أخلاق الغرب .. التعبير الأسمى عن الحضيض .. ويليام ف. فيليس: السياسة والاستقلالية الأخلاقية 20

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

 

 

كيف يمكننا أن نحافظ على «الاستقلالية الأخلاقية»، علما أن الدول تحتاج إلى حماية مصالحها غير الأخلاقية (مثل السلطة والثروة) أو مصالحها الجزئية الضيقة ( مثل الحفاظ على مجتمع منفصل مستقل)؟
يفترض سميث أن هذا ممكن بدون «تهديد استقلالية الآخرين الأخلاقية». مع أني أكن أشد الاحترام والتقدير لمحاولة سميث في التغلب على معضلات المقاربة الديونطولوجية المحضة، فأنا أخشى نتائجها، إذ حين نعطي الأولوية لـ «السلطة والثروة» فسوف تتراجع جميع الاعتبارات الأخرى، وفي الواقع فإنّ مقاربة سميث هذه تحمل في ثناياها خطر أن لا تصبح حقوق الإنسان/ المبادئ الأخلاقية الديونطولوجية إلاّ مجرد واجهة حتى تسعى الدول وراء «مصالحها القومية» بحسب التعاريف التقليدية لهذه المصالح. فهل تَقدم حقوق الإنسان في نهاية المطاف تُعطي الدول التبرير الأخلاقي كي تستخدم القوة بحسب ما ترتئيه؟ ألا تتحول لغة «حقوق الإنسان» و «الحرب العادلة» في هذه الحالة إلى مجرد مسرحية لا تعني شيئاً على أرض الواقع؟
السياسي شخص صاحب حرفة يحمل معها مسؤولية محددة هي مصلحة مواطني بلاده ورفاهيتهم وسعادتهم. بالطبع فلا مناص من وجود تعارض كبير بين كيفية سير العالم الحقيقي في نفسه وكيف ينبغي للعالم أن يكون، وأثناء تعامل خبراء السياسة الخارجية المحترفين مع العالم الحقيقي «كما هو» فإنّ عليهم أن يُقيّموا ملاءمة قرارات الحكومة بالنسبة إلى أُطرهم الأخلاقية الشخصية، وكذلك إذا كان مسؤول الخدمة الخارجية يعي وجود أفعال مشبوهة أخلاقياً في أقسام أخرى من الحكومة (مثل العمليات السرية والاغتيالات والاتجار غير القانوني بالسلاح وغيرها) فأليس من واجبه الأخلاقي أن يعارض هذه العمليات؟ هل يمكن له أن يحافظ على «استقلاليته الأخلاقية» في هذه الحالة؟
لا يصل أحدنا إلى مساومات أخلاقية لمجرد اشتراكه الشخصي في أعمال يجدها مشكلة أخلاقيات مثل القتل أو التعذيب أو الكذب أو غير ذلك، بل أعتقد أن «الأيدي القذرة» قد تحصل أيضاً إذا لم نقل رأينا أو لم نعارض السياسات المشبوهة أخلاقياً التي تتبعها حكوماتنا. يحمل مسؤولو الخدمة الخارجية مسؤولية محددة للغاية في زمن الحرب، وقد لا يكون هؤلاء المسؤولون في موقع اتخاذ القرارات وقد لا يتحملون هم شخصياً مسؤولية تنفيذ السياسات الحربية، لكن تبقى مهمتهم هي الدفاع عن سياسات الحكومة، ولذلك فإذا تَّوصل أحد هؤلاء المسؤولين إلى قناعة مفادها أنّ المجهود الحربي الذي تقوم به دولته هو أمر خاطئ أخلاقياً فكيف يمكن لهذا الشخص أن يحمي استقلاليته الأخلاقية؟
ليس التخلي عن الحياة المهنية والاستقالة هو أول ما يخطر على بال معظم الناس في هذه الحالة، بل لربما يُقنِعُ أغلبهم نفسه أن حكومته تحتاجه في موقعه وأن الاستقالة ستكون مجرد بادرة عقيمة وضائعة، ولكن برنارد ويليامز (1981: 57) يشير إلى أن الحجة الكلاسيكية حول «العمل من الداخل قد أبقت الكثير من الناس المصابين بالغثيان مربوطين مع مشاريع كثيرة رهيبة ولفترات طويلة لدرجة لافتة للنظر». لكن توكيد «الاستقلالية الأخلاقية» في هذه الحالة قد لا يعني لهؤلاء الناس إلاّ إنهاء حياتهم المهنية وهي خطوة شائكة للغاية.
