الإنجيل برواية القرآن: 40 : الإنجيل برواية القرآن الطبيعة الفائقة لعيسى

يعتبر المفكر والباحث السوري فراس السواح من أوائل المغامرين المشرقيين الذين أبحروا في غياهب منتجات العقل الإنساني من حكمة ودين وميثولوجيا، محفزًا بكتاباته عقول كل من رافقه في رحلاته الروحية و المعرفية الممتعة في تاريخ الدين والأسطورة والآثار للبحث عن إجابات للأسئلة المفتوحة التي لا تنضب في مؤلفاته.
يعمل السواح حاليًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، عضو في الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب وعضو في اتحاد الكتاب في سورية.
ما طرحه السواح في أبحاثه هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي لكنه في المقابل، عوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير لذلك سعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية، لهذا لم يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة إذ كان يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني، ذلك أن الأساطير، حسبما يقول «هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتاليًا فهي المنبت الأول للنصّ الديني».
فلا يكمن التميز في السرد التاريخي، بل في التحليل وتوضيح الطبيعة العلائقية بين الأحداث التاريخية والأدب والأديان وتأثيرها القوي على ما آلت إليه الأمور في عصرنا هذا.
فما يجب أن يفعله المؤرخ، فهو ليس مجرد حافظ للأحداث، بل عليه أن يعرف القصة التي خلف القصة لأن لا شيء يأتي من فراغ، وكل حدث يوجد ما مهد لوقوعه وما نتج عن وقوعه، وربما تكون القصة محض خيال، ولكنها أحدثت تغييرات عميقة وخطيرة، ليست مبنية على أساس واقعي.

 

2 – روح الله:

لا يوجد معنى واحد في القرآن الكريم لكلمة “روح”، وإنما تتخذ معناها من الكلمة أو الضمير المضاف إليها، ومن سياق النص. وسوف نوضّح فيما يلي المعاني المتعددة للكلمة.

{{ أ -}} الروح القُدُس – جبريل:

