، يندرج صدور كتاب «عبد الكريم والحماية» (بالإسبانية) لمؤلفه خوسي ماريا كامبوس، سنة 2000، في ما مجموعه 285 صفحة من الحجم الكبير. والمؤلف من مواليد مدينة سبتة السليبة، ومعروف باهتماماته الواسعة بدراسة قضايا نظام الحماية الإسباني بالمغرب، وأصدر الكثير من الأعمال بهذا الخصوص، عكست تقييماته لحصيلة الحضور الإسباني فوق الأرض المغربية عقب تفكك الآلة الاستعمارية الإسبانية بمنطقة أمريكا اللاتينية في الظروف التاريخية المعروفة. وقد توزع الكتاب موضوع هذا التقديم، بين ستة وعشرين فصلا، إلى جانب جملة من الخرائط التوضيحية والصور التوثيقية. في هذا الإطار، وبعد الكلمة التقديمية العامة، اهتم المؤلف بتقديم نظرة مركزة على تاريخ العمليات العسكرية الإسبانية بشمال المغرب خلال عهد الحماية، ثم انتقل لرصد «أخطاء» إسبانيا في جهودها لاحتلال المنطقة المغربية المذكورة. وعاد في الفصل الموالي لاستحضار الظروف التاريخية لحرب تطوان التي فرضتها إسبانيا على المغرب سنة 1859، قبل أن ينتقل لتتبع ردود الأفعال القاسية لسكان منطقة جبالة تجاه الغزو الإسباني للشمال، وتوسع في استعراض أبرز مراحل تطور الوجود الإسباني بمدينة شفشاون في سياق التدافع المستمر بين قوات المقاومة الريفية والقوات الإسبانية الغازية. بعد ذلك، انتقل المؤلف لتتبع أهم محطات تمهيد مجال الشمال أمام القوات الإسبانية، وانعكاس ذلك على الوضع العام بالمنطقة وعلى مراحل ترجمة فصول «المغامرة المغربية» التي تبنتها إسبانيا منذ مرحلة النصف الثاني من القرن 19. لذلك، وجدنا المؤلف يركز على الكثير من التفاصيل المرتبطة بوقائع هذه «المغامرة» وبانعكاساتها على إسبانيا والمغرب في نفس الآن، من قبيل تحركات أحمد الريسوني بشمال غرب المغرب، والوضع الدولي لمدينة طنجة، وسير كبار المسؤولين العسكريين الإسبان بالمغرب، وجزئيات «إدارة» ابن عبد الكريم الخطابي للصراع ضد الإسبان، وواقع الأسرى الإسبان بأجدير، ومعالم تميز أجهزة التسيير والتدبير المحليين التي أقرتها تنظيمات «الجمهورية الريفية»، ومصير الثورة الريفية مع هجوم ابن عبد الكريم على منطقة النفوذ الفرنسي بالمغرب، ثم استسلامه ونفيه سنة 1926 إلى جزيرة لارينيون في الظروف التاريخية المعروفة.
