“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل -12- في المنزل، بين التَّوتُّرِ و العزلة

عَنْ دارِ»لوسوي/ Seuil»، سنةَ 2009، أصدرتِ الباحثةُ السوسيًولوجيَّة «دانيال لينهارت/ Danl Linhart» كتاباً بعنوان «أنْ تعملَ دُونَ الآخرين؟» ( استفهامٌ بصيغةٍ استنكاريَّة)، وخِلالَهُ كانتْ وَصَفَتْ تراجعاً نرجسيّاً، حيثُ يُعَوِّضُ التَّنَافُسُ غالباً التَّضَامُنَ بين المأْجُورين.
لقد عَمَدَ العملُ عن بعدٍ إلى تصعيدِ منطقِ تفتيتِ العمل، كلُّ واحدٍ في منزلِهِ، لم يَعُدْ بإمكانِ المأْجورينَ أنْ يَلْتَقُوا بكيفيَّةٍ طارئة قصدَ التَّداوُلِ في شروطِ العملِ. أو للتَّنْسيقِ بهدفِ تقديمِ ملفَّاتٍ مَطْلَبِيَّةٍ مُحْتَمَلَة.
تُحَلِّلُ الباحثةُ السوسيولوجيَّةُ أخطارَ هذا التَّباعُد قائلةً»العملُ عن بعدٍ نمطُ اشتغالٍ يتعارضُ مع النَشاطِ السيَّاسيّ و الاجتماعيّ و مع النَّشاطِ النَّقابيّ على سبيلِ المثال. إنْ كنتَ ترغبُ في أنْ تعزِلَ، وتشذُرَ، و تفصِلَ، فتلك هي الطَّريقةُ المُثْلى للقيَّامِ بذلك، لأنَّنا لا نَمْلِكُ الإحساسَ بأنَّنا موضوعُ هيمنةٍ».
يُعَزِّزُ العملُ عن بعدٍ إذنْ سُلْطَةَ المُشَغِّلِ ويَصْدُقُ على المَثَلِ القديمِ « فَرِّقْ لِكَيْ تَسُودَ جيِّداً»، إذا كان العملُ عن بعدٍ يقدِّم أحياناً الإمكانيةَ المريحةَ لِأَنْ تُجيبَ عن الإيمايْلاتِ دونَ أنْ تًغادرَ سريرَكَ، أو لِأَنْ تَذَّخِرَ وقتَ مواصلاتٍ مُمِلٍّ، فإنَّهُ يُمْكِنُ أيضاً أنْ يَقْذِفَ بالشَّخصِ داخلَ تَوَتُّرٍ دائمٍ، بَلْ و يمضي به قُدُماً داخلَ حالةٍ من الاختلالِ النفسيّ. فهذا تقريرٌ لهيئةِ الأُممِ المتَّحدة، يشيرُ إلى أنَّ 41% من العمَّال عن بعد، يسجِّلُونَ منذ 2017 مستوياتٍ عاليَّةٍ من التوتُّرِ، بالقيَّاسِ إلى 25% من المستخدَمينَ الَّذينَ يُزاوِلون عَمَلَهُم مباشَرةً داخلَ مقارِّ الخِدْمَة.
هنالكَ، بِمُفْرَدِه، يغدو العاملُ أحياناً حسَّاساً وضعيفاً، فالوضعُ يَتْرُكُ الفرصةَ مواتيَّةً لكلِّ أشكالِ الالتباس وسوءِ الفهمِ. وكما تحلِّلُ ذلك مرَّةً أُخْرى الباحثةُ السوسيولوجيَّةُ «إيڨا إيلوز»: « فإنَّ كلّ علاقاتِنَا تقريباً مؤسَّسَةٌ على التَّقاربِ الجسديّ، وهو ما يَسْمَحُ بِفَكِّ شيفرةِ انفعالاتِ الآخرينَ الدَّقيقَة ويجعلُ التَّفَاعُلَ متناغِماً عبر لعبةِ المرآةِ و المُحاكَاة «.
نَحْنُ أمامَ الشَّاشة، بصعوبةٍ نَسْتَشْعِرُ ملامحَ المرحِ ونفقِدُ كميَّةَ المعلوماتِ غير اللَّفْظِيَّةَ. وتلكَ وضعيَّةٌ يُمْكِنُ أنْ تُفَاقِمَ حالةَ الفُصَامِ(البارانويا )لدى المستَخْدَمِ وتُقَوِّضَ نفسيَّتَهُ. إذا ظلَّ المُسْتَخْدَمُ وحيداً دوماً في منزِلِهِ، فكيفَ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ لَدَيْهِ روحُ الفريقِ، أو رُؤيةٌ شاملةٌ حولَ مَهَمَّتِه؟ حتَّى وإنْ تبدَّتْ لنا سخيفةً تلكَ المُحادثات، ونَحْنُ مُتَحَلِّقُونَ حولَ آلةِ القهْوة، فإنَّها تُسْهِمُ في ترسيخِ اللُّحْمَةِ الاجتماعيَّة بين الزُّمَلاء. أنْ نتحدَّثَ عَنِ المطر، وعَنِ الطَّقسِ الجميلِ، أو عن آخِرِ عطلةِ نهايةِ الأسبوع، فذاك ما يُبَلْوِرُ مناخاً من الثِّقةِ ضروريّ لِأَنْ نَسْتَعْرِضَ بعدَ ذلك أسئلةً أكثرُ جِدِّيَةً.