يقول ويليامز إنّ علينا أن نواجه مستويات مختلفة من المساومات الأخلاقية إذا ما كان لـ «الأخيار» أن «يحكموا العالم كما هو»، وتتطلب السياسات الديموقراطية خصوصاً المساومة بين أطراف فاعلة مختلفة ذات مصالح متضاربة وأولويات متباينة، ولذلك فالتسويات المبنيّة على هذه المساومة لا مناص منها. يمكن للحكومة أن تتحالف مع نظام سياسي حقير بصورة مؤقتة، أو أن تخلف بوعودها، أو أن تضلل أصدقائها وحلفائها إذا تطلَّب الأمر ذلك. قد يجد بعض مسؤولي الخدمة الخارجية هذه التصرفات مثيرة للاشمئزاز وقصيرة النظر وأنها ليست على المدى البعيد في مصلحة الولايات المتحدة إلاّ أنّ هذا الشخص لربما لن يستقيل محتجاً، لأنّه يعلم في دخيلة نفسه أنّ حكم «العالم الحقيقي كما هو في نفسه » يتطلب المساومة الأخلاقية. وأعتقد أن ويليامز محق حين يوضِّح أن «الديموقراطية تحمل ميلاً في فرض التوقعات حتى بالنسبة إلى الوسائل التي تتبعها الدول بما أنّه وتحت النظام الديموقراطي يُفترض أن السياسيين يعملون بالعلاقة مع توقعات ناخبيهم » (المصدر السابق: 58).
في نهاية الأمر تماثل حجج ويليامز تلك التي تقدم بها سميث، إذ يعتقد ويليامز أنّ علينا أن نتمسك بأمل «أن نجد بعض السياسيين الذين يتمسكون بفكرة كون بعض التصرفات ستظل كريهة حتى عندما تكون مبررة سياسياً. إنّ بيت القصيد هنا ليس القول بأنّه من الأفضل لنا أن يكون لدينا سياسيين لا يقلون رحمة في تصرفاتهم عن غيرهم بينما تظل ضمائرهم غير سعيدة بهذا، فالخيش ليس لباساً مناسباً للسياسيين وخاصة الناجحين منهم، ولكن قصدي هنا، وهو أساسي لما أجادل حوله، هو أن أقول فقط إنّ السياسيين المترددين أو غير الراغبين في فعل أشياء منفِّرة أخلاقياً حين يكون الأمر ضرورياً حقاً هم من يرجح ألّ يفعلوا هذه الأشياء حين لا يكون الأمر ضرورياً بالفعل» )المصدر السابق: 662 (.
فإذن قد عدنا هنا إلى نقطة البداية في جدلنا، أي أنّ الغايات الأخلاقية في السياسة تتطلب من الفرد أن يضحي باستقلاليته الأخلاقية، والمشكلة هنا بالطبع أنّ اتباع هذا السبيل في الجدل يفتح مرة أخرى مجالاً واسعاً أمام التفكير العواقبي على حساب حقوق الإنسان، فعلى سبيل المثال يمكن لأحدهم أن يقول إننا إذا توقعنا أن تكون نتيجة حرب استباقية تحرير 25 مليون إنسان مقابل التضحية بحقوق آلاف من الناس) بما في ذلك حقهم في الحياة( فإنّ هذا قد يكون مبرراً «أخلاقياً». لسوء الحظ يعلمنا التاريخ أن الضحايا يجدون أنّه قد تمت التضحية بحقوقهم على أسس فرص خارجية بتدخل ناجح، فمثلاً يوقع معظم الخبراء ألّ تكون فرص النجاح في العراق عالية، ولكن وبناء على هذه الفرص الضئيلة في النجاح تم المضي قدماً في عملية الغزو والاحتلال وتقديمها على أنّها «حرب عادلة» من خلال تبريرات نفعية بالدرجة الأولى.


الكاتب :  إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 19/04/2024