الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (21)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

1. عمقنا الإفريقي :

جدارة الانتماء ومسؤولية التــرافع البرلماني

ومن جهة أخرى، يعلمنا التاريخ والنماذج المقارنة أن تَحَقُّق الاندماج الإفريقي ينبغي أن يتم على أساس التراكم وحسن توظيف واستثمار فرص التكامل، والتأسيس على الحلقات الناجحة في التكتلات الإقليمية الإفريقية الذي تعتبر المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CEDEAO) أحد نماذجه المتميزة والواعدة التي يمكن الاعتماد عليه.
وتتوفر إفريقيا على إمكانيات بشرية وطبيعية وموارد اقتصادية وخيرات هائلة. كما أنها تخلصت من عدد كبير من النزاعات الداخلية والعابرة للحدود، وحقق العديدُ من بلدانها انتقالاتٍ مؤسساتية سلمية، وهي بصدد بناء مرتكزاتها الديموقراطية ودولة المؤسسات، فيما أصبح الاختيار الديموقراطي أفقا للانتقالات السياسية. إنها عوامل أخرى تيسر الاندماج الإفريقي واشراك الشعوب في هذا المسلسل الذي يحتاج إلى الحوار والتوافق كي يترسخ ويتمَّ تَمَلُّكُه من طرف الشعوب.
وما أحوج القارة إلى هذا النموذج، من أجل رفع التحديات التي تواجهها، ومن بينها وأبرزها، ظاهرة النزوح والهجرة التي كانت تتصدر وقتها (2017) التقارير الإخبارية وتقارير المنظمات الدولية على إثر الكشف عن معاملة مشينة ومقيتة، وعن واحد من أسوأ أوجه الاتجار في البشر من طرف جماعات مسلحة بليبيا ضحيته شباب ونساء وأطفال من بعض بلدان إفريقيا.
وعوض تقديم حركات الهجرة كمادة إعلامية، ينبغي التعاطي السياسي المسؤول مع جذورها وأسبابها ودوافعها. فالذين يغادرون بلدانهم بحثا عن ظروف عيش آمن أو دخل مادي يضمن الكرامة، إنما يقومون بذلك مضطرين، إما بسبب النزاعات المسلحة أو الظروف المناخية الصعبة أو الفقر أو البطالة. و قد حلل جلالة الملك محمد السادس في الرسالة الملكية السامية التي وجهها إلى قمة الاتحاد الإفريقي – الاتحاد الأوروبي المنعقدة في نهاية شهر نونبر 2017 بأبيدجان، هذه الأسباب مستنكرا تعرض عدد من المهاجرين لأفعال مقيتة، كما حرص جلالته على تصحيح العديد من التمثلات الخاطئة المتعلقة بالهجرة ومنها نسبة الهجرة غير القانونية من مجموع حركات الهجرة العالمية (5/1)، وعائدات الهجرة، والتمييز بين بلدان العبور وبلدان الاستقبال…. وأكد جلالته على ضرورة “وضع تصور جديد لمسألة الهجرة من خلال التعاطي معها كموضوع قابل للنقاش الهادف والرصين وكحافز على الحوار البناء والمتميز”. وعلينا أن نفتخر اليوم بأن الرؤية الملكية لقضايا الهجرة بدأت في التحقق. ويعتبر افتتاح المرصد الإفريقي للهجرة بالرباط يوم 18 دجنبر 2020 إنجازا حاسما على هذا الطريق.
وأمام قارتنا العديد من التحديات التي من الصعب على أي بلد أن يواجهها منفردا، أو في إطار الأحلاف التقليدية المبنية على الإيديولوجيا. فإلى جانب الهجرة، هناك كما سبق أن فصلنا في ذلك انعكاسات الاختلالات المناخية، ومحاربة الهشاشة والإقصاء أو البطالة والتكوين والتعليم والصحة وتوفير البنيات الأساسية وتجهيز المدن وأساسًا التحدي الإرهابي الذي أضحى تحديا مشتركًا لقارتنا والعالم….
