على هـامش كتاب الباحث سعيد البوزيدي

« القنيطرة رحــــلــــة تاريـــخـــيــــة»

 

بدون ذاكرة لا توجد علاقة مع المكان.
ليس المكان مساحة فحسب ، إنه حالة نفسية أيضا ،
ولا الشجر شجر ، إنه أضلاع الطفولة.
محمود درويش

 

أول عتبة تتعلق بالغلاف، صورة فوتوغرافية مركبة واصفة ميناء نهر سبو الدفاق مع مشهد الرافعات المستعملة في الميناء، ويجلي جزءا من معمار المدينة، تتخلله أشجار خضراء وأفق سماء زرقاء مشرعة على آمال رحبة، وعلى ظهر الغلاف تتجسد محطة القطار الجديدة بهندستها الباذخة والجميلة .
ثانيا عتبة العنوان التي تحت اسم المؤلف الباحث الدكتورالمؤطر سعيد البوزيدي الأستاذ بكلية العلوم الإنسانية والإجتماعية ابن طفيل بالقنيطرة (القنيطرة ) مع عنوان فرعي : رحلة تاريخية، رحلة عبر مدار كرونولوجي، وإن كنت أرى أنها رحلة يتداخل فيها المكان والزمان، فهي ـ إذن ـ وبصيغة آخرى « القنيطرة « رحلة زمكانية .
الأمكنة الأثيرة تسكننا قبل أن نسكنها، فالكتاب يتحدث تحديدا عن القنيطرة عبر سيرورة زمنية مطلقة، بيد أن لكل مقيم في «قنطراه « التي تتخلل الوجدان وذاكرة غياب، صور لأماكن حميمة سلبتها ـ قسرا ـ عوامل زحف الإسمنت الأسود على مباهج امتدادات الظلال وأزهار نبتة الأقحوان (حلالة) والبساتين الخضراء.
لنقف عند العتبة الثالثة المتمحورة حول الإهداء الذي يأتي بمعنى الوفاء للعائلة الراعية وإلى عموم أبناء مدينة القنيطرة .
أما العتبة الرابعة فهي كلمة شكر وعرفان لمن مد يد العون حتى يخرج هذا المصنف إلى عالم النور، ليأتي « تقديم « الصحفي والكاتب حسن آيت بلا ليضيء القصد الجوهري من كتاب، فيقول في معرض كلمته « القنيطرة رحلة تاريخية. عمل يختزل الرصيد التاريخي لمدينة القنيطرة، ويستخلص دلالاته وأبعاده، ويحتفي بإشراقاته وإضاءته وتوظيفه بما يفيد في ربط الماضي المجيد بالحاضر العتيد، منذ أن كانت ميناء إلى أن أصبحت حاضرة غرباوية تتوفر على كل مستلزمات ومقومات المدينة الحديثة « ص: 7.
عبر بوح «نوستالجي» يفتتح الكتاب، ينأى سعيد البوزيدي عن دور الباحث المحقق ـ قليلا ـ لكي تستغرقه لغة القلب وسرحات التذكر المرتبط بحادث تاريخي بصم مرحلة في طفولته وفتوته، وهو يقف عند محطة القطار بالقنيطرة مصطفا، مودعا المشاركين في المسيرة الخضراء نونبر 1975 الذي جعلته يتزحزح من حدود حيه ـ الساكنية ـ ويتعرف على مفاصل المدينة تباعا، وفي كل طور يكتشف تفاصيل تكبر وتنمو، في حين كانت حدود معرفته محيط حيه حيث يلعب ويرتع مع الأتراب.ليؤكد ـ بعد ذلك ـ الترابط والإنتساب عبر محطات العمر وتبلور الوعي، ويزيد الانشغال بالبحث العلمي وشهوة الأسئلة المحرقة في حضور مدينة القنيطرة كسؤال ومجال اهتمام وانشغال .
