أُنطولوجيا الجسد (21) .. فلسفة الجسد 3/2

وهناك مثال آخر يوضح لنا ما يؤول إليه المخ في حالات تأثره التكويني فمثلاً إذا ما قطعنا الاتصال جراحياً بين فصي المخ الرئيسيين في مكان معين فإن كل فتحة أنف لكل جهة توصل الرائحة لنفس الجهة من المخ فقط وليس إلى الجهة المقابلة، ولأن مركز التكلم يتواجد في الفص الأيسر فإذا ما شم هذا الشخص مادة النعناع مثلاً من الأنف الأيمن فقط فإنه سيتعرف عليه ولكنه لن يستطيع ذكر اسمه حيث الاتصال مقطوع بين حاسة الشم ومركز التحدث ولن يستطيع ذكر كلمة النعناع إلا إذا نقلت هذه المادة إلى فتحة الأنف الأيسر. هذا الانفصال بين الأيسر والأيمن لا يحدث في السمع والبصر لأن هناك خطوط اتصال متقاطعة ومتعددة.
ضمن هذه الشبكات المعلوماتية المتعددة يصعب على الإنسان تصور ما يسمى بالعقل القبلي وإذا ما نظرنا إلى المخ كحراك مادي غاية في الضخامة (مليارات العصبونات المرسلة والمستقبلة للمعلومات) إضافة إلى حراك دموي داخل الشرايين لتغذية هذه الخلايا فإننا نستطيع أن نراقب صراعات المادة ضد المادة فإذا ما انفجر أحد الشرايين في القشرة الرمادية المخية غاب الإنسان عن وعيه وفي حال تأثر مركز النطق بقي الإنسان يفهم ما يحكى له ولكن لا يستطيع التحدث وإذا تضرر مركز التكلم الثاني لن يفهم المريض الأشخاص حوله ولكنه سيتحدث بطلاقة ولكن ليس كلاماً واضحاً مترابطاً بل أحرف غير ذات معنى وأما إذا انفجر شريان آخر في قاع المخ فإن الدم المتدفق سيضغط على مركز القلب ليوقفه عن الحركة.هذا يجبرنا إلى العودة إلى أوائل القرن الثامن عشر حيث أنه في نظري الشخصي قد حصل في ذلك الوقت قمة الصراع الميتافيزيقي المادي بين ممثلي الجهتين «لايبنتس» «لامتري»، حيث تطرف «لايبنتس» حتى وصل إلى نظريته المسماة بـ «المونادولوجي» فاعتبر كل ذرات الجسم هي ذرات روحية أي أنه تجرأ إلى حد روحنة المادة، وعلى العكس منه كان «لامتري» الذي لم يعترف إلا بجوهر المادة وكان يقول إن النفس كلمة باطلة وفي نظره كانت النفس ما هي إلى إشارة إلى العضو الذي يتيح لنا التفكير. وقد أطلق تعبير «الإنسان الآلة» (وليس الجسد الآلة كما أرادها ديكارت) فشيأ كل روح أو «مودها» أي جعلها مادة حتى أن «بليخانوف» قال ذات مرة أن «لامتري» يفزع أكثر الماديين جرأة مع أن «إنجلز» كان أيضاً جريئاً في عصره حين قال ليست المادة نتاجاً للروح بل إن الروح ليست هي ذاتها إلى النتاج الأرقى للمادة.
كان «نيتشه» هو الأكثر وضوحاً بعد «لامتري» في انحيازه للجسم معترفاً به كفاعل وليس متلقياً فقط فيقول: الإيمان بالجسم هو الأشد رسوخاً من الإيمان بالنفس.
هناك عمل كثير ينتظر الجسد لكنه من الضروري لتسهيل الحكم على ما سبق من آراء أن أذكر لكم بعضاً من نتائج الأبحاث المذهلة للنظام العصبوي في الجسد فالثورة العلمية الدماغية في هذا القرن تشبه الثورة الفلكية قبل أربعمائة عام.
