أُنطولوجيا الجسد (25) : الجسدُ في فِكْرِ نيتشه 3/2

إنَّه يحتقرُ «مُحتقرِي الجسد»، كما نقرأ في هكذا تكلَّمَ زرادشت. وفي الواقع، زرادشتُ هذا هو الشَّارحُ للانحطاط، لازدراءِ الجسد. بالنِّسبة إلى نيتشه فإنَّ النَّظريَّات الرُّوحانيَّة للماورائيَّاتِ الكلاسِّيكيَّةِ والتَّاريخيَّة لا تفعلُ سوى أنَّها تشوِّهُ وتتجاهلُ ما هو الإنسان. فمفهومُها عن «الوجود» لا ينسجمُ مع ما هو إنسانيٌّ حقَّاً. وهو يريدُ قطعَ كلِّ صلةٍ بهذا التَّشويه. في نقيض المسيح (شذرة 51) قالَ عن المسيحيَّةِ ما يلي: «إنَّ لدينا الحقَّ في أن نحتقرَ ديانةً تعلِّمُنا ازدراءَ الجسد […]، ديانةً أقنعَتْ نفسَها بأنَّه بإمكان المرء أن يحمل «روحاً كاملةً» داخلَ جسدٍ أشبه بالجثَّة». إنَّ المهتدين، والمؤمنين، والمتديِّنين، كلَّهم مرضى.
بالنِّسبة إلى نيتشه، القداسةُ «ليست في حدِّ ذاتها سوى دلالةٍ على جسدٍ عاجزٍ، ومرهَق الأعصاب، وعلى درجةٍ من التَّلَف تستعصي على الشِّفاء». وهو يصف المسيحيَّة بأنَّها ديانةٌ قائمةٌ على «ضغينةِ المرضى، والغريزةِ الموجَّهَةِ ضدَّ المعافين، ضدَّ العافية».
فهؤلاء «مفتونون بالعالَم الآخر»: إنَّهم مرضى ومُحتضَرون بتأسيسهم لازدراء الجسد، بابتكارهم عوالمَ ما وراءَ دنيويَّة، وأشباحَ، وأشياءَ سماويَّةً، مثلَ سقراط في غسق الأوثان. ينتقدُ نيتشه بكلماتِ زرادشت انتقاداً شرِساً هذا الفهمَ الخاطئَ وهذا النُّكران للجسد؛ ويسمِّي أولئك الأشخاص الذين يفكِّرون وينشرون مثل تلك الأفكار عن الجسد بـ «المفتونين بالعالَم الآخر». فالدِّيانات، والمعتقداتُ بوجود الله إنَّما هي فلسفاتُ موتٍ. في حين يقترحُ نيتشه فلسفةَ حياةٍ، يقترحُ الحُبَّ وبهجةَ العيش. حياةٍ تبدأ من الموت، ضدَّ حياةٍ تبدأ من نفسِها. إنَّهم موتى أحياءٌ، يحيَون لأجل الموت، ولذلك يريدون «الخروجَ» من جسدِهم، والتَّحرُّرَ منه، بطرُقٍ ملتوية. يحسبُ هؤلاء المرضى أنَّهم إنَّما يتحرَّرون من أجسادهم، ولكنَّهم مرتبطون بها ارتباطاً وثيقاً، وهم شاؤوا أم أبوا يستخدمون الجسدَ والأرضَ لإنتاجاتهم الوُهاميَّة. إنَّهم غارقون في المادَّة ومثقَلون بها ويشكِّلون خطراً حقيقيَّاً على البشر بإعطائهم الوهمَ بأنَّ «الحياة موجودةٌ في مكانٍ آخر»، بعيدةٌ، ومنفصلةٌ عن الجسد، وخاليةٌ منه.
في «عن الفضيلةِ الواهبةِ»(3) (فقرة 2) يدعو نيتشه البشرَ إلى إعادةِ فضائلهم إلى الأرض، كي تمنحَ الأرضَ معناها، ويطرحُ شراكةً بين الجسد والحياة: لا توجدُ حياةٌ بدون فضيلة، بدون الرُّوح، والعكس بالعكس. الرُّوحُ التي يضعُها البشرُ خارجَ الأرضِ وخارجَ الجسد هي «لا- معنى»، وهنا مكمَنُ ما أطلق عليه نيتشه «الفرصة العظيمة». هذا يُفضي بنا إلى الاستعارة المجازيَّة للمرض والطَّبيب كموضوعٍ رئيسٍ في الدِّفاع عن الجسد. الرُّوحُ من دون جسدٍ هي روحٌ تحولُ دون الحياة: الرُّوح تحتاجُ إلى جسدٍ لكي ترتبط بأرواحٍ أخرى؛ والجسدُ من دون روحٍ هو جسدٌ بلا معنى، جثَّةٌ. إنَّه ليس «Leib»، وإنَّما «Körper»(4) فحسب. جسدٌ من دون روحٍ، عند نيتشه، هو جسدٌ من دون حياة، جسمٌ خاملٌ. إنَّ مُنكِري الجسد يغتالون الحياة. في هذا هو الإنسان («لِمَ أنا قدَرٌ»)، سيأتي نيتشه أيضاً ليكتبَ أنَّ المسيحيَّةَ هي «الإجرامُ بامتيازٍ؛ الإجرامُ في حقِّ الحياة». فالمسيحيَّةُ اخترعَتِ الرُّوحَ والنَّفْسَ، من أجل «سحقِ الجسد»، و»جعلِهِ مريضاً». من هنا كان قمعُ الجنسانيَّةِ في المسيحيَّة، والنَّظرُ إلى الحبِّ الجسديِّ على أنَّه شيءٌ دَنِس.

