الأثر النقدي والاستباقي للفلسفة

درس الفلسفة بالمؤسسة

الفلسفة المقصودة هنا هي المضامين المعرفية التي يتكون منها المنهاج الدراسي الذي تعده وزارة التربية الوطنية وتسهر على تنفيذه وإنجازه والذي يتلقاه التلاميذ والتلميذات على مدى ثلاث سنوات من التعليم الثانوي التأهيلي، والذي يتوج بامتحان إشهادي وطني هو البكالوريا يسمح بولوج التعليم العالي في مختلف المعاهد والمدارس العليا والكليات. أما المؤسسة المعنية فتحيل، ليس فقط على الفضاء المكاني الذي يحتضن عمل التعليم والتعلم، وإنما أيضا على الإطار المؤسساتي الذي ينظم إعداد وانتقاء محتوى المنهاج الدراسي لمادة الفلسفة وبرمجة تدريسها داخل مؤسسات التعليم الثانوي التأهيلي. مم يتكون درس الفلسفة اليوم؟ هل محتواه واحد أم متعدد وما دلالة ذلك؟ وقبل ذلك ما دلالة التضييق الذي تعيشه الفلسفة داخل المؤسسة؟
تضييق على الفلسفة
أم على التنوير؟

من المعلوم أن التضييق الممارس على الفلسفة داخل المؤسسة، المتواصل منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، والذي انتهى إلى تأسيس شعبة الدراسات الإسلامية كبديل غير معلن لشعبة الفلسفة في الجامعة المغربية، يندرج ضمن ظروف تميزت بنوع من ازدهار الخطاب الفلسفي التنويري في الحقل الثقافي المغربي كما تدل على ذلك غزارة الكتابات ذات الطابع الفلسفي في الملاحق الثقافية للصحف الوطنية وفي المجلات المختلفة التي رأت النور في تلك الفترة. يلبس التضييق على الفلسفة داخل المؤسسة لبوسا مختلفة لكنه يتوخى نفس الغاية: التشكيك في قيمتها كمادة دراسية وفي جدواها في الحياة.

درس الفلسفة: كل شيء
أم لاشيء؟

ماذا يدرس التلميذ في درس الفلسفة بالتعليم الثانوي اليوم؟ يمكن القول إنه يدرس كل شيء في درس واحد. هذا الكل هو عبارة عن شيء من كل شيء: شيء من فلسفة العلوم أو من ابستمولوجيا الرياضيات وابستمولوجيا الفيزياء والبيولوجيا، شيء من علم الاقتصاد، شيء من علم الاجتماع والأنتروبولوجيا وشيء من التحليل النفسي. بعبارة واحدة: كل شيء. لكن هل معنى هذا أن التلميذ يدرس كل شيء ولا شيء في نفس الوقت؟ الجواب على الفور هو: لا طبعا. إن ما يدرسه التلميذ عندنا اليوم في ظل المنهاج الدراسي الحالي لمادة الفلسفة هو بالمناسبة ما بدأت فرنسا في تدريسه قبلنا منذ زمن غير يسير، مع الفوارق بطبيعة الحال بين النظامين التعليميين للبلدين. إن هذا “الكل” الذي يتم تدريسه في إطار الدرس الفلسفي هو، في نظر “ميشيل سير” هو نوع من “موسوعة في الحد الأدنى” أو “الحد الأدنى من الموسوعة” Encyclopédie minimale. بعبارة أخرى، إن درسا بهذا التنوع المعرفي هو “مكان” تلتقي فيه مختلف المعارف والعقلانيات وطرق ومداخل التفكير من أجل الحوار والتبادل. لكن ليس كما كان الحال في الماضي البعيد. فقديما كان ينظر للفلسفة باعتبارها ملكة العلوم والواقع أنه لم تعد هناك ملكة منذ مدة طويلة. أما ما ينتج عن هذا اللقاء/الالتقاء من أجل الحوار والتبادل بل والتصادم أيضا فهو الأثر النقدي. لذلك تعتبر الفلسفة نقدية. فالنقد الملازم للفلسفة لا يصدر عن فراغ وليس بغير ذي موضوع، بل الفلسفة نقدية لأنها ملتقى المعارف والعقلانيات وأنماط التفكير المختلفة، ولأن النقد هو الأثر الناتج عن هذا اللقاء/الالتقاء. لقد صدق سقراط عندما اعتبر الفلسفة، في هذا السياق، محلية (بضم الميم وتشديد اللام مع الكسر) Entremetteuse
غير أن العائق الأكبر المنتصب أمام الدرس الفلسفي اليوم، في ظل واقع حال المنهاج الدراسي لمادة الفلسفة بالتعليم الثانوي، هو الغلاف الزمني المحدود المتاح لإنجاز البرنامج المقرر. ذلك، لأنه لكي يكون درس الفلسفة فعلا مكانا للتلاقي لمختلف المعارف والعقلانيات وأنماط التفكير المختلفة، من أجل الحوار والتبادل، على نحو يترتب عنه الأثر النقدي المطلوب والمرغوب، فإن ذلك يفترض ويتطلب أن يمتد هذا الدرس الامتداد الكافي في الزمن بتوفر حجم معقول من الحصص والساعات أسبوعيا. إن انتظار إنتاج الأثر النقدي المطلوب في درس الفلسفة، في ظل منهاج دراسي يتضمن حجما من الساعات الأسبوعية، يتراوح بين حصة/ساعة واحدة وأربع حصص/ساعات أسبوعية، حسب المعاملات والمسالك الدراسية، كما هو الحال اليوم، هو بمثابة محاولة القبض على السراب.
علاوة على الأثر النقدي، تنتج الفلسفة أيضا أثرا استباقيا، فخلافا لاعتقاد سائد مفاده أن الفلسفة تأتي دائما متأخرة، فإن الأصح هو أنها دائما في المقدمة وفي الطليعة. لقد كان الفلاسفة سابقين علوم زمانهم. إن “ميشيل سير” نفسه المتوفى في 2019 قد استبق وتوقع حدوث جائحة كورونا التي استفحلت في كل العالم بداية من مارس 2020. لقد تفطن “ميشيل سير”، صاحب كتاب “زمن الأزمات”، إلى أن الحركية البشرية المكثفة في العالم تؤدي لا محالة إلى تشكلات ميكروبية متجددة، تؤثر على الصحة الإنسانية لما ينتج عنها من وضعيات صحية غير متوقعة يصعب تدبيرها والتحكم فيها. وهذا ما حدث بالفعل بحلول فيروس كورونا المستجد المسمى كوفيد 19 بين ظهرانينا بتحولاته المتعددة المتناسلة إلى اليوم.كما أن أكبر اكتشاف علمي في الفترة المعاصرة المتعلق بالبنية اللولبية ل ADN قد تم على يد مكتشف ذي تكوين فلسفي.
الجدوى من الفلسفة