بعضُ الأفكارِ البنَّاءَةِ بالنِّسبة إلى المقاولة يُمْكِنُ أنْ تَنْبَثِقَ منْ تَحَلُّقٍ حولَ كأسِ قهْوةٍ، أو مِنْ لقاءٍ غيرُ مُتَوَقَّعٍ بينَ مَصْلَحَتَينِ مختلفتين. هذا ما يؤكِّدُهُ «إيريك غواطا/Eric Goata»، مديرُ مكتبِ مكافحةِ الأخطارِ النفسيَّةِ والاجتماعيَّة : «يتحدَّثُ المأجورُونَ عنِ الإهمالِ، والعُزْلَةِ، والضَّغطِ الذِّهنيِّ المرتبِطِ بالعددِ الهائلِ من البياناتِ المطروحةِ للمعالَجة، وعَنْ عِبْءِ العملِ، وعنْ صعوبةِ التَّعاونِ مع الزُّملاء، وعن استحالةِ التَّوفيقِ بينَ الحياتَيْنِ، الخاصَّةِ و المِهَنيَّة «.
تطبيقاتُ « المناظرة بالفيديو / Visio Conference «، هي الأداةُ الرئيسةُ في العملِ عن بعدٍ، كاميرا مشغَّلَة باستمرارٍ تَقْتَرِحُ عَرْضاً متواصلاً لاجتماعاتٍ بالفيديو، مئاتُ السَّاعاتِ من المحادثاتِ في غيَّاب وَضْعِيَّةِ «وجها – لوجه» الواقعيَّة. كاميرا مُصَوَّبَةٌ نَحْوَ الحَيِّزِ الشَّخصيّ، حيثُ يُلازِمُ المُسْتَخْدَمُ إحساسٌ بالخضوعِ الدَّائمِ للمراقَبَةِ.

« زوم «، حول تقنيَّة المراقَبة بالفيديو
سريعاً فَرَضَتْ تقنيَّةُ التَّدَاوُلِ بالفيديو «200 M». وهي تطبيقٌ كاليفورني، نفسَها كعلاجٍ فعَّالٍ لعُزْلتِنا. كان وراءَ إحداثِ هذه المقاولة النَّاشئة، «Start – Up»، المقاولُ الصِّينيّ «إيريك يووان/ Eric Yuan» الَّذي حازَ الجنسيَّةَ الأمريكيَّة. تطبيقُهُ هذا، والَّذي كان قَبْلَ الأزمةِ الصِّحِّيَّةِ أقلَّ شُهْرَةٍ، تَضَاعَفَ بعشرينَ مرَّة، خلالَ ثلاثةِ أَشْهُرٍ فقط، داخلَ أوساطِ المُسْتَخْدِمينَ اليوميِّين.
غَيْرَ أنَّ هذا العلاج، ومِنْ بابِ التَّنْبيهِ، يقدِّمُ مجموعةً من الأعراضِ الجانبيَّةِ غَيْرُ المرغوبة على حسابِ أَمْنِ التَّبادلات. حوالي 530 ألف حساب « زوم « بالإيمايلات وكلماتِ المرورِ، كانت خلالَ شهرِ أبريل معروضةً للبيعِ على «الدارك – ويب/ Dark Web»، الواجهةُ السِّرْدَابِيَّةُ للنِّتْ. كانت «زوم» أيضاً في قلبِ فضيحةٍ أُخْرى : نقلُ البياناتِ الشَّخصيَّةِ إلى «فايسبوك».
فالمقاولات كَمَا المصالحُ الَّتي سارَعَتْ إلى تشغيلِ هذا التَّطبيق، غامَرَتْ بتعريضِ محادثاتِها بسهولةٍ للقرصنةِ،وهي الظَّاهرةُ الَّتي تفاقمتْ إلى حدِّ تخصيصِ تَسْمِيَّةٍ لها، «الهاكرز، أو مُخْتَرِقُو تطبيقِ « زوم» / Le Zoombombing «. يتعلَّقُ الأمرُ ببعضِ المُتَذَاكِينَ الَّذين يتسلَّلُونَ إلى الاجتماعاتِ الخاصَّة، أو داخلَ حجراتِ الدَّرسِ الافتراضية في المَنزلِ، لبثِّ مُحْتَوياتٍ إباحيَّة (بورنوغرافية)، أو عنصريَّة، أو حاقدة.