ورغم أن الكتاب قد سعى إلى التوثيق للمحطات الكبرى التي طبعت علاقة الأمير الخطابي بعمل إدارة الحماية الإسبانية بالمنطقة الخليفية، فإن المؤلف قد انزاح ـ في الكثير من الأحيان ـ نحو التوثيق لسير كبار القادة العسكريين الإسبان، لدرجة يتبادر إلى الذهن ـ معها ـ أن الهدف الرئيسي من الكتاب كان ينحصر في التعريف بهذه السير وفي تتبع تقلبات حياتها. وكل ما سوى ذلك، لم تكن إلا قضايا هامشية، انحصر دورها في تحديد أوجه المبادرة في هذه السير. ولعل هذا ما ينطبق على أشكال استحضار المؤلف لسيرة الأمير الخطابي، وكذلك لمجمل المعالم المكانية والبشرية المميزة لماضي منطقتي جبالة والريف. وإذا أضفنا إلى ذلك التغييب الكلي للكتابات المغربية المتخصصة في قضايا حروب الريف التحريرية، أمكننا استخلاص القيمة الحقيقية للكتاب ونوعية الإضافات التي يمكن أن يلحقها بمجال الدراسة. فباستثناء دراسة مغربية يتيمة للمؤرخ المغربي الراحل جرمان عياش، ومقتطفات من الموسوعة التاريخية العامة التي أنجزها العربي الصقلي، لا نجد أي أثر للرصيد المنجز في الجامعات المغربية والعالمية حول قضايا حرب الريف وسيرة بطلها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي. وحتى بالنسبة للبيبليوغرافيا الإسبانية التي اعتمدها المؤلف، فإن الكثير منها قد أصبح ـ الآن ـ متجاوزا بالنظر للتطورات الهائلة التي حققها البحث التاريخي المتخصص في واقع المنطقة الخليفية سواء داخل إسبانيا أو بفرنسا، مثلما هو الحال مع أعمال كل من ماريا روسا دي مادارياكا ودانييل ريفي. أما الحديث عن الوثائق الأصلية الموزعة بين المغرب وإسبانيا، وتجاوز الصورة الهلامية لتجربة الثورة الريفية، وإفرازات ذلك على «الوعي الشقي» لإسبانيي الأمس واليوم، فتلك قضايا تشكل ثغرات كبرى في متن الكتاب. ومع ذلك، فالعمل يساهم في توضيح رؤى النخب الإسبانية المعاصرة تجاه «ورطة» إسبانيا في شمال المغرب خلال العقود الأولى للقرن الماضي.

4 ـ «عبد الكريم والأسرى»، للويس دي أوتييثا

لازالت جاذبية موضوع حرب الريف تفرز كما هائلا من الأسئلة التي يتداخل فيها الواقع بالأسطورة، الخيال بالحقيقة، والرؤى الاستنباطية العلمية مع الضغط النفسي لأزمات الأمس ودورها في تحديد أوجه العلاقات الكائنة / والممكنة مع «الجار المغربي المقلق». لذلك، لا غرابة في أن تصبح قضايا المقاومة الريفية حدثا مركزيا في تحديد موقف إسبانيا المعاصرة من الكثير من الإشكالات العالقة في علاقاتها بالمغرب. وداخل هذا التوجه النفسي العارم، أمكن التمييز بين جهود التأصيل العلمي لمجالات الدراسة، وبين الأعمال الشوفينية المتسربلة بلبوس أكاديمية وظيفية، هي حصيلة جهود فك طلاسيم «العقدة المغربية» لدى الجار الإيبيري.
في سياق التوجه التأصيلي العلمي الذي بدأ يجد امتدادا واسعا له داخل الجامعات الإسبانية المعاصرة، يندرج صدور الطبعة الجديدة من كتاب «عبد الكريم والأسرى» (بالإسبانية)، لمؤلفه لويس دي أوتييثا، سنة 2000، في ما مجموعه 163 صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب، في الأصل، عبارة عن مذكرات صحافية أنجزها المؤلف في أوج حرب الريف خلال عشرينيات القرن الماضي، ونشرها في شكل كتاب مستقل تحت نفس العنوان خلال سنة 1922. فالأمر، بذلك، عبارة عن تدوين صحافي مرتبط بأحداث تاريخية معينة جمعت قيادة الثورة الريفية ودولة إسبانيا الغازية خلال المرحلة التاريخية المشار إليها. وعلى الرغم من طابعها الصحافي التقريري المباشر، فقد اكتست قيمة تاريخية