فلسطين: لنجرب الطريق الإسباني!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

اتفقت السلطة الوطنية الفلسطينية وشقيقتها اللدودة حركة حماس على الموقف من الفيتو الأمريكي ضد قبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، إثر تصويت داخل مجلس الأمن أول أمس الخميس.
السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس رأت في ذلك »عدوانا صارخا يدفع المنطقة إلى شفا الهاوية،« أما حركة حماس فقد أضافت أن الشعب الفلسطيني »سيواصل نضاله حتى يدحر الاحتلال وينتزع حقوقه ويقيم دولته الفلسطينية المستقلة الكاملة السيادة وعاصمتها القدس«.
عموم المواقف. سارت على نفس النهج. واعتبرت بأن الرفض الأمريكي سيزيد من التوتر. ويقوي التعنت الإسرائيلي، لكنه قبل هذا وذاك سيخرج القضية من أرضيتها الدولية الشرعية، اعتبارا أن الدولة الفلسطينية موجودة بموجب قرار. أممي رقم 181، ووجودها مرتبط عضويا ودوليا بوجود إسرائيل نفسها!!! ويمكن أن نخمن بأن المعادلة ستظل عرضة للعديد من العناصر المجهولة باعتبار أن الفيتو رمى بالقضية إلى خارج التأطير الأممي القانوني ووضعها في مخبأ الحسابات السياسية والجيوستراتيجية لأطراف عديدة لا تحتكم بالضرورة إلى القانون الدولي.
وبهذا المنطق فإن فلسطين تنتقل من فرضيات الوجود الإنساني إلى التنشيط الفلسفي في وجود شعب بكامله!! أي محكومة بجيوسياسية الثالث المرفوع: دولة فلسطين موجودة وغير موجودة في نفس الوقت!!!
قبل ذلك كان العبد الفقير لرحمة ربه قد كتب، ضمن مقالة مطولة في موقع العربي الجديد، عن محاولتين في التعاطي مع الوضع العاصف في فلسطين وحولها. من خلال مبادرتين اثنتين: هما ترويكا إيمانويل ماكرون وترويكا بيدرو سانشيز! وفيه أن الحرب الإسرائيلية على غزّة حوّلت ثلاثة رؤساء دول إلى مُجرّد أصحاب رأي، وسط التفاعلات المتواترة التي نجمت عن الإبادة الجماعية. فجاءت دعوة الرئيسين؛ الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمصري عبد الفتاح السيسي، رفقة العاهل الأردني عبد الله الثاني، إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزّة والإفراج عن جميع الرهائن، على شكل مقالة رأي نشرتها أربع صحف يومية: لوموند (فرنسية) وواشنطن بوست» (أمريكية)، والرأي (أردنية)، والأهرام (مصرية)، إعلاناً صارخاً عن العجز الجيوسياسي لثلاث من أهمّ عواصم صناعة القرار في منطقة الشرق الأوسط (!)
تحوّل الموقّعون الثلاثة من قادة دول إلى قادة رأي، في وقت ترعى بعض هذه الدول وساطات سياسية وأخرى أمنية تقدّم على أنّها مهمّة جداً. لقد تنازل الرؤساء عن وضعهم الاعتباري أصحاب سلطة وموقع وقدرات جيوستراتيجية، وصنَّفوا أنفسهم، طواعية في ما يبدو، في خانة المطالبين الحقوقيين والمثقّفين والنقابيين، وهو وضع جديد يضعف الموقف الفلسطيني أكثر مما يقوّيه، ويكشف عن تحوّلٍ في طبيعة المواقف التي تسير جنباً إلى جنب مع التقتيل والتدمير. وكما في كلّ رسالة عبر الإعلام، لنا أنّ نسأل من المُرسَل إليه؟ هل هو مجلس الأمن الذي عجز عن تحويل قرار صادر عنه إلى واقع في غزّة لحماية شعب بكامله يتعرض للإبادة؟ ولا عذر لفرنسا في هذه الحالة، هي التي تشغل منصب عضو دائم في مجلس الأمن منذ ميلاده، وتملك وسائل لإسماع صوتها في وجه إسرائيل وغير إسرائيل. ويكون من المنطقي وقتها أن نعتبر فرنسا المُرْسِل والمُرْسَل إليه، فوجّهت الرسالة إلى نفسها بتوقيع ثلاثي الأطراف.
هل هي رسالة إلى إسرائيل؟ كان عليهم أولاً أن يكتبوها بلغة غير لغة «النصيحة» التي «تنبّه إسرائيل من عواقب خطيرة لهجوم تعتزم شنّه في رفح». وثانياً، كان على الأردن ومصر، على الأقل، أن تجتهدا في فكّ العزلة عن الشعب المحاصر تحت وابل من القنابل والجوع والتقتيل، بقرار مشترك منهما، وتوفير الحدّ الأدنى للوقوف في وجه الحصار الذي يمنع المساعدات. لم تعلن الرسالةُ عن المُرْسَل إليه، فكانت لا تختلف عن أي بيان صادر عن المنظمات الدولية أو المثقفين الملتزمين أو المراقبين غير المحايدين للوضع في المنطقة، وغرقت في لغة وصفية، وسقطت في نوع من تحصيل حاصل (طوطولوجيا) محذّرة من أنّ الحرب «لا تُفضي إلا إلى مزيد من الموت والمعاناة، وزيادة مخاطر وعواقب التهجير القسري الجماعي لسكّان غزّة»، كما لو أنّ غيرهم كان يتوقع أن تؤدي الحرب إلى الخصب والمهرجانات والسرور العارم.