كَرَدِّ فِعْلٍ إزَاءَ ذلك، نَصَحَ القطاعُ التربويُّ بمدينةِ نيويورك، والإدارةُ الفرنسيَّةُ، والحكومةُ الأستراليَّة، و كذا حكومةُ التَّايوان، بالإقلاعِ عن استعمالِ هذا التَّطبيقِ. فهو لا يُقَدِّمُ أيَّ خدمةٍ، تَأْميناً لتشفيرٍ متكاملٍ للتَّبادُلاَت، ممَّا يُتيحُ قرصنةَ كاملِ الاجتماعاتِ الخاصَّةِ الَّتي تُقَامُعبر تقنيَّةِ الفيديو.
إخلاصاً منه للاستراتيجيَّات المُعْتَادَةِ في الدِّفَاعِ عن نفسِهِ، قدَّمَ تطبيقُ «زوم» اعتذاره قَبْلَ أنْ يتعهَّدَ بتحسينِ الخِدْمَة. «نعترفُ أنَّنا لم نَسْتَجِبْ لانتظاراتِ المجموعة، ولا لانتظاراتِنا في ما يتَّصلُ بأمنِ واحترامِ الحياةِ الخاصَّةِ، كما صرَّح بذلك «إيريك يووان / Eric Yuan». في مقابلِ ذلكَ، سَمَحَ تطبيقُ «زوم» للسيِّد»أليكس ستاموس/Alex Stamos»، بأنْ يَشْغَلَ مَنْصِبِ مستشار. يتعلَّقُ الأمٌر بالمسؤولِ السَّابقِ عن أمنِ «فايسبوك»، وبالنَّظَرِ إلى بياناتِ هذه الشَّبكة، فلستُ واثقاً إنْ كان الأمرُ مُطَمْئِناً !أَبْدَتِ المصالحُ الأمريكيَّةُ أيضاً قَلَقَها بشأنِ تقاربِ التَّطبيقِ مع «بكين / Pekin». وبطلبٍ من النِّظامِ اعترفَ تطبيقُ «زوم» بِوَضْعِهِ حدّاً لبعضِ الإجتماعاتِ المنْعقِدَة عبرَ تقنيَّةِ «المناظرة بالفيديو»، والَّتي أُقيمَتْ بالصِّينِ تخليداً لذكرى مجزرةِ ميدان «تيانامن/Tian Ammen».
عَلَّقَ»زوم» أيضاً، وحسبَ ما أَوْرَدَتْهُ «نيويورك تايمز»، حساباتَ مُناصريّ المنظَّمةِ الأمريكيَّةِ لِلْمَنْفِيِّينَ الصِّينيِّين. فضلاً عنْ أنَّهُ يبقى معرَّضاً للتَّهديداتِ الخارجيَّةِ بالقرصنة، فالعاملُ عن بعدٍ يجدُ نفسَهُ أيضاً خاضعاً لسيطرةِ رئيسهِ المباشِرَة، والَّذي يُمْكِنُهُ العودةُ إلى خَيَارِ»تَتَبُّعِ الإنتباه/ Suivi D’attention» كما أرساه تطبيق «زوم « خيارٌ يسمحُ لِمُنَظِّمِ المحادثةِ بمعرفةِ إذا ما كان أحدُ المشاركينَ قدْ غادرَ»نافذةَ النِّقاشِ» خلالَ أَزْيَدَ مِنْ ثلاثينَ ثانيَّة.
نظامُ مراقبةٍ مبالغٌ فيهِ، تَمَّ تعطيلُهُ بضغطٍ من المُسْتَخْدِمين، على أنَّ ذلك لا يَحُولُ دُونَ اللُّجوءِ إلى أشكالِ تلصُّصٍ أُخْرى أكثر.
عَرِفَ التَّطبيقُ الأمريكيّ «Hubs Taff»، بدءاً منَ الأزمةِ الصِّحِّيَّةِ، استعمالاً تَضَاعفَ لثلاثِ مرَّاتٍ عمَّا كان عليهِ قبلَ الجائحة. تطبيقٌ قادرٌ على تسجيلِ حركاتِ فأرةِ الحاسوبِ، ولوحةِ المفاتيحِ، وعلى أخْذِ لقطاتٍ بالشَّاشةِ في فتراتٍ عشوائيَّةٍ. التطبيقُ ليسَ إلاَّ حلًّا واحداً من بينِ جُمْلَةِ حلولٍ أُخْرى عديدة»Activ Trak ; Inter Guard ; Desk Time»، و كُلُّها رُهْنَ إشارةِ رؤساءَ فرقٍ فقدوا الثِّقَةَ.
داخلَ المَنْزِلِ على ما يبدو، وعلى نحوٍ مفارقٍ، يَكُونُ الموظَّفُ – الإطارُ وحيداً، عُرْضَةً للمراقبةِ وفريسةً للتَّوتُرِ. وإذا كان العملُ عن بعدٍ يَسْتَهْدِفُ مَسَاسَ مستخدميْ قطاعِ الخدماتِ ذَوِي الامتياز، فإنَّ الأشدُ عَوَزاً يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ في الصُّفوفِ الأماميَّةِ مَهْمَا كَلَّفَ الثَّمَن.


الكاتب : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 25/03/2024