كبرى في طرح موضوع الأسرى الإسبان لدى «الجمهورية الريفية»، وهو الموضوع الذي لم ينل نصيبه الكامل من البحث ومن التوثيق، ولازال يحمل في طياته الكثير من العتمات التي يمكن للكشف عنها أن يسلط المزيد من الضوء على إحدى دواليب «الإدارة الريفية» لمرحلة عشرينيات القرن 20. ولقد انتبهت المؤرخة ماريا روسا دي مادارياغا لهذه القيمة التاريخية الكبرى، وعكستها في تقديم مطول للكتاب، نجحت ـ من خلاله ـ في إعادة التعريف بالمؤلف، وبسياقات وضع الكتاب، ثم بإعادة تركيب وقائع الكتاب وفق نظرة علمية فاحصة اكتست قيمة تحليلية وتوثيقية رفيعة. وبالنسبة للنص الأصلي للكتاب، والذي ورد بعنوان فرعي معبر : «مذكرات صحفية من معسكر العدو»، فقد احتوى على تقديم عام لأنطونيو ثوثايا، ثم خمسة عشرة مادة تدوينية، هي خلاصة مشاهدات المؤلف داخل فضاء مركز أجدير وبين أحضان قبيلة بني ورياغل. وإذا كان المؤلف قد سعى ـ في مختلف فصول كتابه ـ إلى التعريف بظروف عيش الإسبان تحت الأسر، عبر الاتصال المباشر بهم، فإنه كثيرا ما كان ينزاح لوصف معالم البيئة الريفية وتنظيمات « الجمهورية الريفية «، ومعالم شخصية قادتها، وعلى رأسهم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. وفي كل ذلك، لابد أن نؤكد على القيمة الكبرى لمجمل الاتصالات التي جمعت المؤلف بالزعيم الريفي الكبير وبأقرب المقربين منه، اتصالات كشفت عن وجه إنساني عميق ظل متواريا خلف تواتر أحداث المواجهات العسكرية المباشرة.
ونظرا لطبيعة الكتابة الحوارية التي هيمنت على جل فصول الكتاب، لاحظنا غيابا شبه كلي لأي مصادر مكتوبة أو وثائق مدونة كان من المفروض أن تدعم مضامين متن الكتاب. ومرد ذلك، يعود ـ أساسا ـ إلى طبيعة الكتابة الصحافية الحوارية، المستندة إلى عطاء الرواية الشفوية المستقاة من عند الفاعلين الأساسيين لمجمل الوقائع المذكورة في الكتاب. هي إذن شهادات يمكن أن تعزز مجال الدراسة، وتعيد رسم معالم سير أبرز الشخصيات التي أثرت في المسار العام للمقاومة الريفية ضد الاحتلال الإسباني أولا، وضد التآمر الفرنسي ثانيا.
وإلى جانب ذلك، فالكتاب يبرز حقيقة المواقف الإسبانية المتضررة من الحرب الريفية والتي لم تكن لتجد لنفسها تعبيرات علنية، بسبب وقع الدعاية الاستعمارية للمرحلة، وبسبب أجواء التعبئة العامة التي فرضتها الدولة الإسبانية تحت يافطة «الإجماع العام لدعم مصالح الوطن». ويمكن للمتأمل في مذكرات لويس دي أويتيثا أن يستخلص الكثير من العناصر الدالة على بداية تململ روح «الإجماع» المزعوم، من خلال مواقف معبرة، وإن وردت بأصوات خافتة، لكبار المسؤولين العسكريين الإسبان الذين وقعوا أسرى لدى القوات الريفية. فشهاداتهم وحواراتهم مع المؤلف، تظل غنية بالتفاصيل التي لا نجد أثرا لها في الكتابات التصنيفية التقليدية الخاصة بحرب الريف. كما أن الصداقة العميقة التي أضحت تجمع بين الأمير الخطابي والصحافي لويس دي أويتيثا، قد جعلت المؤلف الذي كان مديرا لجريدة «لاليبيرتاد» الإسبانية، يحتفظ لنفسه بمسافة فاصلة عن أجواء التعبئة الرسمية الإسبانية ضد المقاومة الريفية. وقد حرص المؤلف على تأكيد صداقته مع الأمير الخطابي، من خلال نشر سلسلة من المراسلات المتبادلة بينهما، ومن خلال سلسلة الصور الفوتوغرافية التي تخللت متن الكتاب. لذلك، فإن الإسراع بترجمة مضامين الكتاب، سيقدم قيمة مضافة لحقل الدراسات الوطنية المعاصرة المتخصصة في حروب الريف التحريرية لمراحل العقود الأخيرة للقرن 19 والعقود الأولى للقرن 20.

