حياة كاملة

تطلعت الى السماء… هي نفسها، تسدل إزارها الشفيف على المدينة التي حضنت عقدين من عمرها المديد، وهاهي تسترجع كل الخفقات التي عبرت القلب إياه، عندما تخطرت أول مرة رفقته.
هي هنا الآن ليس لتجييش الحنين، ولا نبشا في جب الذكريات، فقط لأن بواعث كثيرة حفزتها على هذه العودة، ظاهرها إنجاز معاملات إدارية تخص طفلتها، ومضمراتها حنين بالضرورة.
المدينة لم تعد كما هندسها الحالم بها. تشوه شكل المروحة، ومادت الأزقة تحت غبار الحقول المجاورة، وحاصرها زمنها القديم منذ الوطء الأول.
كلهم موجودون هنا كما كانوا قبلا، لكنهم لا يعرفون شيئا عن امتعاضاتها، عن شجرة الحنين التي تهجع في أعماقها، وتمد أفانينها رغما عنها. وحدها الاندفاعات المؤسساتية من غير بوصلة حنينها حيث مرساة الزمن حطت هنا.
لحسن حظها أن قطع غيار بقيت معافاة، تربض في غرفتها المخفية، وإلا لما استطاعت أن تستطيب حياتها الجديدة.
ترنو إلى المدينة من نافذة القلب، الطريق نفسه يأخذها الى الإعدادية، حيث كانت تعمل، فقط الدكاكين بهت طلاؤها، وأغلق بعضها.
أوشى بها الحنين لتبتل المآقي، أم ماذا؟
مثل كل الناس عندما تضطر إلى أن تستبدل شيئا بشيء آخر، يجب أن يكون الاختيار هذه المرة اختيارها هي. الخيط الخفي المكلل بالغيوم والمربوط الى شجرة الحنين، هاهي تتخطاه بتوتر بين، خصوص وهي تصل مفترق الطرق الذي كان يقذف بها إلى بيتها أو المفروض أنه كان قبل أن تهدم المستجدات أشياءها الصغيرة.
مرت سنتان على هذه العودة. تهدم ما تهدم، وأينع ما كان يجب أن يستمر، اختفت بيوت وأضاعت الأقدامُ آثارها المديدة، فقط صورة بالأبيض والأسود تطفو على السطح لكائنين متخاصرين التقطت في زاوية ما ضائعة، في هذه الرقعة التي تتلمس أقدامها آثارَها الآن.
ندهش حين يسقط كل شيء في الروتين، حين تتنكر ملامح من استطبنا عشرتهم كل تلك السنين، وانتعشنا برفقتهم.
تحاول لم شتات المشهد كما انبصم في ذاكرتها؛ لحظة فاتحا بالأمر رغم ان حاستها استشعرته قبلا بكثير، تنظر للزوج الإلهي الذي كان تقدميا حتى حدود تلك النقطة الفاصلة، لم يتعد رد فعلها زفرة طويلة وعميقة في حين احتفظت ذاكرتها بصورة تلك المرأة التي كانتها، وهي تومض، وتخفت على وقع تلك الكلمات.
نتفارقو…ما بقيناش مفاهمين…
على إيقاع الشهوة النيئة فاه بها، لأعود أدراجي أنا التي فشلت بعد كل هذا الزمن في أن أكون زوجة بضمانة مفتوحة حتى لا ينال مني القنوط.
قبل المغادرة أخطأت الطريق الطويل الذي يشطر المدينة إلى شطرين متعانقين. قصدت الحديقة اليتيمة، حيث نعمت بلحظات هنية رفقة صغيرتها وهي تخطو، مزهوة باكتشافها المشي، خربشت خطوطا متعامدة كما تفعل دائما عند ولوجها دوامة حياتية ما، بعثرت ما ظل يانعا من تاريخ عقدين، رمت بالذاكرة المثقلة بحنينها وسط الخطوط كمن يطمر رضيعا غير مرحب به على عجل، وينسحب خائفا متعجلا.

(من مجموعته القصصية الاخيرة
«أجري بين ضفتين كنهر»)


الكاتب : أحمد شكر

  

بتاريخ : 15/05/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *