هو الإنسان المتعدد المواهب والمتفرد في الحياة، عاشها بشغف طفولي، واجهها بابتسامة دائمة وصبر، وفي كثير من الأحيان باللامبالاة حد النسيان.
هكذا عرفت الصديق الدكتورعثمان بعيد ، ولد اللقاء الأول ونحن واقفون مع ثلة من المشاغبين الدائمين، منهم من يمارس لغة الحديث ومنهم من يمارس لغة النكت ومنهم من يروي الحكايات القديمة والأساطير، وأنا أمارس صمتي وأراقبهم، في مكان من بين العديد من الأمكنة التي تجمع وتستقبل الأصدقاء والعائلة معا .
بدأ لقاؤنا الأول والأخير، بعد أن أخذ المبادرة وتقرب مني أنا المنزوي دائما، أتأمل وأحمل الجميع في قلبي وعيني وأسيجهم بروحي، هكذا بدأ الحديث بلغة القلب عن ذكرياته وعن أشياء عاشها وعايشها ويعيشها، كأنه يحاول أن يداويني من مرضي الصامت، وأنا أنصت له وأروي له بعض الطرائف والحكايات التي عشناها في مدرسة الشبيبة الاتحادية والعمل النقابي والعمل الجمعوي (الضواسة) .
عثمان، ابن بار للمدينة العمالية الدار البيضاء، عاش وترعرع في الحي المحمدي مدينة المجموعات الغنائية والفنانيين والمسرحيين، عاشق للأغاني الملتزمة حد الجنون (يؤدي أغاني الشيخ إمام بصوت جميل ورائع ..) ، يغني الأغاني المغربية الأصيلة التي غنتها قامات مغربية كبيرة (محمد الحياني – عبد الوهاب الدكالي – عبد الهادي بلخياط – نعيمة سميح …) .
رياضي بامتياز، مارس كرة القدم في طفولته « شوف أ مصطفى كنت كويري واعر وكوشي ( يلعب بالرجل اليسرى ) ، كون اخترت لعبة كرة القدم كون مشيت بعيد» ، يقول ضاحكا.
بقي وفيا حد الجنون للعبة كرة القدم، «ودادي» و»برصاوي « . شغوف ومتتبع للبطولات الوطنية والأجنبية ينافسه في ذلك الصديق الجميل عبد المجيد زلماطن لاعب اتحاد المحمدية وشباب المحمدية والمنتخب الوطني للشبان والأمل …
اختار الدراسة ، وكان متميزا طيلة مساره الدراسي ، وهو الحاصل على الدكتوراه في الطب بكلية العلوم والصيدلة في الدار البيضاء، وخريج المعهد الوطني للإدارة الصحية في الرباط، كما أنه حاصل على شهادة الماستر في الحكامة العمومية وافتحاص التنمية البشرية في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في البيضاء، وعدد من الدبلومات وشواهد التميز في القطاع الصحي.
بعد مسار حافل في التكوين الصحي، عين في المستشفى الإقليمي بإقليم بنسليمان في بداية مشواره، فاختار مدينة المحمدية عشقه الأبدي مستقرا له بإقامة 9 يوليوز إذ سيشتري نفس السكن بعد أن كان مكتريا له. ومنذ ذلك التاريخ لم يغادر مدينة الزهور والرياضات، بالرغم من اشتغاله كمدير لمستشفى بني ملال والمحمدية وسلا والجديدة قبل أن يلبي نداء الواجب المهني ويعود إلى مستشفى محمد الخامس بالحي المحمدي ليواجه معركة المجتمع مع وباء طارئ يحتاج صرامة وجدية في التعامل. وطيلة هذا الترحال، بقي الدكتور عثمان بعيد يقيم ويسكن ويتسكع في حدائق وبحر مدينة المحمدية.
فبعد جائحة كوفيد التي عرفتها البشرية في بداية السنة، وفي شهر مارس من هذه السنة ببلادنا التي شهدت أول حالة، سيُطلب من الدكتور عثمان بعيد الالتحاق بمستشفى محمد الخامس بالحي المحمدي قادما من مدينة الجديدة ليباشر ويواجه هذا الفيروس الذي أصاب البشرية في مقتل ، بعد أن أصبح مستشفى محمد الخامس يستقبل فقط المصابين بفيروس كورونا
هكذا كان عثمان رحمه الله وظل، رجل الميدان متقدما صفوف الأطر الصحية بالمستشفى، يستقبل ويشرف بشكل مباشر على كل المرضى أو الزوار أو المخالطين، أو من يريد استشارات أو من يحتاج إلى نصائح .
بعد اشتداد وارتفاع حالات المصابين، قررت بلادنا حظر التجوال وإغلاق جميع المقاهي، فكان الملجأ الوحيد مع بعض الأصدقاء من طينة نادرة، اللقاء أمام شاشة التلفاز لمشاهدة المباريات والحكايات والذكريات .