5 ـ «في خندق الذئب»، لماريا روسا دي مادارياغا

صدرت الترجمة العربية لكتاب «في خندق الذئب– معارك المغرب» لمؤلفته الباحثة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا سنة 2010، وذلك بترجمة متميزة للدكتورة كنزة الغالي، وبتقديم لعبد الغني أبو العزم، في ما مجموعه 367 صفحة من الحجم الكبير. والكتاب إضافة هامة لرصيد المؤلفة في مجال البحث والتنقيب في خفايا حروب الريف التحريرية التي هزت أركان الاستعمار الإسباني بشمال المغرب خلال النصف الأول من القرن 20، وجعلت من محطات «أنوال» و»أبران» و»أغريبن» و»سلوان» و»جبل أعروي» و»خندق الذئب»… معالم كبرى بقيت عالقة بالذاكرة الجماعية لإسبان الأمس واليوم. فإلى جانب دلالاتها العميقة المرتبطة بتداعيات الهزيمة أمام مقاتلي الريف، استطاعت هذه الوقائع أن تثير الانتباه إلى الوجه الآخر للترسانة العسكرية البشرية الإسبانية المغمورة التي اكتوت بنار حرب الريف، وكذا إلى تباين وجهات نظر السياسيين والأحزاب الملكية وغيرها تجاه «مشكل المغرب»، وإلى موقف اليسار من التدخل العسكري وما ارتبط به من مظاهرات واحتجاجات عارمة انخرط فيها الرأي العام الإسباني منددا بالحرب ضد المغرب. وقبل هذا وذاك، فقد تبلور توجه عام تقوده ماريا روسا دي مادارياغا بين صفوف الباحثين والمؤرخين الإسبان المعاصرين، أصبح ينحو – باستمرار – نحو إعادة تقليب صفحات سيرة محمد بن عبد الكريم الخطابي، باعتبارها الشخصية الفريدة التي اختزلت بطولاتها الميدانية جوهر أزمات انكسار الآلة الاستعمارية الإسبانية خلال القرن الماضي. وعلى أساس ذلك، لاحظنا أن مجال البحث والتنقيب أضحى يفرز كما هائلا من الإصدارات التي حاولت تجاوز «الأزمة النفسية» الإسبانية المرتبطة بالموضوع، من خلال التأمل في مجمل وقائع المسار العام لشخصية ابن عبد الكريم الخطابي، وأسرار تحوله من «المورو صديق إسبانيا» إلى زعيم المقاومة الريفية للعقود الأولى لمرحلة فرض الحماية الاستعمارية الفرنسية والإسبانية على بلادنا.
وفي إطار هذا الانزياح المسترسل نحو العودة المستمرة و»العاطفية» لمقاربة قضايا حروب الريف التحريرية، يبرز اسم ماريا روسا دي مادارياغا كرائدة للبحث وللتنقيب، ليس فقط بالنظر لقيمة ما أصدرته بهذا الخصوص، وخاصة كتابها «إسبانيا والريف: أحداث تاريخ شبه منسي» ( 2000 ) وكتاب «مغاربة في خدمة فرانكو» ( 2002 ) ثم كتاب «في خندق الذئب– حروب المغرب» ( 2005 )، ولكن – كذلك – بالنظر لعمق مقارباتها التحليلية لخبايا الموضوع، ولنجاحها في التخلص من ثقل الرؤى النمطية الوطنية الشوفينية التي تناقلتها الإسطوغرافيات الكلاسيكية المتجددة بإسبانيا على امتداد عقود القرن الماضي. لقد استطاعت هذه الباحثة أن تكتسب الكثير من عناصر التميز، بالنظر لجرأتها العلمية أولا، ولإصرارها على عدم الاستكانة للأحكام الاستنساخية الإسبانية الجاهزة حول حرب الريف ثانيا، ولاعتمادها على رصيد وثائقي غني ومتنوع وعلى رصيد بيبليوغرافي متكامل ثالثا، ولتوظيفها لأدوات نقدية صارمة في مختلف أشكال تعاطيها مع المادة المصدرية الخاصة بالموضوع رابعا.
