وقت مستقطع من الحرب (8) : احساين بنزبير: الحرب مطبخ مُكَهْرَبٌ

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

بُمْ! إنها ربات المدافع. ثم مرة أخرى، بُمْ! نسيتُ إغلاق النافذة. ثم، عبرها، دخلتْ. فجأة. لم أفهم شيئا. ولو فونيما واحدا من هذا الصدى. صدى حرب ما. حرب ما في بلد ما. حرب لها وجه «ميدوزا» وجسد متهدل ومرعب، من طبيعة الحال. جسدي ارتبك. ارتعش وكانت الحرب. أجل، قريبة منا جدا وكثيرا. كما لو: الحرب والسِّلْم ضرَّتان تحت سقف واحد. بُمْ! مرة أخرى. أحاول مضاجعتها بالصمت أحيانا، وبالغضب أحيانا وأيضا. نعم، دخلتْ من النافذة أو من السقيفة. لذلك، أتهيأ للعيش بشكل مختلف تماما. الحرب تنتشر فينا وبيننا كالسرطان: سرطان لغوي. والمرعب في الأمر، الحقبة التي نعيشها أو نحاول العيش فيها، فَبْرَكَتْ لجسدنا المعطوب بِدْلَة كلامية. أنظر ولا أتفاعل: هذا ما تريده الأجهزة الميكروفاشية الآن. تحولنا إلى كائنات بدون منافحة. هي الحرب الآن تغنَّي نشيدا كونيا موسوما بِـ «بُمْ». ما العمل؟ كيف أستوعبها كشاعر أو كمواطن أو مهاجر؟ كيف من الممكن أن أتغير وفيروس الصور ينخر مخي؟ وفجأة، أسقط في جملة بيكيث: قُدُماً إلى الأسوأ. لذلك، صرتُ أمشي في الحرب، أمشي فيها ورأسي أصابه الورم. وفمي مشلول. إلى درجة موت رمزية. أترون، أتخبط في اللغة لأن الحرب هنا. في أوكرانيا. في الشرق الأوسط. في إفريقيا. في الشاشات. كل شيء تغير. منذ زمان. كل شيء خراب. خراب حياتي. خراب كلامي. خراب حبي. خرابٌ العالم، إنه. أجل. حاولتُ أن أحلل. أن أفهم. لكن الصور تجتاح وتستعمرني لتنهب آخر خلية للذكاء. صرتُ أخجل كوني إنسانا في حرب. أوكرانيا أمِ البسوس. سيان. حتى الخطاب السياسي صار أكثر عنفا وقتلا. سياسة القوة ورأسمالية عاهرة لسانيا. أمشيها أو فيها أمشي. الحرب أعيشها، أتنفسها في قمامة التاريخ الحالي. لا شيء تغير وكل شيء تغير بشكل بذيء. ثم هذا القلق بلا مبرد، بلا هوية. لأن الألقاب صارت حظا في زمن الحرب. أن تكون محمدا الذي نجا من الموت أو «جاكْ» الذي أتى بالحرب. أريد أن يكون ما أتكلمه وأفكره حامضا. كالحرب. كوجوه السياسيين المرعبة. كذيل كلامهم الذي لا ذيل له. بمْ! أوكرانيا في قفة ذئاب متحضرة لأنها خطيرة. أحاول. ثم أسقط وأنا في الحرب أتمرن مع جسدي، مع رأسي لكن مع الآخرين. أخاف أن أفقد التمييز بين الحقيقة والواقع. أخاف أن أكون إنسانا. لأن الأسوأ قادم لا محالة. أكيد. أفكر في الحرب وأنا أمارس الجنس: كابوس الحقبة. أحلم أن أفكر قافية الكلام لأهجو الحرب نثريا. لأنها نثر. هنا، مهمة الشاعر محنة وشقاء في غرابة محمومة. ثم ماذا لو صرنا أجمل ونحن عبيد معاصرون. وما يبقى هاوية من الصعب كتابتها بشكل جديد ومختلف. الحرب مؤنث لسوء الحظ. لذلك حاولتُ أن أغرِّد، لكن دمعتي أينعت في عناقيد الحرب. أتقدم في الكلام، وأخجل من الكتابة في زمن الحرب. غير أن الكتابة، في الراهن، شرٌّ لا بد منه. مفارقة غريبة! ثم، بمْ! أجلس القرفصاء، وأحاول التفلسف بتفكيك العالم وتمثلاته كي أعثر على إمكانيات للوجود، لوجودنا جميعا. في الحرب، أكون وحدي لكن مع الجميع. إنه عطش النفوذ البشري. عطش لا يندفع في القلب، إلا متأخرا. أ لَمْ يقل ماكيافيل: الشر في العالم يأتي من أننا لسنا طيبين بما فيه الكفاية ولسنا فاسقين بما فيه الكفاية. في حاجة إلى ميزان وتوازن عموديٍّ. كل هذا، اندثر مع الحرب أو هو في طريق الانقراض. صه! أنا لا أحبها، لأنها تخيفني ككائن يتربص بالحياة بطريقة سوية، إن كان ذلك ممكنا. حتى لون الأشياء بهت وأصابه الذبول في قفة العالم الموبوء. بمْ! لازمة خطواتي في أسمنت المدن والهجرة. هيا. أقف لأرى دخانا يغطي جمال غيمة أو خاصرة أنثوية بهية. حذار، التغزل حرام في زمن الحرب. وحده، السياسي المتعنت له الحق. وحده الحاكم له الحق في زيت العالم وغازه، أيضا. أما، أنا لا غاز لي. فقط، حرف جرٍّ كبندقية أمام الحرب. وفجأة، رمقتُها. مَنْ؟ راهب قلبي الذي لا قلب له. إنها. فقط. والنافذة مفتوحة للترحيب بالحرب في مطبخ مُكَهْرَبٍ كوجوهنا. والصُّور في الشاشات تستمني لتقتل رغبة البشر/الشعب في التفكير. الذكاء لم يعد له محل من الإعراب. مع الحرب فقدنا قواميس بركاننا الجواني، فقدنا، وأنا معكم، لذة السكينة والطمأنينة. إذا كان المطر لا يسقط على الفقراء؛ الحرب، هي، تسقط عليهم بكل حب. فقراء العالم نحن بامتياز حتى صرنا سكانا من الطبقة السابعة تحت الصفر. تحت سماء الهاوية ، تتكدس كلمات الشعراء في فونيم يتيم. يصر على المقاومة في ثنية العنف، البارحة واليوم. عنف مستمر. دائم في عيون من يرمون بالرصاص ويقتلون. الحرب عقيدة ولها إمام وتابعون. والذي يحاول أن يكون عاقا، الويل له، ولي أيضا. وإذا كان بودلير مقترفا للحداثة تحت غيوم باريس، نحن اقترفناها تحت سماء حرب حديثة، ثم نمارس الهبوط نحو الجحيم. جحيم المعري أو دانتي. والنافذة دائما مفتوحة. منفتحة على فواتير الأموات: يعقوب الجثة! إننا جثث حيية، ليس إلا. وأنا بينكم، أفقد لساني يوما بعد تحت تأثير ترياق مسموم. بالقرب كوخ صغير فيه شاعر صغير فيه قصيدة صغيرة فيه مشكاة فيه ضريح. إنه حلم صغير تحت ظل حرب كبيرة.
على أي، نصبح جميعا على الأسوأ!


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 11/04/2022