كان الثنائي، عثمان وعبد المجيد، عميدي الجلسات بقفشاتهم الكروية وأحاديث ما كان يدور ويجري، في احترام تام لإجراءات التباعد الجسدي الذي يوصي بها الدكتور بعيد، وأنا أراقب الوضع بينهما، بعد أن يلتحق بالشلة بعض الأصدقاء لإعطاء الجلسة بعض التوابل لإزالة التعب الجسدي والنفسي الذي خلفته بنفوسنا جائحة كوفيد 19 ، وكان آخر لقاء جمعنا بالراحل مقابلة في كرة القدم لعصبة الأبطال، ذهابا، بين فريقي ريال مدريد وأنتيرميلانو يوم الثلاثاء 3 نونبر 2020 .
عشت مع الدكتورعثمان بعيد لحظات جميلة جدا، وجدت فيه الأخ والصديق والإنسان المتواضع . نسجت بيننا ثقة كبيرة وبدأ يشركني في اهتماماته ويترك أمامي أوراقه وبعض حاجياته الخاصة وأشياء آخرى .. كان مرتبطا جدا بالعائلة يسأل عن إخوانه وأخواته ( أصله مزابي أصل الكرم والجود، عرفني أيضا على قبيلته) . يسأل عن الأصدقاء والمعارف.. يقدم الخدمات بدون كلل .. يرد على كل المكالمات الواردة حتى التي لا يعرفها، كان إنسانا خدوما جدا.
كان طباخنا الماهر، العارف بالتوابل وب»القويمات»، حتى وهو في المطبخ كان يجيب على الهاتف ويتتبع أحوال المرضى المصابين، أو الذين يريدون أن يتأكدوا من الإصابة، فيحتج عليه عبد المجيد ( واااا الطبيب غادي تحرق لينا العشاء .. باركة من التلفون ..).
في لحظات كثيرة كنا نطالبه بأن يتوقف عن استعمال الهاتف، لكنه كان يرفض، قائلا لنا « هذ شي ولفتو» .
في الأسبوع الأخير قبل أن يصاب صديقنا وعزيزنا «الطبيب»، كان يشعر، بعد لقائنا في المساء، أنه بدأ في التعب من جراء العمل، ويشعرأن الداء اللعين بدأ في الاقتراب منه وأن الظروف ستكون أكثر خطورة في الأيام المقبلة . كنت أقول له « حاول على راسك ، حضي من السكر والطونسيون « فيرد علي ضاحكا كعادته: « كلنا غادين تجينا كورونا وندوزوها» .
بعد أربعة أيام، صدق حدسه وأصيب بالداء اللعين كوفيد 19 . اتصلت به هاتفيا يوم الاثنين فقال لي: (بصعوبة شديدة كان يرد على مكالمتي) مصطفى صديقي، أنا في المنزل بالمحمدية. أصبت بكورونا وسأبقى هنا بالبيت بعد أن هيئت بيتي كمصحة لمعالجة هذا الداء « . لكن الداء كان أقوى من أن يقهر بالمكوث في البيت، فاضطر إلى الانتقال إلى مستشفى محمد الخامس بالحي المحمدي، قبل أن يتم نقله إلى الجناح الطبي 17، بمصلحة الإنعاش والتخدير في المستشفى الجامعي ابن رشد في الدار البيضاء، حيث كانت ترد علينا أخبار مطمئنة عن تحسن نسبي في حالته قبل أن يأتينا الخبر المفجع مساء الأحد 22 نونبر 2020، بأن يد المنية خطفته على حين غفلة منا ومن أحبائه.
بكاه الجميع، أصدقاء وعائلة وطاقما طبيا ممن اشتغلوا معه في كل هذه المحطات، وعرفوا معدنه الأصيل وتفانيه في أداء مهمته النبيلة. خيم حزن وأسى عميقان في صفوف كل من عرفه أو سمع عنه.
ودعته مدينة الدار البيضاء، ابنا بارا وشهيدا كان في الصفوف الأمامية لمواجهة هذا الداء اللعين منذ أن ظهر في بلادنا في شهر مارس الماضي، قبل أن يوارى جثمانه بمقبرة الغفران يوم الاثنين 23 نونبر 2020 بمدينة الدار البيضاء.
وتبقى مجموعة «اتحاد بريس» ممنونة للدكتور عثمان بعيد ، بمبادرات الكشف عن الداء لجميع الصحفيين والعاملين بالمؤسسة، وتتبع حالات المصابين منهم..فلك منا الرحمة والمغفرة والخلود في الجنة مع الشهداء والأبرار.
أصدق المواساة إلى عائلة بعيد: خديجة – مصطفى – عبد لله – عمر – بوبكر – أحمد – هشام – فاطمة – عائشة. وزوجته فاطمة الزهراء وأبنائه: وسيم – ندا.
وداعا أيها الشهيد المدني، أصدقاؤك يبكون فراقك، لنا موعد يا صديقي إلى أن نلتقي…