ولقد استطاعت الكلمة التقديمية للترجمة العربية للكتاب، والتي وضعها عبد الغني أبو العزم، أن تكشف عن تمظهرات هذا التوجه الرصين في البحث وفي التحليل وفي التركيب، حيث يقول صاحبها: «…إننا إزاء مؤلف تاريخي يعتمد الوثيقة في أدق تفاصيلها، ويعيد لها مكانتها العلمية في العملية التأريخية، لكونها تكشف عن خلفية واضعها: نفسيا وسوسيولوجيا، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ومدى تأثيرها على حياة الناس، هذا بالإضافة إلى ما تحتويه من الأسرار الكامنة بين ثناياها، وما تتضمنه من أهداف يرجى تحقيقها، سواء تعلق الأمر بتكتيك ما أو خطة استراتيجية بعيدة المدى.
وفوق هذا وذاك لم يكن اعتماد الوثيقة عند الباحثة ماريا روسا يقف عند مجرد رصد الأحداث والمعارك وتتابعها، بل كانت على الدوام تسعى لفهم وتحليل الظروف والملابسات المحيطة بها، والعوامل التي كانت وراء إنتاجها، ومقابلة الآراء المتناقضة. وهذا بالذات ما يؤدي بالضرورة إلى إظهار الحقيقة التاريخية بكل تجلياتها كمقدمة للتعبير عن الموقف السليم من الأحداث في سياقها التاريخي … وما يعطي قيمة لهذا التوجه المعتمد على الوثيقة التاريخية، الاهتمام في آن واحد بالشهادات الشفوية، وما ترسب في الذاكرة الشعبية التي سجلت الحدث، وما تناقلته الأجيال بعد ذلك، لكونها معبرة عن الإرهاصات والتمخضات والمعاناة بكل آثارها الكامنة في النفوس والعواطف ومدى فعاليتها في اتخاذ المواقف الآنية واللاحقة.
تشكل أبحاث الأستاذة ماريا روسا بهذا المنحى مادة وثائقية لمجريات الحرب الريفية بكل تفاصيلها، لما تتميز به من وفرة الوثائق مختلفة الاتجاهات…، إذ لم تكتف بالتقارير العسكرية والبرلمانية، والنشرات والدوريات والمناشير، ودلالات الشعارات، ومراسلات مراسلي الصحف، والمقالات والمراسيم الرسمية، إذ امتد بحثها إلى أرشيف الذاكرة الشعبية، وما ظل راسبا فيها، وذلك للوقوف عند معاناة الزوجات والأمهات والآباء نتيجة الحرب الطاحنة التي عرفتها منطقة الريف، الأمر الذي مازال عالقا بالأذهان وتتداوله الحكايات والأغاني لارتباطها بذكريات أليمة وجراحات لم تندمل بعد. لقد ظل هم الباحثة ماريا روسا في كل فصول هذا الكتاب … ينحصر في محاولة جادة لإبراز الحقائق المرة التي عاشها الجيش الإسباني في بقاع الريف، وإظهار ما كانت عليه الأوضاع المهترئة، وما تخلل ذلك من فساد وارتشاء وتآمر وحقد وضغائن بين قياداته في كل أجهزته العليا والسفلى على حد سواء، وما قامت به الفيالق بمراتبها العسكرية من مجازر أدت إلى استعمال الغازات السامة الماحقة التي تحرمها كل المواثيق الدولية، في مواجهة أشرس مقاومة وطنية وشعبية بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، تجاوز صداها الإطار المغربي لتصل إلى أرجاء المعمورة شرقا وغربا…» ( ص ص. 8 – 9 ).
