في حوار مع الدكتور هاني نسيرة: السرديات الورائية للجهاديين أو في تبرئة ابن تيمية بعد سبعة قرون

طالمَا شكَّل شيخُ الإِسْلامِ ابن تيمية الحرَّاني (ت728هـ) مَحَطَّ تنازُعٍ والتِبَاسٍ حيَّاً وميتَّاً. ويُرجِعُ صَاحب «متاهة الحاكمية» الدُّكتور هاني نسيرة هذا الاشْتِبَاه حولَ فِكْرِ ابن تيمية إلى موسُوعيّة الرّجل نَفْسُهُ وبالتالي أُسِيء فَهْمُه، ثُمّ أصبحَ مَرجِعاً وظيفيَّاً داخل السّردِيّات الورَائِيّةِ للجمَاعات الجِهَادِيّة.
إضْفَاء شَرعِية عَلى «وُجُودٍ مَرفُوضٍ» بواسِطَة نُصُوصِ ابن تيمية التِي لا يُمْكِنُ نَزْعُهَا مِن سِياق نُشوئِها واسْتِخدامِها كذَرَائِعَ لسَدِّ خِطابٍ مَنْطِقُه عَقيم مَليئ بالتّنَاقُضات، لا يَخْدمُ سِوى أَجُنْدَة سِياسِيّة political agenda وَفَقَط.
الدّكتور هاني نسيرة سَاهَمَ فِي نِقاشٍ قَديمٍ جَدِيدٍ وعَميقٍ بِكتَابه القَيّمِ «متاهة الحاكمية أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية» ومُنذ صُدورِ كِتابه الذِي كَان في الأَصْل أُطْرُوحَة الدّكتورَاه، أثَارَ نِقَاشَاتٍ كَبيرة فِي المَجَالِ التّدَاولِيّ العَرَبِي سَاهَمَت، لاَ شَكَّ، فِي فَتْحِ آفَاقٍ جَديدَة لاَمُفَكّر فِيها.

 

-هلا فسرت لنا الإقبال الكبير من لدن الغربيين وحتى في ساحتنا نحن على فكر ابن تيمية خصوصاً في شقه السياسي، ربما منذ كتاب المستشرق هنري لاوست؟.
– لا شك أن ذلك يعود لأهمية ابن تيمية المتوفى سنة 728 هجرية حتى الآن، وهو ما زاد منه صعود الاتجاهات السلفية التي تنتسب له وتتبنى مرجعيته رغم اختلافها، طوال القرن العشرين، هذا فضلا عن تميزه النوعي في تراثنا، سواء عبر اتساع فضاء خطابه وموضوعاته، فلم ينحصر في مجال واحد كالفتوى أو اتباع مذهب معين، بل كان مجددا ومجتهدا اتسعت قضاياه ومعها رؤاه النوعية في مسائل مختلفة، بدءا من نظرته للمنطق الأرسطي الصوري الذي انتقده مبكرا، وصولا إلى قدرته الجدلية التي صاغت الحنبلية الجديدة، وردت على الصحوة الشيعية التي شهدها عصره، فضلا عن اتساع معارفه وقراءته التي اتضحت في مجلداته التي وصل بها البعض للألف. ولا نبالغ إذا قلنا إن ابن تيمية هو أحد أكثر رموز التراث الإسلامي تأثيرا وحضورا في الفضاء الإسلامي السني، وربما توازي مكانته وتأثيره مكانة الأئمة الكبار عند الكثيرين، ونجح في حفر مكانته والتمكين لها في عصره وبعد عصره، ولا يزال تأثيره مستمرا في تيارات عديدة تصاعدت منذ بدايات القرن الثامن عشر مع الدعوة النجدية واستمرت حتى الآن.

