أُنطولوجيا الجسد (38) المدنّس والمقدّس: في المفهوم الفلسفي للجسد 4

 

لكنّ الوعي بالنسبة له لا يعدو أن يكون مُجرّد وسيلة في سلطة الجسد وأداة لخدمته، إذ يرى أنّ: “الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير، يمكن خلق أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذا، حكيم مجهول يسكنك، إنه جسدك”(12). إنّ الفكر بالنسبة لنيتشه مستسلم للغريزة وهي أقوى من الفكر وهي المتحكّمة فيه. هذا الموقف يبيّن بأنّ فلسفته تقابل جذريا الإرث الفلسفي اليوناني الذي آمن بالعقل إيمانا وثنيا واستحضر الوعي كمصدر أعظم بينما استخفّ بالجسد وامتنع عن اكتشاف مكنوناته وأسراره. قطع نيتشه كذلك مع الفلسفة الديكارتيّة الحديثة التي حقّرت بدورها الجسد وحافظت على المنظور الفلسفي اليوناني القائم على الفصل والإقصاء. يقول نيتشه: ” فيما مضى كانت الروح تنظر إلى الجسد باحتقار لا نظير له كانت تريده نحيفا وجائعا، وكانت تظن أنها بذلك ستتخلص منه ومن الأرض”(13). عزلت الفلسفة اليونانية فكرة اعتبار الجسد مادّة للدرس والبحث وظلّ بمثابة الوحدة المغلقة والمهمّشة، بينما يراه نيتشه وحدة حيّة، متحرّكة، مفكّرة ومنتجة وهو مجموعة الإحساسات التي تسري فيه وتصيّره إلى وحدة قابلة للانفعال والتأويل والتطوير.
لقد تباحث في مفهوم الجسد عديد الفلاسفة على مرّ العصور واختلفت وجهات النظر حسب المنطلقات المادية والميتافيزيقية، كما قدّمت العلوم الإنسانية تصوّرا لإشكالية الجسد، فنظّر له فرويد في دراسات التحليل النفسي واعتبره مصدرا حيّا للطاقة المغذية للدوافع والنزوات رابطا بين البيولوجي والنفسي، بينما قدّم جيل دولوز تصوّرا فيه الكثير من التعبيرية واللغة النابعة من جسد يضجّ بالحركة والاحساسات، وهو يقول في وصفه للحركات التي يومئ بها الجسد أنّها في الحقيقة نابعة من الداخل، من إحساساتنا: “إن كانت الحركات تتكلّم، فذلك راجع قبل كل شيء إلى كون الكلمات تحاكي الحركات، إنّه يوجد تمثيل إيمائي داخل اللغة، كما يوجد حديث ورواية داخل الجسد.”(14) حيث بدأنا نفكّر بانفعالاتنا، أي أن المحسوس هو الذي يفكّر وأنّ الحواس التابعة للجسد هي التي تفكّر والمحسوس هنا يجمع الانفعالات، الإحساسات، المشاعر، الأحزان، الآلام، الأحلام، الآمال أي كل الأشياء التي تخترقنا من الداخل بوصفنا كتلة من الإحساسات التي هي الجسد. في حين، أبرزه ميشال فوكو في سياسات الأنظمة الدولية والاقتصادية كأنموذج مثالي للتسويق والاستثمار وتطويعه حسب الحاجة المادية والأغراض السلطوية وقدّره مرلوبونتي على أنّه الكيان الحسّي الفاعل بوصفه حاملا للحواس القادرة على إدراك الطبيعة والأشياء، وهو يرى أنّ حقيقة العالم ومستوى ادراكنا له لا يمكن أن يكون إلاّ عن طريق الادراك الحسّي، ليضرب عرض الحائط أطروحات الفلسفة اليونانية والديكارتية على حدّ سواء.
لقد بقي هذا المخلوق الحيوي، المتناسل والمتكاثر، المحافظ على استمرار النوع البشري، مادة متحرّكة مفكّرة، تطرح وتجيب على عديد تساؤلات الفلاسفة والعلماء، وباستمرار الانسان على الأرض، يستمر البحث حول ماهيّة الجسد إلى آفاق غير محدودة تتجاذبها البحوث الفلسفية والعلمية على امتداد التاريخ البشري.

الإحالات:

1.محمد رسول (رسول)، “جسديات الأشياء، رؤية جمالية”، مؤانسات في الجماليات، نظريات، تجارب، رهانات، تأليف مجموعة من الباحثين والأكاديميين العرب، اشراف د. ام الزين بنشيخة المسكيني، 2015، صفحة عدد 506، سطر عدد 4.
2.العلوي (هشام)، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، صفحة عدد 47.
3.نفس المصدر، صفحة عدد 47.
4.بيدوح (سمية)، فلسفة الجسد، التنوير للطباعة والنشر، 2009، صفحة عدد 13، سطر عدد 7.
5.نفس المصدر، صفحة عدد 6، سطر عدد 6.
6.مصطفى (عادل)، بوبر (كارل)، مائة عام من التنوير ونضرة العقل، دار النهضة العربية، ط: 01 بيروت 2002، ص 94.
7.العلوي (هشام)، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، ص 48. (مصدر سابق)
8.بيدوح (سمية)، فلسفة الجسد، التنوير للطباعة والنشر، 2009، صفحة عدد 22، سطر عدد 13. (مصدر سابق)
9 .« Considérons ce corps comme une machine ” qui ; ayant été fait des mains de Dieu, est incomparablement mieux ordonnée, et a ensoi des mouvements plus admirable, q u aucune de celles qui peuvent être inventées par les hommes ».
Descartes(r), discoure de la méthode, cinquième partie, librairie philosophique j. Varin, paris, 1 1992, p 120.
10 .«L’Âme et le Corps sont une seule et même chose qui est conçue tantôt sous l’attribut de la Pensée, tantôt sous celui de l’Étendue. » Baruch Spinoza
“Éthique” (1677), III, « De l’origine et de la nature des affects », scolie de la proposition 2, trad. C. Appuhn, 1913.
11.نيتشه (فريديريك)، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، 2007، صفحة عدد 75، سطر عدد1.
12.Nietzche, La volonté de puissance, Tome 1, Livre II, p226.
13. نيتشه (فريدريك)، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، 2006، ص 14..
14.سعيد (جلال الدين)، فلسفة الجسد، دار أمية للنشر 1992. صفحة عدد 85.


الكاتب :   أمل الهاني

  

بتاريخ : 26/08/2021