«موسم الظل» تلقي الضوء على الحياة القَبَلية والممارسات العنصرية

الكاميرونية ليونورا ميانو تروي تجارة الرقيق في أفريقيا

«موسم الظل» هي الرواية السابعة للروائية الكاميرونية ليونورا ميانو (سلسلة إبداعات عالمية – الكويت)، المولودة في دوالا في العام 1973، والمُقيمة في باريس منذ العام 1991، جامعةً بين النشأة الأفريقية والدراسة الأوروبية. والرواية تجمع بين الحكاية الأفريقية واللغة الفرنسية، أي بين محليّة الحكاية وعالمية اللغة، ما يتيح لها الانتشار، ويجعل صاحبتها أوّل أفريقية تفوز بجائزة «فيمينا» الفرنسية، وتعالج حقبة مظلمة في تاريخ الإنسانية تتمثّل في العبودية وتجارة الرقيق. وهي حقبة لا تزال تُرخي بظلالها على عالمنا المعاصر. ولعلّ ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية، في الآونة الأخيرة، من ممارسات عنصرية واحتجاجات عليها، هي إحدى هذه الظلال القاتمة.
بالدخول إلى الرواية من عنوانها، يجاور العنوان بين مضافٍ ينتمي إلى الحقل المعجمي للزمن «موسم» ويشي بحصادٍ معيّن، ومضافٍ إليه ينتمي إلى الحقل المعجمي للشجر «الظل» ويشي برقّة معيّنة. وبذلك، نكون إزاء عنوان شعري يجمع بين متضادّين اثنين، زمني ومكاني، ويُرخي بظلاله الناعمة على صفحة البال. غير أنّ المتن ينزاح بالعنوان عن معنييه، اللغوي والشعري، فيتحوّل الظل إلى ضباب كثيف ودخان بارد وهالة من عتمة الليل (ص 14)، وإلى هالة سوداء (ص 27)، وإلى شيء ثقيل يُخيّم على العالم ويدفع به إلى الحرب والتهجير (ص 122 و152)، وهو الذي يخفي النهار فوق الكوخ الجماعي (ص 127). وبذلك، ينزاح «الظل» في المتن عنه في العتبة إلى النقيض، ففي حين يعبّر في العتبة عن معنى جمالي، نراه يكتسب في المتن معنى سلبيّاً، يتعلّق بالحرب ومشتقّاتها.
تدور أحداث الرواية في مرحلة ما قبل الاستعمار، وتتوزّع على مجموعة من الأمكنة الروائية، الريفية والمدينية، الجبلية والساحلية، هي: ميكوندو القرية الجبلية، بيكومبو العاصمة القَبَلِيَّة، بيباييدي قرية المستنقعات، وإيزيدو القرية الساحلية. وينخرط فيها شخوص من ثلاث قبائل هي: المولونغو، البويلي، والإيسيدو. ولكلٍّ منها ثقافتها وطقوسها ومعتقداتها.
يُشكّل الحريق الكبير الذي التهم أكواخ المولونغو في قرية ميكوندو الجبلية، ذات ليل، وأدّى إلى اختفاء اثني عشر من أبناء القبيلة، البداية الوقائعية للرواية، التي تترتّب عليها وقائع أخرى كثيرة، تؤدّي، بدروها، إلى النهاية الوقائعية الحتمية. ففي فضاءٍ روائي قَبَلي تحكمه المعتقدات البدائية، ينعقد مجلس رواية «موسم الظل» في أصلها الفرنسي (دار النشر)القبيلة، ويُقرّر عزل أمّهات المفقودين في كوخ جماعي خشية انتقال الألم إلى الأكواخ الأخرى، في خطوةٍ تعكس تفكيراً ذكورياًّ، وتطرح المسألة النسوية على بساط الرواية. والمفارق أنّ صاحبة هذا الاقتراح هي إحدى هؤلاء الأمّهات، الداية إيبيزي، ذات العقل الراجح والرأي المسموع، التي تدرك خطأها لاحقاً، وتحاول تصحيحه.  وإذ يخيّم ظلٌّ أسود على الكوخ الجماعي، ذات صباح، تُشكّل هذه الواقعة مهمازاً آخر لسير الأحداث يدفع إلى البحث عن المفقودين.

طابخ السم آكله
في إطار البحث عن المفقودين، ينبري بعض الشخوص إلى القيام بهذه المهمّة لأسبابٍ تختلف من شخص إلى آخر. فيبادر موتانغو، شقيق زعيم القبيلة الذي ينازعه السلطة ويتربّص به للسيطرة عليها، بالتسلّل عبر الغابة، والالتقاء بنويمبا، الصياد المنتمي إلى قبيلة البويلي، وتسقّط أخبار المفقودين لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة تتعلّق بصراعه على السلطة مع شقيقه، فيستدرجه الصياد إلى العاصمة بيكومبو حيث يُلقى القبض عليه بتهمة التجسّس، ويُقطع لسانه، ويتمّ استعباده وضمّه إلى خَدَم الأميرة نجولي شقيقة الملكة نانجو، زعيمة القبيلة. وبذلك، يدفع ثمن خيانته وتآمره على أخيه وقبيلته. ويزيد من عذابه أنّ نويمبا يزوره في سجنه، ويُخبره متشفّياً أنّ رجاله هم الذين قاموا بإضرام الحريق وخطف المفقودين وتسليمهم إلى أمير الساحل لبيعهم من تجّار الرقيق القادمين من البونغو عبر البحر.
ويقوم موكانو زعيم قبيلة المخطوفين مدفوعاً بمسؤولياته القَبَلية  بزيارة الملكة نانجو في عاصمتها بيكومبو، في مجموعة من مرافقيه، للبحث معها في الموضوع، فيتم القبض عليهم في الطريق وتجريدهم من أسلحتهم البدائية، حتى إذا ما مثلوا بين يدي الملكة وتمّ التعرّف إليهم، تُعاد لهم الأسلحة ويُعاملون باحترام. غير أن نانجو تقوم بتضليل موكانو فتنفي علمها بالمفقودين وتزعم أن رجالها عثروا على آثار تفيد بتوجّههم إلى منطقة الجيدو، فيعود موكانو إلى قبيلته خاوي الوفاض حتى إذا ما استأنف مع حرّاسه عملية البحث  متوجّهين إلى المنطقة المذكورة، تداهمهم أمطار غزيرة قرب قرية بياييدي في منطقة المستنقعات تودي بهم جميعاً. فيذهبون ضحايا تواطؤ شرّ البشر وعنف الطبيعة.