وفي مواجهة هذه التحديات، ومن أجل ربح رهان التنمية اعتبرنا في المحافل الدبلوماسية البرلمانية أنه لابد من العمل المشترك، إذ لا مستقبل لاستراتيجيات إنمائية حبيسة البعد الوطني والحدود القُطرِية، وهذا هو منطق العصر ومنطق اقتصاد السوق. فالأفق الجهوي والقاري المفتوح على العالم وتوفير البيئة الجاذبة والملائمة للاستثمارات والعمل وفق منطق المصالح المشتركة والمنفعة القارية، هو الذي يمكن أن يخلق مؤسسات اقتصادية وخدماتية رائدة تُحْدِثُ من حولها دينامياتٍ مُقاولاتية محلية ووطنية دامجة ومنتجة للثروة. كما أن مشاريع البنية الأساسية القارية والعابرة للحدود، من طرق سيارة وسكك حديدية وموانئ ومطارات من شأنها أن تُيَسِّر التواصل بين البلدان وتنقل الأشخاص والبضائع، فضلا عن دورها التحديثي وإشعار المواطن الإفريقي بولوج عهد جديد ونشر ثقافة جديدة جوهرها الشعور بالانتماء الى إفريقيا والافتخار بهذا الانتماء.
ولئن كانت تحتاج إلى التطوير لتستوعب المستجدات والحاجيات والتَّغَيُّرات الدولية، فإن المؤسسات القارية الإفريقية، تعتبر إطارا للحوار وللعمل المشترك ولإعداد واعتماد مخططات الاندماج الاقتصادي.
وقد كان مرجعنا في ترسيخ البعد البرلماني للبناء الإفريقي، سياسة المغرب الإفريقية المبادرة والجريئة والمبنية على البحث عن الربح المشترك والشراكة المنتجة وتفضيل التعاون جنوب-جنوب وإنجاز ما من شأنه تيسير قيام إفريقيا الجديدة ويلبي حاجيات شعوبها.
وبالتأكيد، فإن إفريقيا باتحادها وتلاحمها، ستوجه رسالة إلى باقي التكتلات القارية والجهوية والشركاء الأجانب والمستثمرين الاستراتيجيين بأنها منفتحة وواعدة ومؤهلة لشراكة متوازنة منتجة للثروات، وأنها قارة الإنتاج والإبداع ومرشحة لأن تكون قارة التصدير ، عوض تلك الصورة النمطية البالية بأنها قارة موضوع إسعاف أو دعم من أجل التنمية على أهمية هذا الدعم وقيمته. وأعتقد أن السياق القاري الجديد والنُّخَب الإفريقية الجديدة، تنتصر لهذا التوجه.
هذا ما حرصنا على الدفاع عنه سواء في إطار الدبلوماسية البرلمانية بين-الإفريقية، أو في مباحثاتنا ومداخلاتنا في المحافل البرلمانية الدولية والإقليمية خارج القارة. ونعتبر أن الوثائق التي اعتمدناها كمُخْرَجَات في المؤتمرات والندوات الإفريقية التي احتضنها مجلس النواب تتسم بالاستدامة، ومن المراجع الأساسية الدبلوماسية مجلس النواب، كونُها كانت ثمرةَ مناقشاتٍ عميقةٍ وحرةٍ وصادقةٍ مع أشقائنا، وتستحضرُ مصلحةَ القارة وشعوبها قبل كل شيء، وتسترشد بعقيدةِ الدبلوماسية المغربية المبنية على قيم التعاون والسلم والتسامح والتضامن وتسوية النزاعات بالطرق السلمية والحرص على احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية وعدم التدخل في شؤونها.
وبالتأكيد، فإن اهتمامنا بإفريقيا الذي يفرضه الانتماء والتاريخ المشترك والمستقبل المأمول والمصالح والقيم، لم يكن مانعا ولم يقف حائلا أمام مواصلة ترسيخ شراكاتنا في الفضاءات الجيوسياسية الأخرى.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 31/08/2021