– هل يعذر ابن تيمية وفتاويه إذا ما درسنا سياق صدورها (السياسي والمذهبي)، خصوصاً وأن بعض الفتاوى أصدرها وهو بالسجن، بل حتى تفسيره الكبير كتبه وهو مسجون كما جاء في تقديم المحقق، يعني كيف مثلاً (وإن كنت لا أبرر) أن يتحدث عن المتصوفة خيراً وهم وراء زجه؟.
– الفتاوى ابنة وقتها، أو هي حسب اصطلاحها معرفة الواجب في الوقت، فهي تاريخية بامتياز، وابن تيمية اختلفت فتاويه أحيانا، حسب السياقات، وفهمت خطأ أحيانا أخرى، ونقلت خطأ كذلك عند بدء طباعة الفتاوى تحديدا على يد أحد الناشرين سنة 1909، والرجل شأن كل عالم أو مفتي ينبغي أن يقرأ على مراحله وتطور خبراته وتجاربه، أما بخصوص موقفه من المتصوفة فرغم أنهم كانوا وراء زجه بالسجن في إحدى المرات، حين اختلف مع ابن عطاء الله السكندري ونصر المنبجي وغيرهم، إلا أنه لم ينتقم منهم في ما بعد بعد عودة صديقه ونديمه الناصر بن قلاوون، كما أنه كان يرفض البدعية والغلو الصوفي، ولكنه هو من أثنى على أمثال عبد القادر الجيلاني وابن عربي في كثير من النصوص، كما توقف وتوسط أمام الحلاج وكلامه وأنه كلام قد يقوله الصديق ويقوله الزنديق.

– أية إضافات تقدمها لنا فتاوى ابن تيمية في قرننا هذا؟.
– هي ابنة وقتها وتاريخيتها، ولا شك أن الفتاوى شأن ديني، ولدى ابن تيمية فتاوى مستنيرة في رفض تكفير أحد من أهل القبلة، وفي قوله بأن الجهاد جهاد دفع وليس جهاد طلب، وفي مسائل الطلاق وغيرها، لكن الفتاوى ليست مشروع نهضة بلا شك ولكن أسفا استدعي ابن تيمية بشكل خاطئ من قبل بعض المتطرفين ثم استدعوه في مراجعاتهم التصحيحية لكتاباتهم، فهو حاضر في الجدل بين الاعتدال والتطرف، وبين العنف والإرهاب باسم الدين وبين رفضه، سند لكلا الطرفين، والرجل كان إصلاحيا في زمن أزمة كهذا الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية، يمكن استخلاصه واستيعابه في هذا السياق لا الانحباس فيه أو الأسر في الانبهار به أو الرفض له، خاصة وأن عقلية الرجل وعلمه الذي شهد له به مجايلوه وعارفوه وقارئوه، يعد أحد أبرز الأصوات في تراثنا ومن أكثرها تأثيرا في واقعنا.

– ابن تيمية أكثر شخصية ظلمت في التاريخ الإسلامي، ربما الأمر يعود للبوسها في المقام الأول، لكن ما لا أفهمه دعاوى الكثير إلى أن أفكار الرجل حاضرة بقوة في أدبيات الجماعات الجهادية غاضين الطرف عن أن دستور هذه الجماعات (الجامع) أتى خطابه صريحاً منتقداً أفكار ابن تيمية، سواء في التكفير أو تطبيق الشرع والحاكمية أو الخروج على الحاكم بل الخلافة أو الإمامة بذاتها لم تكن عند ابن تيمية أصلا بل فرعا كما لدى الشيعة (وقد ذكرتم هذا في كتابكم متاهة الحاكمية) …أو أنه لم يُفهم لا من قبل أتباعه ولا من ينسبهم إليه. فهل توافقني الرأي؟.
– الجهاديون المعاصرون ليسوا أبناء ابن تيمية، ولكنهم انتقائيون أخذوا منه في مواضع وانتقدوه في مواضع أخرى، أخذوا منه خطأ فتواه في التتار، وانتقدوه في مفهوم الدار، فهو من نحت مفهوم الدار المركبة، وقد انتقده بعض منظريهم عند الخلاف معه في هذه المسائل مثل صاحب الجامع عبد القادر بن عبد العزيز، كما انتقده ابو محمد المقدسي في مواضع أخرى، والأهم هو مخالفته لهم في تبني الحاكمية التي لم يستخدمها ولم يعرفها ابن تيمية، وأنه كان يرى عدم الخروج على الحاكم درءا للفتنة وأكد على العكس من الشيعة على أن هذا مذهب السلف وهو الرجل الذي قبل ظلمه من بعض حكام عصره، ولم يخرج ولم يواجه ولم يؤسس جماعة مسلحة، كما أنه لم يخرج في حرب أو مواجهة إلا بإذن الحاكم وتوجيهه واستشارته وموافقته. الرجل كان يتحرك في إطار الشرعية ولم يكن خروجا عليها على العكس من الجهاديين والمتطرفين المعاصرين…وعلينا أن نلاحظ هنا – وهو ما ذكرته في «متاهة الحاكمية» – أن ابن تيمية رغم كثرة مؤلفاته وكتاباته التي بلغ بها البعض 1000 مجلد والبعض الآخر 300 مجلد، لم يتناول مسألة الإمامة والحكم إلا في رفض اعتقادها توحيدا كما هو عند الشيعة الامامية أو كما هو عند الجماعات المعاصرة من الجهاديين أو الإسلام السياسي.