الثورة الدماغية العصبونية.
من المنطقي أن يكون البحث عن النفس في ذات المكان الذي نبحث فيه عن العقل وبديهي أيضاً أن يكون مصدر الأمراض العقلية هو العقل، ولذلك يجدر هنا أن نذكر أنه حتى وقت قصير قبل ابقراط «أبو الطب» كان الإنسان يعتقد أن الأمراض العقلية تحدث نتيجة اضطراب عصارات الإنسان الأربعة المفترض وجودها خيالياً دون العلم أين تفرز هذه العصارات.
وكذلك فإن تشخيص الجنون الأول كان يطلق عليه اسم «هيستيريا» وهي الكلمة التي نستخدمها حتى الآن في وصف الإنسان المضطرب عقلياً. والهيستيريا تأتي من كلمة «هيستر» باللغات القديمة ومعناها الرحم، وقد كانوا يظنون أن الرحم يرتفع قليلاً فيسبب الهسترة أو الجنون، وكانوا يعالجونه بأنواع من البخور توضع أمام الأعضاء التناسلية الأنثوية لتجتذب الرحم إلى أسفل أي لإرجاعه إلى مكانه الأصلي.
حتى مكان العقل والتعقل لم يكن معروفاً لدى الإنسان وكان استكشاف «أن الدماغ هو مصدر الفكر» بمثابة تقدم بيولوجي كبير في ذلك الوقت، إلا أن الدماغ بقي عضواً هاماً بلا معرفة تفاصيله وجغرافيته ولغاية القرن الماضي حين كان فرويد يتحدث عن «الهذا» و«الأنا» و«الأنا الأعلى» إضافة إلى الأحلام وعقدة «أوديب» كان ينظر إلى الدماغ نظرة وهمية عامة، ولذلك فقد أسقطت الأبحاث والاكتشافات الجديدة لعمل الدماغ وتفاصيل علاقات مراكزه العديدة كثيراُ من مقولات فرويد.
وتنحى النموذج التحليلي لصالح النموذج البيولوجي في علاج الأمراض العقلية وكان «كريبلين» هو المنادي الأول ببيولوجية الأمراض العقلية إذ كان يشبه ذلك بالتغيرات الفسيولوجية في أعضاء الجسم الأخرى فكان يقول: أنه كما أن شرايين القلب قد تؤدي إلى الجلطة وإن ضعف عضلات القلب قد تضعفه فإن أي تغيرات في خلايا الدماغ ستكون سبباً في أمراضه.
نحن عندما نتحدث هنا عن الأمراض العقلية والتحليل النفسي إنما نتكلم عن النفس التي نحن بصدد دراستها، ولاستيضاح ما إذا كانت مستقلة أو كونها جزءا من الجسم وقبل التعرض لذلك أريد هنا أن أبين أننا اليوم ننظر إلى الدماغ على أنه جهاز عصبوي يتكون من مليارات الخلايا وهذه الخلايا تتصل ببعضها البعض لتكون مراكز متخصصة وهذه المراكز تحتوي على مليارات الأسلاك العصبية المتصلة بعضها ببعض والتي تحتوي على مواد كيميائية موصلة للإشارات العصبية لذلك فإن أي تغيير في صحة هذه المنظومة يؤول إلى خلل في النفس بمعنى آخر إن أغلب التغييرات النفسية تستطيع أن ترجع بها إلى تغييرات فسيولوجية لأنسجة المخ.
اي أننا نعود بالضرورة إلى المفكر المذكور سالفاً «لامتري» الذي قال قبل ثلاثمائة سنة تقريباً أن النفس هي المادة.
أذكر هنا باختصار شديد بعض التغيرات المادية المعروفة لدينا الآن والتي كانت تشكل على مر العصور في مجموعها أغلب الأمراض التي قد يعاني منها الإنسان في هذا العضو الهام الحاوي على الفكر وهو الدماغ .
السفليس

