وينفرط عقد الحبات الستين .. رحيل شاعر «طنجة لْعاليا»، أحمد الطريبق أحمد

نعى بيت الشعر في المغرب، شاعر طنجة العالية، الشاعر أحمد الطريبق أحمد، الذي وافته المنية ليلة أول أمس الأحد، مخلّفا وراءه منجزا شعريا جديرا بالتقدير و الاحتفاء، بوّأه مكانة بين الرعيل الأول المؤسس لحداثة الشعر المغربي، علاوة على إسهامه الرصين كباحث و أستاذ جامعي ساهم في تكوين أجيال من الدارسين والباحثين الذين تتلمذوا على يديه، ونهلوا من علمه و معارفه، و تعلموا من أخلاقه الرفيعة وحسن توجيهه و رعايته لهم بجامعة عبد المالك السعدي، فكان بذلك المثال و القدوة لهم في التحصيل وحسن الأخلاق.
ويعد أحمد الطريبق أحمدمن الباحثين المتميزين في منطقة الشمال، وأحد الأصوات الشعرية المتميزة بها، فهو من رواد القصيدة ذات المنزع الصوفي في الشعر المغربي الحديث إلى جانب ثلة من الشعراء الآخرين أمثال: محمد  السرغيني، وعبد الكريم الطبال، ومحمد بنعمارة وغيرهم من الشعراء الذين أسهموا  في حركية التحديث الشعري بالمغرب.كما ساهم في تكوين أفواج الطلبة الأساتذة بالمركز الجهوي بطنجة إلى غاية 1986م، وليلتحق بعد ذلك بكلية الآداب بتطوان أستاذا جامعيا إلى حدود سنة 2005م. وتميز أثناء تدريسه بالأفق الواسع والاستقصاء الكامل وإجهاد النفس في الرجوع إلى المصادر التي تهدي الطريق واختيار المناهج التي تسهل سبل البحث.
وقد تجلى ذلك بوضوح في أطروحته: ” الخطاب الصوفي في الأدب المغربي على عهد الدولة الإسماعيلية”، أو في بحثه الأكاديمي الضخم، الصادر في ثلاثة أجزاء، المعنون بـ “الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي” الذي أعاد الاعتبار فيه  لمرحلة تاريخية وأدبية بكاملها في المغرب من خلال أحد أعلامها.
والدكتور أحمد الطريبق أديب بالسليقة، وشاعر بالفطرة، وكاتب ملهم، شعره نثر ينساب بمختلف المعاني المتناسقة، ونثره شعر يمتح في عالم الخيال ومنازل الإبداع. وهو شاعر مسكون بالقصيدة. مبدع للرؤى والتجليات والمواقف والأفكار والأخيلة كما هو مبدع للغة بكل الممكنات التصوير والتخييل وملء الفراغ. فقد عبر الشاعر أحمد الطريبق عن هذه الملكات وراج في فنون الشعر وشجونه، وعبر عما يخالجه من أحاسيس بوسائل التعبير الفنية التي امتلكها موهبة ودراسة.
زاوج الراحل أحمد الطريبق بين كتابة الشعر والبحث فيه، وهو واحد من الشعراء الباحثين القلائل الذين يتميزون في تجربتهم مع الكتابة بالمكون الصوفي وهذيانه ومقاماته وتعابيره، مما يوسع من الفضاء التخييلي والتعبيري واللغوي والفكري في شعره وفي أبحاثه، بشكل أضحى معه المكون الصوفي علامة مميزة لشعر أحمد الطريبق خلافا لشعراء آخرين ممن يستلذون هذا المنحى باعتباره موضة أو نزوة مقحمة، نابعة لديهم من خواء روحي ووجداني ومعرفي في معظم الأحيان.
وتبقى  التجربة الشعرية الصوفية، كما تبلورت في أشعار الراحل، نابعة من صفاء روحي وذهني، ومن امتلاء ثقافي ومعرفي، ومن ذائقة أدبية ولغوية وغنائية ودرامية عميقة، ومن تأن في التأمل والكتابة والاحتراق بالشعر، ومن عشق وتمكين صوفي أيضا.
الشاعر والإعلامي محمد بشكار كتب ذات افتتاحية عن الشاعر :»كيف لِمنْ آثَر الحُلول الصُّوفيَّ طقْساً شِعرياً يجعل للعالم أكثر من نشأة، أنْ لا يعيش للأبد مُتجدِّداً مع الفُصول، أليْسَ هو من قال ذات «انْعتاق»: وإذا الغيْبةُ كأسي، والخمرة رأسي، وإذا العالم لفظٌ نِسبيُّ المعنى.. يا لَجُموح هذه العبارة الشِّعْرية وعبْقرِيتها، جعلتني مُمزَّقاً بين الحيرة واليقين، كأنِّي بالشّاعر الكبير أحمد الطريبق يهْمِس في أذني، لا تَغْتَرَّ بالرَّأس التي اشْتعل في أنْحائها الشَّيْب، فما أكثر ما ألْقَتْ بمثل هذه الشُّهب، لا تَغْتَرَّ بِجلْستي المُؤقَّتة على كُرْسي مُتحرِّكٍ، لوْ أمْعَنْتَ التَّأمل أبْعَد من الظَّاهر، لأبْصَرتني بما أوتيتُ من تخييل محمولا على أكفِّ السُّحب، ألمْ أقُلْ ينْكسر الظَّهْر ولا تنْكسِر قامةُ الشِّعْر !
أثرى الباحث والشاعر أحمد الطريبق أحمد المكتبة المغربية بمجموعة من النصوص الشعرية والسردية، والدراسات الأدبية، والأبحاث العلمية الدقيقة نذكر منها:
أزهار الحب والوطن… تموت واقفة.»الأعمال الشعرية الكاملة».»تجليات المكان في الشعر العربي الحديث والمعاصر».
«الحبات الستون: من الصورة إلى الوجود»،»حومة المصلى: لوح مسطور بحبر الزبيب وعبق الصلصال»، «الخطاب الصوفي في الأدب المغربي على عهد السلطان إسماعيل»، «خطاب وحوار: مواقف واستبصار»، «رحلة الإمتاع والمؤانسة من طنجة إلى ماليزيا وسنغافورة»، «سنابل … من سبائك العرفان»، «طنجة الصورة الشاعرة»، «في ظلال محمد صلى الله عليه وسلم: تكوثرت الرؤى والمفردات»، «القدس بحثا عن معالم الصورة.الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي»، «كراسات يغشاها صمت زلاغ وبوح باب المحروق»،مخاض حياة: على الجليد، وتحت الرماد»، «من عدوة طنجة العاليا… إلى بحر الصين»،»هكذا كلمني البحر»، «ومن أسمائها الحسنى: طنجة لْعَالْيَا».
سبق للراحل أن بجائزة المغرب للكتاب (صنف الدراسات الأدبية والفنية ) برسم 2008 عن كتابه «الخطاب الصوفي في الأدب المغربي, في عهد السلطان مولاي إسماعيل».


بتاريخ : 17/01/2023