لا يتوقف النقاش، إذا بدأ،حول معيار الجدوى، سواء تعلق الأمر بالفلسفة أو بأي شيء آخر، بما في ذلك الرياضيات. فهي الأخرى لم تعدم من يجادل في جدواها بسبب طابعها المجرد. غير أن ما هو واضح هو قوة الأثر النقدي للفلسفة وقدرتها على الاستباق وتوقع المعارف وتطبيقاتها في المستقبل. من ثمة فإن تدمير الفلسفة أو إقصاءها يعني تدمير وإقصاء المعارف وتطبيقاتها في المستقبل. ثم إن التشكيك في قيمة الفلسفة بحجة الجدوى L’utilité التي يصدر عنها السؤال المغرض: à quoi sert la philosophie أو ما فائدة الفلسفة؟ أو لأي شيء تصلح الفلسفة؟ لا ينبغي أن ينسينا أن فعل servir يتضمن معنيين مختلفين: مصلحة service وعبودية servitude. فأن تكون الفلسفة “صالحة” و”مجدية” هل معناه أن تكون قابلة للاستعمال شأنها شأن أي شيء أو أداة؟ أو معناه أن تكون خاضعة وخادمة لإملاءات من خارجها؟ إن ما هو واضح أن سؤال/حجة الجدوى في حالة الفلسفة الغرض منه التشكيك في وجودها تمهيدا لمحوها من الخريطة المدرسية. والغريب أنه تشكيك يستند إلى الفلسفة نفسها أي أنه ينشأ داخل الفلسفة ذاتها. فهل يعني هذا أن الفلسفة شاهدة على لا جدواها؟ الجواب هو أن هذا يدل، خلاف ذلك، على ضرورة الفلسفة وقيمتها. فهل يعقل إعدام الحرية باسم الحرية؟

الفلسفة والذاكرة

يصور الكاتب الإنجليزي “جورج أورويل” في روايته “1984”، في ضرب من “الديستوبيا” Dystopie حياة رغيدة في مجتمع منظم تنظيما محكما لكنه يعيش بشرخ في الذاكرة. أو لنقل إن سعادته مشروطة بذلك الشرخ. لكن ما معنى العيش بدون ذاكرة؟ معناه ألا نتذكر فظاعات التاريخ مثل أعمال هتلر أو مأساة هيروشيما. وبما أن الفلسفة تقول تاريخها، تاريخ الأفكار والتاريخ العام أيضا، فإن إلغاء الفلسفة يؤدي حتما إلى إحداث ثقب في الذاكرة البشرية وهذا أمر خطير جدا. لماذا؟ إن إلغاء الفلسفة يؤدي إلى إعداد الحياة داخل مجتمع يعاني من ثقب في الذاكرة، وفي هذه الحالة فإن فظاعات الماضي تصير منسية وبالتالي قابلة للعودة مجددا وهنا مكمن الخطورة.

(* ) كاتب، باحث في التربية والفلسفة
مفتش فلسفة متقاعد


الكاتب : علي بلجراف (*)

  

بتاريخ : 18/11/2021