عانى منه كثير من عظماء الأدب والفلسفة والفن في أوروبا منهم من لزم عشرات السنين مستشفيات الأمراض العقلية ومنهم من انتحر بسبب المعاناة الكبيرة.
كان استيعاب التناقض بين انسان نابغة في لحظة ما لينتهي إلى مجنون في اللحظة اللاحقة صعباً على المجتمع، صعوبة الاستيعاب كانت بسبب النظرة الميتافيزيقية للذكاء والجنون أو النظرة المجردة، لم يعد مستغرباً لدينا اليوم أن حاسوباً قادراً على تزويدنا بثوان ببعد المسافة بين المريخ والزهرة أن ينتهي في اليوم التالي إلى النفايات لأنه لم يعد قادراً على حساب 1+1 وذلك لفهمنا المادي لتكوين الحاسوب …
نفس الفهم المادي هو الذي يحل هذا الاستغراب، فالذكاء أحزمة كثيفة سليمة من الخلايا والاشتباكات العصبية مع تغذية معلوماتية كبيرة تتلف حين تتغلغل فيها تلك التريبونوما البكتيرية التي تدخل إلى الشبكة العصبية وتحطمها. إنه ليس ذكياً بوجه عام وتحول الى مجنون بوجه عام بل ذكي تَلفت خلاياه العصبية لأسباب مختلفة فلم يستطع الاحتفاظ بهذا الذكاء.
هذا المرض نفسه يعالج اليوم بحقنة واحدة من البنسلين ليصح المريض خلال أيام معدودة لأن المادة الدوائية تقضي على البكتيريا بدل من ان تقضي البكتيريا على خلاياه العصبية.
النسيان أو الخرف

ذاكرة الماضي تبقى … وذاكرة المستقبل تختفي … كل ما مضى يبقى مسجلاً … وكل ما هو قادم يحكم عليه بالنسيان بعد عدة دقائق.
أحضر شاب إلى قسم جراحة الأعصاب بسبب كثرة التشجنات الكهربائية التي تصيب كل جسده بين حين وآخر وبعد محاولات عدة ويائسة في معالجته قرر الجراح إجراء جراحة لدماغه. أجرى له عملية جراحية واستئصل مركزين للدماغ في الفصين الصدغيين والذي يلقب بفرس البحر، انتهت العملية …. تعافى الرجل …. واختفت التشنجات، لكنه وإن حافظ على ذاكرته القديمة بأكملها إلا أنه فقد القدرة على ان يحافظ في مخزن معلوماته لأي معلومة جديدة.
كل الملفات السابقة بقيت سليمة لكن لا ملفات جديدة في دماغه، رزق بحفيد و أخبر بذلك واحتفل مع العائلة وشرب نخبه وبعد ربع ساعة عندما رأى طفلاً في كوفليته سأل عمن يخص هذا المولود الجديد وصار كلما رآه في المنزل سأل عنه واحتفل بقدومه من جديد لم يكن هذا غضباً إلهياً وليس سكنى لأرواح شريرة وإنما بكل بساطة فقدان أرفف خلايا الأرشيف في فرس البحر المستأصل الذي كان من المفروض أن تستخدم لحفظ ذاكرة حدث قدوم هذا الحفيد الجديد. بينما بقيت ذاكرته السابقة للعملية سليمة فالـ backup للأحداث الماضية متوفرة وتعمل على أكمل وجه، عاش بذاكرة الماضي لكن ذاكرة المستقبل اصبح محروماً منها. النوع الآخر من النسيان هو الألزهايمر وكان الطبيب الذي سمي المرض باسمه صديق فرويد وقد اكتشف أن الأعصاب تزداد تلفاً، في بعض المناطق وأن فرس البحر يضمر رويداً رويداً وأن شرائح من البروتينات تلتصق فوق العصبونات.


الكاتب :  د. ماهر الصراف

  

بتاريخ : 03/08/2021