عندما تضاف كلمة “الروح” إلى “القدس”، فإنّ تعبير الروح القدس يعني الملاك جبرائيل ناقل الوحي الإلهي إلى محمد (ص) وإلى الأنبياء. والدليل على ذلك قوله:
–“قل نزّله (أي القرآن) روح القدس من ربك بالحق، ليُثبّت الذين آمنوا” (16 النحل : 102).
–“نزل به الروح الأمين على قلبك، لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.” (26 الشعراء: 93)
–“قل من كان عدوّاً لجبريل، فإنّه نزّله على قلبك بإذن لله، مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين” (2 البقرة : 97).
–“وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات، وأيّدناه بروح القدس” (2 البقرة : 87).
–“إذ قال لله يا عيسى ابن مريم، اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذا أيدتك بروح القدس” (5 المائدة : 110).
والروح القدس هذا، أي جبريل، هو المقصود أيضاً في الآيات التالية التي ترد فيها كلمة “الروح” غير مضافة إلى “القدس”:
–“إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنـزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر” (97 القدر : 1-5).
–“تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” (70 المعارج : 4).
–“يوم يقوم الروح والملائكة صفاً، لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً” (78 النبأ : 38) .
{{ب-}} وتأتي كلمة “الروح” بمعنى الوحي الملقى في قلب النبي دون واسطة، وأيضاً بمعنى الوحي الذي تأتي به الملائكة. والمعنى الأول هو المقصود من قـوله:
–” يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ ” (40 غافر: 15).
–“وما كان لبشر أن يكلمه لله إلا وحياً، أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه” ثم يقول: “وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان” (42 الشورى : 51 _52)
والمعنى الثاني، أي الوحي بواسطة رسول هو المقصود في قوله:
–“ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.” (16 النحل:2).
{{ج-}} فإذا أضيفت كلمة “الروح” إلى الضمائر المتصلة لتصبح: روحي، روحه، روحنا؛ فإن المقصود بها هو “روح لله” وكذلك تعبير “وروح منه” الذي يعني روح لله، أي قوة لله الفاعلة في العالم. وقد كانت هذه الروح فاعلة عندما جرى خلق آدم:
–“وبدأ خلقُ الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه” (32 السجدة : 9).
–“وإذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” (15 الحجر: 28 _ 29).
كما كانت روح لله فاعلة بنفس الطريقة بخصوص خلق عيسى، ذلك أن كلاً من آدم وعيسى قد خلق من روح لله مباشرة، وعيسى بشكل ما هو آدم الثاني. والآيات التالية تستحضر في الذهن قول الملاك لمريم عندما جاءها بالبشارة في إنجيل لوقا: “الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن لله” (لوقا 1 : 35). وكذلك قول الملاك ليوسف: “يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس” (متى 1 : 20):
–“ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا. وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين” (66 التحريم: 12)
–“والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين” (21 الأنبياء: 91)
–” إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول لله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه” (4 النساء: 171)
وعلى عكس ما جاء به كلّ مفسري القرآن الكريم بخصوص طبيعة “الروح” في هذه الآيات. حيث رجّحوا أنه جبريل – الروح القدس، فإنّ المقصود هنا هو “روح لله” الذي حدّث عنه تعالى في سياق آخر عندما قال: “لا تيئسوا من روح لله، إنه لا ييئس من روح لله إلا القوم الكافرون” (12 يوسف : 87). والسياق اللغوي، كما البنية النحوية التي وردت فيها كلمة الروح، واضحة كل الوضوح وهي تشير إلى “روح لله” لا إلى “روح من عند لله” أي جبريل. والشيء نفسه ينطبق على قوله تعالى في مشهد بشارة مريم:
–“فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً” (19 مريم : 15 _ 19) .
فالكائن النورانيّ الذي ظهر لمريم ليس أحداً من الملائكة، بل هو روح لله نفسه، أي حضور لله القادر الفعّال في العالم المخلوق، وقد اتّخذ هنا هيئة بشرية ليكون قادراً على التواصل مع مريم. فروح لله هو الوسيط بين عالم الألوهة الخافي وعالم الإنسان والظواهر الطبيعانية، ومن خلال هذا الروح خلق العالم ويعمل على حفظه وتسييره.
إنّ روح عيسى، وفق ما تفيدنا هذه الآيات، هي قبس من روح لله. وهنالك نوع من علاقة الأبوة والبنوة بينهما، ولكنها ليست علاقة بيولوجية فالله “لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد”. ولقد اشتعلت روح عيسى من روح لله كما تُشعل شمعة من أخرى، لا كما يلد كائن حيّ كائناً آخر.

{{3 – كلمة الله:}}

يدعى عيسى في الكتاب بكلمة لله، أو كلمة من لله، في المواضع التالية:
–“إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول لله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه” (4 النساء : 171)
–“إذ قالت الملائكة: يا مريم إن لله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين” (3 آل عمران: 45)
–“(يا زكريا) إن لله يبشرك بيحيى، مصدقاً بكلمة من لله(1)، وسيداً وحصوراً، ونبياً من الصالحين” (3 آل عمران : 39)
–“ذلك عيسى ابن مريم قولُ الحق(2) الذي فيه يمترون” (19 مريم: 34)