في انتظار قصيدة جماعية على شاكلة قصائد مظفر النواب للقدس أو «مديح الظل العالي»، تحمل توقيع القادة أنفسهم، يقدّم الاشتراكي العمّالي الإسباني، بيدرو سانشيز، مرّة أخرى، الموقف الذي تتطلّبه المرحلة، كما يُنشّط النقاش الحقيقي الذي يتطلّبه الشرط الجيوستراتيجي في الشرق الأوسط حالياً، فقد جمع حوله ثلاثية أكثر تقدّماً في الدفاع عن الفكرة الفلسطينية، وعن مخرج لما يقع، عندما توجّه إلى أوسلو، في 11 أبريل الحالي، ثم إلى دبلن حيث عقد مؤتمريْن صحافيين مشتركين مع نظيريه النرويجي يوناس غار ستور، والأيرلندي سيمون هاريس، أعلنت بعده الدول الثلاث الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية، بالاشتراك مع دول أخرى. سانشيز الذي يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، جعل من هذا الهدف أفقاً جيوستراتيجياً، وحدّد له تاريخاً هو نهاية شهر يونيو المقبل، كما جعل منه حجر الزاوية في تحليله الوضع العالمي، وكذا لتقدير الموقف الأوروبي. وإذا كان يتحرك في كلّ العواصم ذات التأثير في مستجدات الشرق الأوسط، وأوروبا تحديداً، فهو يدرك أنّ اختيار الزمن، بين استعجالية الوضع الحالي وضرورة إنضاج شروط الإعلان، يفرض عليه «الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أقرب وقت عندما تكون الظروف مناسبة، وبطريقة يكون لها أكبر تأثير إيجابي في عملية السلام». التحرّك الحالي لسانشيز سيجعل من مدريد «طرفاً فاعلاً مهماً في إطار زخم دبلوماسي جديد في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني»، بحسب مذكّرة لمعهد إلكانو الملكي للدراسات.
ولعل أهم شيء ينطلق منه سانشيز هو رؤيته الواقعية التي تعتبر أنّ الاعتراف «يندرج في إطار المصلحة الجيوسياسية لأوروبا»، وبالتالي وضع فلسطين في صرّة العالم الاستراتيجي، على عكس العقيدة الغربية التي أكّدت، وتؤكّد، طوال العقدين الأخيريْن، أنّ حماية إسرائيل من براكين الشرق الأوسط هي ضمانة لمصلحة الغرب عموماً، وأوروبا خصوصاً، واعتبار أنّ ما يتفرع عن ذلك هو ضرورة تقزيم أدوار الدول المعادية، بل تفكيكها كما هو حال العراق في بداية الألفية أو توسيع حضور الدولة العبرية في صناعة الوضع الجيوستراتيجي العربي الجماعي. وتكتسي تحركات الإسباني الاشتراكي أهمية في محيطه القارّي، إذ إنّه سيغير من الموقف الأوروبي، وينشّط دينامية جديدة عابرة للأوطان. ويدخل التحرك ضمن دينامية طرح الاعتراف مجدداً أمام مجلس الأمن، وهو الطلب الذي يراوح مكانه منذ سبتمبر 2011، عندما أطلق رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، إجراءات «انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة»، وظلّ مُعلقاً في دهاليز الجهاز التنفيذي لهذه المنظمة الأممية، في انتظار توصية إيجابية من مجلس الأمن تسمح بتحويله إلى الجمعية العامة.
والواضح أنّ أدوات الفعل عند الترويكا التي شكّلها سانشيز بشأن جدول أعمال فعلي، تعيد بعض الأمل في المسلسل الأممي حول الحقّ الفلسطيني، مع حدوده الدنيا من النجاح، والترويكا التي نشّطها ماكرون لا تتقاطع سوى مع إسقاطات الوضع الحالي على السلام الدولي. وغير ذلك، تظلّ الأدوات متباينة إن لم نقل على طرفي نقيض، فهي بلاغية تعبيرية في ثلاثية ماكرون، وسياسية ديبلوماسية عند ترويكا سانشيز، ولعلّ الوضع المنفلت الموسوم بالتصعيد الحالي سيعطي معنى للترويكا الأخيرة، في حين سيزيد من عبثية الرسائل مجهولة العنوان لدى الثانية…
يبدو لي والله أعلم أن المثابرة الإسبانية، والطريق الثالث المفتوح من مدريد نحو العالم يستحقان عناء المحاولة مرات ومرات ما دام البديل المطروح هو .. المزيد من الموت والدمار. والتعنت والعبث!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 20/04/2024

التعليقات مغلقة.