يبقى المحتوى أو الفهرس بوصلة تقربنا لعوالم الكتاب وخطاطته التفصيلية، وقوفا في الصدارة عند ملابسات التسمية، ثم حيثيات المراسي النهرية على حافة سبو، فحدث نزول القوات العسكرية الكاسحة للقصبة العزيزية وهي تصبو في حملتها لإخضاع مدينة فاس، مستعرضا دواعي إنشاء ميناء القنيطرة الذي تحول ـ حسب السياقات ـ من المهام العسكرية الصرفة إلى الأبعاد التجارية والإستثمارية .
عاملان أساسيان قاربهما الكتاب : أ ـ الميناء النهري ـ 2 ـ خطوط السكة الحديدية.
ففضلا عن الأستعمار الفرنسي الذي ساد في فترة الحماية وما قبلها بقليل، يأتي الحضور الأمريكي لينزل بكلكله ويطبع حياة مدينة القنيطرة بآثارها التي لا تزال شاهدة على مروره من هنا، ولاسيما عملية « طورش» العسكرية الأمريكية ضد القوة الحامية ـ آنذاك ـ فرنسا، وعملت على توطيد وترسيخ وجوده ، ولقد شهدت قصبة المهدية حفل جاز قدمته فرقة عسكرية أمريكيـــــة مؤخـــرا.
لم يفت الدارس سعيد البوزيدي الإشارة إلى عوامل تخص المدينة ، لا بالنسبة لنموها المورفولوجي وإنما عوامل تسييرها كنظام بلدي، ونسيجها السكاني وتطورها العمراني وتوسعها الحضري، وقام بما يشبه مسحا للمباني الكونوليالية كعمرات سكنية أو فيلات ذات طابع قروي أقيمت في مجال حضري، مع استعراض للبنيات الإدارية والمعالم الدينية والمعالم التاريخية والمدارس الفرنسية منها والعربية التي شهدتها وتشهدها المدينة، بدون إهمال أماكن المتعة من حانات وقاعات سينما ومسرح. فالقنيطرة مشطورة الى مدارين : مدينة الأهلي السفلى ومدينة الوجهــــاء العليا، وأمكنة الترفيه كثيرة ومتعددة حتى أصبحت تسمى في وقت من الأوقات مدينة عطلة الجندي آخر الأسبوع « weekend ‘un soldat « .
يبدو المجهود العلمي قويا وواضحا في هذا العمل الجاد، الذي استند إلى مرجعيات وإحالات كتب باللغتين العربية والفرنسية بصور وخرائط وبيانات معززة. فالاعتماد على الوثائق بتنوعها وتصنيفتها، جعل الكتاب ـ بحق رحلة تاريخية بحضور خصب يسعف كل باحث دارس على مواصلة التقصي في هذا المجا ، وقد أدرج ـ على سبيل المثال ـ أغنية الحسين السلاوي « المركان « كاملة كوثيقة تصف أثر التواجد الأمريكي في القنيطرة في غضون الأربعينيات من القرن الماضي نقتطف منها المقطع الآتي :
أياي ياي ياي ياي ياي ياي على هاد الزمان واشنوا صار
دخلت المريكان الناس تقوات والنسا علـــــيـــــنـــــا جــــاروا
حتى من لعجايزات دروا النقاب على الشوينغــــــوم شــــــــاروا
لمزوجات دارو الســـبــــــاب وعلى رجالتهـــــم غــــابــــــوا
الزين والعـــيــــــن الزرقـــــة جا نــــــــا بـــــكــــــل خــيـــــر (…)