– سعى كتابكم « متاهة الحاكمية» إلى تبرئة شيخ الاسلام من التوظيف الخاطئ للجهاديين ومن القراءات التجزيئية والمبتسرة لفكره. فهل ترى أن هناك تراجعا لتوظيف ابن تيمية في خطاب الجهادوية المعاصر؟.
n نعم، وقد رصدت هذا في الكتاب. فالقوم لاحظوا استثمار المراجعات التصحيحية له، ولاحظوا انتباه العديد من الباحثين والمتخصصين لانتقائيتهم في النقل والتأويل الخاطئ لابن تيمية بل والتدليس عليه، فقد تراجع الرجل وتوظيفه ولكن ليس بشكل كبير.

– بحكم انشغالاتي بالمتن المنطقي والفلسفي التيمي، فقد وجدت اهتماما قليلا لدى الدارسين بابن تيمية المنطقي والفيلسوف، خصوصا وأن الرجل قد انتقد المنطق الأرسطي بشكل متقدم مقارنة مع عصره إلا طبعا من بعض الإسهامات المعدودة التي قدمها حمو النقاري ومحمود يعقوبي وأبو يعرب المرزوقي ووائل حلاق…. فهل يكون مرد هذا صعوبة تفكيك المادة أم أنه أم يعرف بالخصوص إلا بنظرياته السياسية؟.
– ظني أن ابن تيمية مطروح للدراسة والتناول من مواضيع مختلفة، وليس فقط نظرياته السياسية والتوحيدية، ولكن أيضا اهتم به الكثيرون من زاوية انتقاداته للمنطق الأرسطي مثل من ذكرت وغيرهم في مصر من دارسيه، كما اهتم آخرون بتحقيق المناط وضبط مواقفه من آخريه مثل المتصوفة والتصوف، حيث تتعدد تصوراته وأحكامه عليهم وليس له بعد واحد، وكذلك موقفه من الأشاعرة الذين أثنى عليهم في مواضع وانتقدهم في مواضع أخرى. المسألة أن الرجل الموسوعي والمتسع اتسع الاهتمام به والتناول له كذلك وهو أوسع من ضيق أفق التطرف المعاصر بأشكاله المختلفة بكثير.

– أرى أنك تحيي تقليداً محموداً لم يعد الآن دارجاً على الأقل في المجال التداولي الإسلامي، وهو الرد اتفاقا أو اختلافا عما تتضمنه الدراسات أو المقالات أو القراءات عن كتابكم المرجعي «متاهة الحاكمية»، خصوصا وأني كذلك قد انسقت مع الكتاب بكون ابن تيمية مع جهاد الدفع حتى اطلعت على قراءة محمد يسري وردك عليه. فمَ السبيل إلى إحيائه في صيغة عملية؟.
-لقد رددت على الزميل والصديق الدكتور محمد يسري في ذلك، والرجل نشرت بعض فتاويه وأعماله التي تؤكد أنه كان مع جهاد الدفع وضد جهاد الطلب، فالرجل لم يكن يرى أن فرض جهاد أو حرب الكفار لكفرهم ولكن يراه لاعتدائهم فقط وتعديهم، وهذا موقف معتدل جدا وسابق لعصره ..فالصحيح- والحمد لله- ما أوردته وذكرته في الكتاب وسأفصل في المسألة في طبعته القادمة إن شاء الله التي ستصدر قريبا.
حاولت أن اقرأ الرجل من خطابه كله، وليس فقط من بعض شوارده أو فتاويه، كما أنني ربطته بسياقاته وأزمات عصره، ومراحل كتاباته والضوابط التي وضعها لفهمه، فالرجل دعا قارئيه إلى رد الفروع لأصول وقواعد عامة، وهو صاحب إنتاج غزير وصاحب استطرادات طويلة، يقص بعضها عن سياقاتها أحيانا، وحياة مليئة بالمواقف. ابن تيمية يحتاج باستمرار ضبطا في قراءته فالرجل يحاول سرقته المتطرفون وسرقة التراث كله، والمسألة تحتاج انتباها، فمهما عادى البعض التراث أو دعا لذبحه، إلا أنهم سيظلون في حاجة إليه لأنه حاضر وفاعل عند غيرهم…رفضوهم أو قبلوهم.

 

 


الكاتب : حاوره: محمد بن الظاهر

  

بتاريخ : 12/03/2021