محمد إبراهيم بوعلو : الصّامت الذي لا يتوقف عن الكلام

تعرفت على الأستاذ والزميل محمد إبراهيم بوعلو (1938-2010) في ستينيات القرن الماضي، ضمن المجموعة المؤسسة لمجلة «أقلام»، أقصد المرحومين محمد عابد الجابري (1935-2010) وأحمد السطاتي (1935-2006) والأخ عبد الرحمن بنعمرو. وقد حملت المجلة على عاتقها بناء مشروع يحتضن بدايات الثقافة الجديدة في مغرب ما بعد الاستقلال. وعندما التحقت بقسم الفلسفة طالباً نهاية الستينيات، أصبح أستاذي بمعية مجموعة قليلة من الأساتذة، محمد عزيز الحبابي، نجيب بلدي، علي أومليل، زبيدة بورحيل، محمد عابد الجابري والطاهر واعزيز.. ولم يكن يتردد في دعوة الطلبة للكتابة في مجلة أقلام، وتشجيعهم على القيام بذلك. وأذكر في هذا السياق، أنني نشرت في أعداد المجلة الأولى سنة 1970 مقالة عن أحد دواوين الشعر المغربي، كما نشرت مقالات أخرى في الشكل الجديد الذي اتخذته المجلة بعد ذلك، نهاية سبعينيات وخلال ثمانينيات القرن الماضي. ولابد من الإقرار هنا، بأن المجلة كانت تشكّل بالنسبة للأجيال الجديدة من الكتاب والمبدعين المغاربة، الأفق المفتوح أمام تجاربهم في الكتابة والبحث.
كان المرحوم مع العميد محمد عزيز الحبابي من مؤسسي اتحاد كتاب المغرب بداية الستينيات، وقد عُرِف بمساهمته الرائدة في كتابة القصة والمسرح والقصة القصيرة جداً، كما كتب السيناريو، ورغم أنه كان مُقلاًّ واكتفى بنشر مجموعتين قصصيتين، مجموعة «السقف» ومجموعة «الحوت والصياد»، إلا أن تجربته في هذا الباب تُعَدّ من التجارب الرائدة في الثقافة المغربية. لقد كان حاضراً في زمن لم يكن فيه عدد المبدعين المغاربة في مجالات الإبداع المختلفة كثيراً. وعندما توقفت أقلام عن الصدور لم يفتر حماسه للعمل الثقافي، فأصدر مع رفيق دربه في الدراسة والتدريس محمد عابد الجابري والأستاذ عبد السلام بنعبد العالي مجلة «فكر ونقد» سنة 1997.
نتبين مما أشرنا إليه، أن بوعلو اختار لنفسه طريقاً وَضَعَهُ في قلب الثقافة والإبداع المغربيين دون ضجيج. وقد أنشأ أيضاً، مجلة أخرى بعنوان «القصة والمسرح» سنة 1964، رغم أنها لم تُعَمّر طويلاً، أنشأها مع كل من المرحومين عبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري والأخوين محمد برادة وعلي أومليل. وطيلة إشرافه على إصدار مجلة «أقلام»،عمل على إصدار مجلة للأطفال بعنوان «أزهار»، مجلة مخصصة للصغار، مع حرص كبير على عنايته الخاصة بالرسوم المرفقة بمحتوياتها. كما عمل على إصدار «المجلة الصحية»، بروح ترى في المعرفة العلمية طريقاً لتوسيع مساحة المعارف العلمية في الثقافة المغربية.
كان بوعلو يشتغل بِصَمت ويَحمل كثيراً من علامات الزهد، وحافزه في مختلف المهام التي تحمس لها، وقام بها بكثير من الإخلاص، إيمانه الكبير بأدوار الثقافة الجديدة في استكمال التحرير والتغيير في مجتمعنا.
ظل يشتغل عن بعد بأدوات بسيطة، ويتطلع لإنجاز مشروع كبير في الثقافة المغربية. وعندما التحقت للتدريس بالكلية منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان رئيساً لشعبة الفلسفة، وقد اشتغلنا معاً ما يقرب من ثلاثة عقود، عرفت خلالها المرحوم فاعلاً حاضراً في مختلف القضايا المرتبطة بالشعبة وأدوارها المعرفية والبيداغوجية، بجوار فاعلين آخرين تجمعه بهم علاقة صداقة معرفية وسياسية، بكل ما يحمله تاريخ هذه العلاقة من مواقف وتجارب وخلاصات. وبعد وفاة كل من أحمد السطاتي ومحمد عابد الجابري، وهما معاً من أهم أصدقائه، كنت دائماً أسأل نفسي عن مصيره.. كانوا يشتركون في النظرة إلى جوانب عديدة من الحياة، يتحدثون لغة مشتركة، ويرسمون المعالم الكبرى لعالمٍ ينشأ بجوار تطلعاتهم..
أتصوّر أن الجامع الأكبر بين الثلاثة لا يتمثل في دراستهم المشتركة للفلسفة، ولا في المجلات الثقافية التي ساهم كل منهم بطريقته الخاصة في احتضانها، والعمل من أجل أن يكون لها الحضور والإشعاع الذي يتطلع إليه، إن الجامع الناظم لعلاقة صَداقةِ العمر بينهم يتمثل في المسعى الوطني التقدمي الذي شكل الموجه الحاسم في حياة كل منهم.. وهكذا تمثل كل منهم طيف الآخر، وركَّب كلٌّ منهم قَسَمَات دربه بطريقته الخاصة. نقرأ علامات ما أشرنا إليه، في محتويات الأعداد الأولى لمجلة «أقلام»، ونُعَايِنُه بوضوح أكبر في مجلة «فكر ونقد».
تكشف الآثار التي رسم محمد إبراهيم بوعلو رغم قلتها ميوله الفنية المفتوحة، ففي مجلة «أزهار» و»المجلة الصحية»، يمكن أن نفكر في تطلعاته الرامية إلى النهوض بالثقافة المغربية وتوسيع مجالات حضورها. ولا نتردد في القول بأن الرجل كان يطمح لتوسيع دوائر إسهامه في المسرح والسينما، وذلك بكتابة مسرحيات وإعداد سيناريوهات وكذا إعداد أماكن داخل بيته، اهتم فيها بجمع كثير من لوازم السينما والمسرح.. كان يعد العدّة لإخراج الدمى المتحركة، بكل ما يتطلب ذلك من أدوات وتقنيات.. كان يعرف حدوده ويعرف في الآن نفسه أنه لا حدود لوطنيته وطموحه الفني. وقد اختار أسلوباً محدداً في العمل، أنجز ما أنجز دون ادعاء ودون رغبة في تلميع صورته، يلتقي بالمرحومين أحمد السطاتي ومحمد عابد الجابري للقيام برسالة أقلام، يرسم كل منهم لنفسه طريقاً، وقد شاءت الصدف أن يتم اللقاء بينهم داخل هذا الطريق.
وصفت الرجل في عنوان هذه الكلمة بالصَّامت، رغم أنني أعرف أنه كان لا يتوقف عن الكلام، سواء في قاعات الدرس في الجامعة أو في اجتماعات الشعبة، أو الاجتماعات المرتبطة بتحرير المجلات التي كان عضواَ مؤسساً لها. إنه الصّامت الذي لا يتحدث إلا في الوقت المناسب وباختصار شديد.. وكنت أتساءل بعد وفاة السطاتي والجابري مع من يتكلم اليوم؟ ولم أتمكن من الجواب عن هذا السؤال إلى أن سمعت بخبر وفاته..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 01/03/2024