«إرادةُ القوَّة» والعلاقةُ
مع الجسد

يشكِّلُ مفهومُ «إرادة القوَّة» أحدَ المفاهيم الأساسيَّة في فِكر نيتشه، فهو أداةٌ لوصف العالَم، ولتأويل الظَّواهر البشريَّة كميادين الأخلاق والفنِّ، ولإعادة تقييمٍ للوجود تتوخَّى الحالةَ المستقبليَّةَ للبشريَّة، حالةَ الإنسان المتفوِّق. وهذا هو السَّبب في أنَّه يُستخدَم في كثيرٍ من الأحيان لتوضيح مُجمَلِ فلسفتِه. يجعلُ هايدغر من إرادةِ القوَّة (كما من العَود الأبديِّ) المفهومَ الأساسيَّ لـِ «ميتافيزيقيا نيتشويَّةٍ» تحملُ الميتافيزيقيا الغربيَّةَ إلى الكمال. يحاولُ نيتشه، عبرَ ابتكاره هذا المفهوم، اقتراحَ تفسيرٍ للحقيقةِ بالإجمال. بناءً على هذه الفكرة، تشيرُ إرادةُ القوَّة إلى حاجةٍ داخليَّةٍ لإنماء القوَّة، إلى ناموسٍ باطنيٍّ للإرادة المعبَّرِ عنها بعبارة «أن تكون أبعدَ من ذلك»: هذه الحاجة تقدِّمُ مِن ثمَّ لإرادة القوَّة تخييراً بين أمرين، إمَّا الذَّهاب أبعد وإمَّا الفناء. إنَّ إرادة القوَّة لا تؤسِّسُ الهويَّةَ أو الأحَديَّة، وإنَّما تقعُ في ما هو أبعد؛ إنَّها توتُّرٌ نحوَ الإنسان المتفوِّق. «الاسمُ الدَّقيقُ لهذه الحقيقة هو إرادة القوَّة، كما هو محدَّدٌ في بنيتها الدَّاخليَّة، وليس انطلاقاً من طبيعتها المراوِغةِ والهاربةِ والمائعة» (ما وراء الخير والشَّرِّ، «36»).
حيال هذا المفهوم، يجب علينا أن نفرضَ قوَّتَه، واستعلاءَه، وتجاوزَهُ الحدودَ، وتخطِّيَهُ للمقاومة، بغضِّ النَّظر عن الوسيط (الجسديِّ والعقليِّ). «لا يمكن أن تتجلَّى إرادة القوَّة إلَّا من خلال علاقتها بالمقاومة؛ إنَّها تبحث عمَّا يقاومها». (شذراتٌ منشورةٌ بعد وفاته). إنَّ فكرة «القوَّة» جوهريَّةٌ لهذا المفهوم، لأنَّه مبنيٌّ على انتصاراتٍ ضدَّ مقاومات. في الشَّذرات المنشورةِ بعد وفاته (1884-1885)، يحوك نيتشه ضرباً من حكايةٍ خرافيَّةٍ، حكايةٍ رمزيَّةٍ لإرادة القوَّة داخلَ الجسد، لكي يشرح آليَّةَ عمل التَّكوين الجسديِّ. وهو لا يقصد بذلك الجسدَ كما هو موصوفٌ تقليديَّاً وعلميَّاً.


الكاتب : n بينيتو مارينو n ترجمة: أمارجي

  

بتاريخ : 09/08/2021