ولمقاربة هذه الملابسات، حرصت المؤلفة على تقسيم كتابها بين تسعة أقسام متكاملة، إلى جانب تقديم تركيبي وملاحق بيبليوغرافية وأخرى خاصة بالصور الفوتوغرافية وبالأعلام البشرية المذكورة في الكتاب. ففي القسم الأول، عادت المؤلفة لإثارة ظروف حربي تطوان ومليلية اللتين خاضتهما إسبانيا فوق الأرض المغربية خلال القرن 19، وانتقلت في القسم الثاني للبحث في حيثيات حروب إسبانيا بالريف خلال المرحلة المتراوحة بين سنتي 1900 و1912، ثم اهتمت في القسم الثالث بالكشف عن تفاصيل تركيبة المجتمع الريفي العشائري وكذا عن طرق الاستقطاب السياسي التي نهجها الإسبان تجاه المتعاونين وتمظهرات حركات المقاومة الجنينية الأولى بالمنطقة. وفي القسم الرابع، توقفت المؤلفة طويلا عند الهزيمة الاستعمارية القاسية التي تكبدتها إسبانيا بالمغرب خلال سنة 1921، في مواجهات عسكرية حاسمة، من أشهرها أغريبن وأنوال وجبل أعروي. وارتباطا بهذا الموضوع، تتبعت المؤلفة في القسم الخامس، ردود أفعال الرأي العام الإسباني تجاه حروب الريف، مميزة في ذلك بين مواقف كل من الأحزاب الملكية والأحزاب الجمهورية والعمالية والأحزاب القومية الباسكية والكطلانية.
وفي القسم السادس من الكتاب، عادت المؤلفة لتتبع تداعيات النقاش الوطني العارم الذي عرفته إسبانيا بخصوص موضوع الأسرى الإسبان لدى قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي.
واهتمت في القسم السابع بأوضاع قوات الحملات العسكرية وبهيئة الضباط الإسبان، وعادت في القسم الثامن لرصد نتائج الهزيمة في أنوال على مستوى مجمل المسار التوسعي الاستعماري الإسباني بشمال المغرب.
وفي القسم التاسع والأخير من الكتاب، توقفت المؤلفة طويلا لإعادة رسم معالم المحطات الكبرى في المسار الجهادي لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، متتبعة الكثير من التفاصيل التي ارتبطت بهذا المسار، منذ بداية الإرهاصات الأولى للوعي الوطني لدى هذا المجاهد الفذ، وإلى حين الإعلان عن استسلامه سنة 1926 و «إقرار السلم» في الريف.
وفي كل هذه المحطات المتداخلة، لم تستكن ماريا روسا دي مادارياغا، للتخريجات السهلة ولا للاجترارات الحدثية المتداولة، بل ظلت حريصة على مساءلة المظان وعلى استنطاق الوثائق وعلى فحص الروايات الشفوية والمواكبات الصحافية. وبذلك أمكنها اكتساب العديد من عناصر الاحترام العلمي الخالص، على الرغم من كل ما يمكن التنبيه إليه من انزياحات ومن تأويلات غير دقيقة، تبقى – في نهاية المطاف – جزء من رصيد أي منجز علمي كيفما كان مستواه.
وإذا أضفنا إلى ذلك قيمة الترجمة العربية التي أنجزتها كنزة الغالي، أمكن القول إن كتاب «في خندق الذئب– معارك المغرب» يظل أحد أبرز الإصدارات العلمية المعاصرة الوطنية والدولية، ذات الصلة بتحولات الصراع المغربي الإسباني فوق أرض الريف خلال النصف الأول من القرن 20، ليس فقط على مستوى تحليل تواتر الوقائع والأحداث، ولكن – كذلك – على مستوى الانعكاسات البعيدة المدى التي أفرزتها مواقف النخب الإسبانية وردود الأفعال السياسية والاجتماعية التي ارتبطت بذلك، وهي المواقف التي لازلنا نعيش تداعياتها إلى يومنا هذا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 20/07/2021