الكتاب « القنيطرة « رحلة تاريخية يجمع بين مايشبه السيرة ـ الذاتية والسيرة الجماعية بما تضمنته من استرجاع الذاكرة وتاريخ المدينة المشترك، وما حاط ذلك من تغيرات وتحولات سلبية وإيجابية. فقد فقدنا داخل القنيطرة قنيطرتنا أحلامنا الغضة مع ما صاحب ذلك من أعطاب مست براءة الطبيعة ويناعتها ومساحاتها الخضراء وعمارات بمعمار هجين يشوه وجه المدينة .
ومن باب سخرية الأقدار أن تكون القنيطرة ـ عند البعض ـ مجرد مدينة عبور أو مدينة بين معقوفتين، ولقد كانت مدينة الرباط حجابا للقنيطرة، بيد أن القنيطرة ـ راهنئذ ـ مدينة الغد مدينة المستقبل والحداثة بامتياز وقد أضحت قطبا استراتيجيا يعقد عليه أكثر من رهان مجالي واقتصــــادي.
مدينة القنيطرة أو كما أراد الاستعمار إبان الحماية أن يصفها ب» بورليوطي « أي ميناء الجنرال « اليوطي « الحاكم العام الفرنسي وقد ذهب الظن أن موت وحياة المدينة مرتبطان ارتباطا وثيقا بالميناء ، لكن القنيطرة شقت مسارات آخرى للتنمية تشرئب نحو المستقبل .
لاغرو أن بين سبو والقنيطرة علاقة عشق، والحضارة الإنسانية دوما وأبدا مرتبطة بالماء، وجميع الدلائل تشير إلى أن وادي سبو وما يروى عنه من أساطير، شكل النبض والشرايين الأساس في الواجهة الأطلسية، والمصب تم استغلاله كمجرى عبور للمراسي ومرتكزات حضارية عرفها سهل الغرب منذ عهد عهيد وموقع تاموسيدا وباناصا خير دليل وشاهد .
والقنيطرة تخلقت كمدينة حديثة وظفها المستعمر الفرنسي كمطية أو معبر لمقاصده التجارية، وكذا غاية السيطرة على فاس عبر مسلكين : ممر ومسرب تؤمنه الملاحة النهرية وطريق بري تؤهله مواصلات السكك الحديـــــــديـــــة .
فإن قيل « إن مصر هبة النيل « فالقنيطرة هبة سبو، وهو النابع من الأطلس المتوسط منسابا مع واد ورغة وواد بهت، منحدرا عبر الشعاب قبل أن يندغم ويصب في عرض بحر المحيط الأطلسي في حلق مصب المهدية .
باتت الضرورة السلامة الإكيولوجية ملحة من أجل إنقاذ هذا الواد العظيم من الموت، وإخراجه من حالة الاحتضارإلى مواصلة الحياة ، وقد طالته عوادي التلوث المسممة لمائه وروائه والقضاء على ثروته السمكية النهرية وفي مقدمتها سمك الشابل الذي أمسى خبرا بعد أن كان.
فرنسا خلال فترة الحماية بنت وجودها المغرض على أولوية المصالح الاقتصادية وعلى بسط وجودها العسكري الكاسح، فهل عرفت منطقة الغرب حضارات سادت تم بادت نتيجة الدمار والخراب الذي تخلفه الحروب، حتى قيل بأن قصبة المهدية بنيت وهدمت وخربت عدة مرات، سيما والاستعمار تجزيئي في نظرته فأعطى اهتماما للمغرب النافع ـ حسب ظنه ـ وتغاضى عن باقي مناطق وجهات البلاد .
تحولت الغاية من إحداث الميناء من عسكرية إلى غاية تجارية بكل أبعادها الاقتصادية، تقنيا وإجرائيا لما يزال تأمين الدخول عبر المصب وضمان الملاحة بالوادي، ممكنا شريطة تجهيز مرسى يقوي الدور الاقتصادي لمدينة القنيطرة القائم بحدة ولعدة اعتبارات. كما أن خطوط السكة الحديدية بالمغرب يكاد أن يكون ـ في مجمله ـ منطلقا من القنيطرة وقد استغرق هذا الشاغل مايربو على قرن من الزمن من زمن القاطرة إلى زمن البراق.
الحماية الفرنسية سعت لترسيخ أساليب إدارية وقانونية وجبرية لسيطرة على الإنسان والمكان بالمغرب، واستنزاف خيراته في كل الواجهات، على عكس ذلك حضور القوات الأمريكية أتت للمغرب والقنيطرة تحديدا، تاركة أثار الحداثة ونفس جديد للحياة إلى جانب حضورها العسكري الطاغي ، ولكن في نفس الوقت أثرى الحياة اليومية بروافد فنية ومظهرية والرفع من منسوب الذوق العام على مستوى اللباس وتجليات حضارية متعددة .
الكتاب ـ حسب زعمي ـ ولست متخصصا في الكتابة العلمية التاريخية يبقى مفتوحا على إضافات وإغناءات يمكن أن يحفى بها في وارد الطبعات القادمة ، فالكتاب ولاريب رغم أهميته القصوى لم يكتمل بعد ، ولايزال قابلا لكل إخصاب وتعديل ، الحديث عن القنيطرة حديث عن ذاتنا الجمعية وذاكرتنا المشتركة ، تشدنا إلى نوستاجيا الحنين للمكان من جهة ومن جهة أخرى إلى ضرورة الكتابة العلمية التأصيلية وما ينتجه الخطاب العلمي الرصين من مخرجات دانية القطوف .

*نص الكلمة التي ألقيتها بدار الشباب رحال المسكيني ضمن فعاليات تقديم كتاب « القنيطرة رحلة تاريخية « في اللقاء الذي نظمته كل من جمعية الشعلة وجمعية المنتدى الدولي لقدماء تلاميذ ابن بطوطة بالقنيطرة تحت شعار « التاريخ وعاء طبيعي لذاكرتنا الجماعية « يوم السبت 25 يونيو 2022 .


الكاتب : مصطفى لكليتي

  

بتاريخ : 07/07/2022