قلب الأم
على أنّ عمليّة البحث الأجدى في «موسم الظل» تقوم بها إيامبي، أمّ أحد المفقودين، تلبية لنداء ابنها الآتي من البعيد، وتحقيقاً لأمومتها المفجوعة. وهي التي كانت تحدّت أعراف القبيلة برفضها الحجر الكوخي وعودتها إلى ما تبقّى من كوخها المحروق، ترفع التحدّي مجدّداً بمباركة الداية الحكيمة إيبيزي وتشجيعها، وتنطلق ذات فجر في مغامرتها غير المحسوبة النتائج، وتصادف أهوالاً كثيرة. غير أنّها تتمكّن في نهاية المطاف، بفعل إيمانها بقضيّتها واستعانتها بآلهة القبيلة، من الوصول إلى قرية إيزيدو الساحلية واللقاء بموكودي، ابن إيبيزي وأحد المخطوفين الاثني عشر، فيخبرها عن تجارة الرقيق التي تتوزّع فيها الأدوار القبائل الثلاث: البويلي، والإيسيدو، وأصحاب أقدام الدجاج. فتقوم الأولى باصطياد البضاعة البشرية، وتتسلّمها الثانية وتُخزّنها في القلعة البيضاء، وتشتريها الثالثة وتعبر بها البحر إلى الضفّة الأخرى من العالم. ويخبرها أنّ العجوز نوتيمبو تخلّف عن ركب المخطوفين بعد إصابته في ساقه بسهم بويلي، وأنّه هو نجا من البيع بسبب مرضه ومشارفته الموت، وأن الآخرين بمن فيهم ابنها موكاتي كان مصيرهم الغرق.
على مدى الرواية، شكّلت منطقة بياييدي التي مرّ بها الباحثون عن مصير المفقودين منطقةً وسطى بين قبيلتي المولونغو ذات الثقافة السلمية والبويلي ذات الثقافة الحربية، واستقطبت الهاربين من الأسر والموت، واحتضنت أسماء القتلى الذين أودت بهم الحرب، وفيها يلتقي الناجون من البحث القاتل: المرأة العجوز، والداية إيبيزي، والأم الشجاعة إيامبي، والمخطوف موكودي، والزوج موسينغا، وأهل البلدة ليضعوا حداًّ فاصلاً بين عهدين، ويبدأوا من جديد. ولعلّ همسة العجوز التي تختم بها الكاتبة روايتها: «دعونا نرحّب بالنهار، حينما يأتي، وبالليل أيضاً» (ص 208) تُحيل إلى استمرار الحياة رغم الصراعات على أنواعها.
في «موسم الظل»، ليونورا ميانو الحياة القَبَلية الأفريقية في مرحلة ما قبل الاستعمار، بصراعاتها الداخلية والخارجية، التي تنجلي عن مرحلة تاريخية جديدة، تدمج بين القيم القديمة والوافدة. ففي داخل قبيلة المولونغو، نقع على ثنائيات متضادة، بشرية أو مكانية أو زمنية، تتمظهر من خلالها الصراعات الداخلية، وتنتظم العلاقات بين أفراد القبيلة؛ ومن هذه الثنائيات: موكانوا / مولونغو، المرأة القوية / المرأة الخاضعة، الرجل / المرأة، الديمقراطية / الفردية، الوطني / العميل، وغيرها. وفي خارج القبيلة، نقع على ثنائيّات أخرى تتمظهر من خلالها الصراعات الخارجية وتنتظم العلاقات بين القبائل المتناحرة؛ ومن هذه الثنائيات: المولونغو / البويلي، البويلي / الإيسيدو، الإيسيدو / أصحاب أقدام الدجاج، موكانوا / نجانجو، موتانغو / نويمبا، ميكوندو / بيكومبو، بياييدي / بيكومبو، الحرية / العبودية، الجبل / الساحل، البحر / اليابسة، وغيرها. على أن هذه الصراعات، بنوعيها الداخلي والخارجي، تتمخّض عن بداية جديدة، يجترحها الضحايا الناجون منها في منطقة بياييدي الوسطى، في إشارة روائية إلى حتمية السير نحو المستقبل مع استبطان الأسلاف في معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
تكتسب «موسم الظل» فرادتها من خلال إماطة الظل عن مرحلة تاريخية معيّنة في منطقة غير مفتوحة للقارئ العربي، وإلقاء الضوء على مسألة إنسانية حسّاسة ما تزال تلقي بظلالها القاتمة على التاريخ المعاصر. ولنا في الممارسات العنصرية المرتكَبة في أكثر من مكانٍ من العالم خير دليل على ذلك.

عن (الاندبندت العربية)


الكاتب : سلمان زين الدين

  

بتاريخ : 24/07/2020