{{الهوامش:}}

(1) وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أن جملة “مصدقاً بكلمة من لله تعني هنا مصدقاً بعيسى المسيح، على اعتبار أن بعثة يحيى قد سبقت بعثة عيسى، وأنه مهّد له الطريق وأعلن عن قدومه.
(2) وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أن كلمة “قول” يمكن أن تشكل بالفتح، ويكون المعنى “أقول قولَ الحق. ويمكن أن تشكل بالضم ويكون المعنى أن، عيسى هو قولُ الحق، أي كلمة لله.
وقد ذهب المفسرون في معنى “كلمة لله” مذاهب شتى، ولكن أكثرهم قال إنّ عيسى سُمّي بكلمة لله، لأنه وُجد بكلمة لله التي هي “كن”. وقال البعض أنّ لله سمّاه “كلمة” من حيث أنّ ذكره قد ورد في توراة موسى وغيرها من كتب لله التي بشرت سابقاً بظهوره. فهو الإنسان الذي تكلم لله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنـزلة.
أما في العهد الجديد فقد ورد ذكر “الكلمة” ثلاث مرات، وذلك في رسالة يوحنا الأولى حيث نقرأ: “ذاك الذي كان منذ البدء… ذاك الذي لمسته يدانا من كلمة الحياة… التي كانت عند الآب فتراءت لنا… إلخ” (رسالة يوحنا الأولى1 :1) وفي سفر الرؤيا: “ورأيت السماء قد انفتحت، وإذا فرس أبيض يدعى الذي ركب عليه الأمين الصادق… واسمه كلمة لله” (19 : 13) أما في مقدمة إنجيل يوحنا التي أسّست للاهوت الكلمة فنقرأ: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى لله، والكلمة هو لله. كان منذ البدء لدى لله. به كان كل شيء، وبغيره ما كان شيء… والكلمة صار جسداً فسكن بيننا، فرأينا مجده، مجد الابن الواحد الذي أتى من لدُن الآب” (يوحنا 1 : 1 – 14). وفي سفر يوحنا المنحول، وهو من الأدبيات المسيحية، الغنوصية، وردت “الكلمة” بين ألقاب يسوع: ” المجد لك أيها الكلمة، المجد لك أيها النعمة، المجد لك أيها الروح…”
إن مفهوم الكلمة في العهد الجديد، يقوم على مفهوم “اللوغوس” الأفلاطوني الذي قال به فيلو الاسكندري اليهوديّ، عندما اعتبر أنّ اللوغوس هو “العقل” الذي فاض عن لله وصار وسيطاً بين لله وما سواه، وبه خلق لله العالم. وفيلو هنا إنما يطور مفهوم “الحكمة” في العهد القديم. نقرأ في سفر الأمثال: “أنا الحكمة، أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير… الربّ قناني (أو حازني) أوّل طريقه من قَبْل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مَسحتُ منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذا لم يكن غمرٌ أُبدئتُ، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقرّرت الجبال، قبل التلال أُبدئتُ… لما ثَبّت السماوات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر… كنت عنده صانعاً، وكنت كل يوم لذته، فرحة دائماً قُدامه” (الأمثال 8 : 2 و 22 و 30).
في القرآن الكريم تتخذ كلمة لله معنى مشابهاً لمعنى “الكلمة” عند يوحنا ولمعنى “الحكمة” في العهد القديم، فهي الوسيط بينه وبين العالم، وهي وسيلة الخلق. وبذلك يتطابق في القرآن، وعلى عكس العهد الجديد، مفهوم الكلمة مع مفهوم “روح لله”. ولا أدل على ذلك من مقارنة الموضعين التاليين في الكتاب، حيث يجري استخدام تعبير روح لله وكلمة لله “كن”، بشكل تبادلي:
–“وبدأ خلقُ الإنسان من طين… ثم سواه ونفخ فيه من روحه (32 السجدة : 9)
–“إن مثل عيسى عند لله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون” (3 آل عمران: 59).

{{ نتيجة:}}

إن خلاصة الموضوع فيما يتعلق بالطبيعة الفائقة لعيسى في القرآن الكريم، هي أن الرواية القرآنية قد رفعت عيسى إلى نفس المرتبة العالية التي رفعته إليها أسفار العهد الجديد. ولكن المنظور اللاهوتي في كلا النصين لم يرفعه إلى مستوى الألوهية الذي أوصلته إليها قرارات المجامع الكنسية.
وهذا ما يحيلنا إلى مسألة الجدل اللاهوتي الذي أقامه القرآن مع العقائد المسيحية بخصوص مسألة “ابن لله” ومسألة “التثليث”.


الكاتب : فرس السواح

  

بتاريخ : 21/06/2021